الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حكماء الفراعين وشبيبة المصريين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
شرعت فى الكتابة عن تلك الحوارات المتخيلة بين الشباب والشبان، وأرتأيت أن أبدأ بفلاسفة الفراعين – باعتبارهم المنبت التليد والمؤسس الحقيقى لأخلاقيات العقل الجمعى المصرى – فمن أقوالهم خرجت الأمثال والعظات التى دعمت العوائد والأعراف والتى شب عليها النشء. 
فإذا بقلمى يستوقفنى كعادته ويطرح على حزمة من التساؤلات التى يغلب عليها روح التهكم تارة، والدعابة التى تهدف إلى تليين لغة الحوار تارة أخرى، على اعتبار أن ما سوف يأتى من حوار بين الشباب والشباب لم يقع بالفعل، بل هو من محض الخيال. أما مضمونه ومتن نصوصه فهى منقولة بأمانة من كتابات حكماء الفراعين وكذا ردود الشباب فهى مستنبطة من مواقفهم وتعليقاتهم ونقداتهم. 
هل سوف تقدم مواعظ وإرشادات كتبت من آلاف السنين ليلتزم بها شبيبة القرن الحادى والعشرين، متجاهلًا بذلك تبعية القيم للثقافة التى تلفظها؟ وهل حكماء الفراعين – الذين سوف يجرون الحوار- قد أدركوا ما فيه الشباب الآن من أزمات وانتماءات وولاءات وأحلام ونقدات وسلطات وأيديولوجيات؟ 
فأجبت: أن الأصيل من القيم لا تبدله السنون ولا تغيره الأزمات، وسوف يتضح ذلك من الشذرات التى سوف نسوقها، فلن تجد فيها ثمة تعارض أو تناقض مع صريح المعقول أو الضمير الذى فطرت عليه السرائر، أو ما أيدته تجارب المجتمعات الآمنة التى نألفها الآن فى صور القوانين الضابطة لسلوك المجتمعات والحامية لحرية الأفراد بخاصة وحقوق الإنسان بعامة.
وسوف ندرك كذلك أن علة تمرد شبيبتنا على تلك القيم الأخلاقية ليس له مبرر معقول أو وقائع مادية تحول بين الفرد والانصياع لها. 
ولما انتهى حوارى مع قلمى هممت بالكتابة: 
فبدأت وقائع المحاورة باختيار جماعة الشباب واحدًا منهم لتمثيل آرائهم، وانتهوا إلى أن يكون ممثلهم هو الفيلسوف بتاح حتب (نحو ٢٥٠٠ ق.م) وعلى الجانب الآخر فضل الشباب أن يكون التساجل حرًا لمن يشاء منهم. 
فبدأ بتاح حتب حديثه قائلًا (نعم الأبناء الذين يصغون إلى إرشادات آبائهم – ولاسيما تلك التى مكنتهم من بلوغ مآربهم وحققت لهم طموحاتهم، وجنبتهم كثيرا من المخاطر وساعدتهم فى اجتياز المعوقات - أم الأبناء الذين يستهزئون بخبرة الآباء فمصيرهم محفوف بالمخاطر لأنهم رفضوا الطريق الآمن ودفعتهم روح المغامرة للسير فى دروب مهلكة. فمن الغباء وصف الحكمة بالجهل، والفضيلة بنقيضها، والتجريب خير شاهد، ومن ثم لا يجوز جحود ما ينصح به المجربون). 
فيعترض أحد الشباب قائلًا: إن الدروب الوعرة التى تحدثت عنها أيها الحكيم قد بدت فى عيونك كذلك لافتقارك للآليات والوسائل التى امتلكناها بروح المغامرة والإصرار والعلم الحديث، ومن ثم لا حاجة لنا للإصغاء والامتثال لمن يجهل معارفنا ومناهجنا، فلم يعد أمامنا فى ضوء العلم المعاصر ما ظننته أو ما اعتبرته مستحيلًا. 
فابتسم بتاح حتب قائلًا: «لا تغتر بعلمك فالعلم أكبر من أن تحيط به، فهو بحر لا تدرك ضفتيه، وكتاب لا تعى ما بين دفتيه، فالعجول الأحمق هو الذى يزعم امتلاكه لفصل الخطاب». 
واستأنف بتاح حتب كلامه: «اسمع يا بنى إذا عظم شأنك بعد وضاعة وأمسيت ثريًا بعد عوز واحتياج فلا تتنكر إلى ماضيك ولا تتعال على من كنت منهم، بل تذكر دومًا أن ما أصبحت فيه من نعمة من الله». 
فاحتج شابًا عليه قائلًا: «إن ثرائى وعزتى بعد ذل وعوز ثمرة لم توهب إليّ، بل هى من صنع عملى واجتهادي، ومن ثم يجب علىّ أن أثأر من ذلك المجتمع والأرض التى احتقرتنى وضنت على شحًا». 
ويقول بتاح حتب: «تعلم يا بنى أن الصدق تاج الفضائل، والورع جوهرها، والتواضع بنيتها، وأعظم التيجان هو الصدق مع النفس، وأنقى الجواهر مستمد من خشية الآلة، والكبر والغرور من معاول الهدم لا البناء، أما الكذب فعلة كل الرذائل». 
فبادر أحد الشبيبة متهكمًا: «ماذا يجدى الصدق فى مجتمع تسوسه الخديعة، ويقوده النفاق، ويدين بالجور، خذها منى أيها الواعظ. ـأن الحق والصدق فى زماننا لا يأتى إلا على لسان الأقوياء والأثرياء وأصحاب الجاه والسلطان، وصوت الفساد بات هو الأعلى، وسوط الجبابرة أصم أذنيه عن حديث البلهاء المصلحين الذين اتخذوا من الحق دستورًا لهم». 
فاعتدل بتاح حتب ومسك بكتف محاوره قائلًا: «يا بنى إنك تناقض نفسك، فكل ما تعانيه ما هو إلا نتاج جحود قومك وثقافتك للصدق، فهل يلام التاج اذا وُضع على رؤوس تستحق السفع، فلا يختلف عاقل على أن الصدق المعبر عن جوهر الحقيقة نور يبدد ظلمة الضلال ودواء قاهر لسلطة الكذب، وإن جحده الظالمون. فإياك أن ترغب عنه طمعًا فى خير ينفعك دون الناس، وحذارى أن تجعل دونه مداد قلمك فتضل به من يقرأون كتابك، وانج بنفسك قبل أن يتمكن الضلال من فؤادك ويسيطر النفاق على لسانك ويسجنك البهتان فى قلعة الإفك، فتغتر بمقامك وتنسى أنك مسجون وليس السجان».
وافطن إلى ما أقول، إن صوت الصدق خالد لا تسكته الدهور، وإن صرفت عصابات الكذب الناس عنه، وسرعان ما تتبدل طبائع الناس ولا يبقى إلا الحق، فهو ذات الإله وديدن الصدق، ولا يخيفك كثرة المهللين لسيادة الباطل إن حكم، فكن شجاعًا، فخير لك أن تحشر فى زمرة الحكماء وفى معية المصلحين، من أن تعيش ميتًا وسط الأراذل والدهماء وتتبوأ مكانك فى درك الجحيم. 
وعاد القلم يحاورنى قائلًا: ماذا فعلت؟ وأى المكاسب جنيت؟ فالشباب لا تروق له حكمة الشباب، والحكماء يضحكون من جهل وكبر الشبيبة، فأجبته: الثمرة الحقيقية فى العرفان. فالخير كل الخير فى أن تحسن تنظيف المرآة وتزيل الغشاوة من الأعين قبل أن تصف هذا بالجمال وذاك بالقبح، فليس هناك أصدق من الواقع المعيش ليحتكم إليه من يقرأ ويعي.
ولحديثنا عن حكمة الفراعين بقية.