الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حرية الفكر وأعداؤها

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ترقى المجتمعات وتتقدم كلما اتسع أفق الحرية أمام شعوبها؛ لأن التاريخ علمنا أن الشعوب المكبوتة عقليًا والمقموعة سياسيًا يضيع من قدمها الطريق، وتقبع فى الحاضر لا تغادره ظنًا منها أنها بذلك تحقق استقرارًا، بل قد يصل بها الأمر إلى حد التقهقر نحو الماضى وتقديس رموزه، متوهمةً أن ذلك الانحدار هو قمة الرقى (إذا كان للانحدار قمة). 
مات بعض المفكرين وفى جوف الواحد منهم أفكار رائعة دُفِنَت معه ولم يجرؤ على البوح بها؛ خشية أن يلاقى فى حياته الويلات، إدراكًا منه لحجم تعارض تلك الأفكار مع ما هو سائد فى مجتمعه.
وقد يطرح القارئ الكريم سؤالا: من أدراك بما كان فى جوفه من أفكار، إذا كانت تلك الأفكار – كما ذكرت – قد دُفِنت مع صاحبها دون أن يبوح منها بشيء؟! 
لا شك أن طرح مثل هذا السؤال له ما يبرره، ولا شك أيضًا أن الإجابة عنه يسيرة؛ ذلك أن شواهد التاريخ تدلنا على أن معظم الذين باحوا بما فى صدورهم مما اعتقدوا بصحته، سواء أكان ذلك يتعلق بشأن من شئون السياسة أم الفكر أم الدين أم العلم أم الفلسفة، أقول لا شك أن معظمهم قد ناله قدر كبير من الاعتقال والاضطهاد والتعذيب فضلًا عن القتل. 
لقد أُجبر سقراط قديمًا على تجرع السم بزعم أن أفكاره تفسد الشباب، وسيق جاليليو إلى المحاكمة مقيدًا بالأغلال وهو شيخ طاعن فى السن متهمًا بابتداع نظرية علمية تقول بأن الأرض تدور حول الشمس - نقبلها نحن اليوم بوصفها مُسلمة من المسلمات - وما تعرض له ابن المقفع من ذبح وتقطيع، وما تعرض له غيره من علماء ومفكرين وسياسيين عرب ومسلمين قدماء ومعاصرين ليس ببعيد عن الأذهان. كل تلك الأهوال هى فى ذاتها هواجس ومخاوف تقف حائلًا دون البوح بمكنونات النفس وخبايا العقل عند كثيرين.
فى المقابل، نجد كل ما يقول به ويردده أصحاب الفكر التقليدى المتوافق مع ما هو سائد، والداعم للسلطان، يلقى رواجًا وازدهارًا، وتتاح له فرص التعبير عن الرأى بكل السبل مهما بلغت درجة تهافته وسطحيته. 
تناقشت يومًا ما مع أحد الزملاء بقسم الفلسفة عن حرية الفكر التى ينبغى أن تكون مكفولة للجميع، وألا يقتصر منحها على بعض الدعاة من رجالات الأزهر، وتحجب عن غيرهم من المفكرين أصحاب الفكر التنويرى الحر، لماذا كانت تخصص برامج أسبوعية بالساعات للمرحوم الشيخ محمد متولى الشعراوي، وكان يُمْنَع المرحوم الدكتور فؤاد زكريا (1927– 2010) وأمثاله - إلا فيما ندر - من الاقتراب من مبنى الإذاعة والتليفزيون؟!
ولكن، من هو د. فؤاد زكريا؟.. سؤال يجب ألا يستغربه أغلب المثقفين الذين عرفوا وتابعوا بالقراءة وأحيانًا بالكتابة مسيرة الرجل الفكرية. إن غرضى من طرح هذا السؤال هو الإشارة إلى مدى الغبن الذى وقع على هذا المفكر الكبير، فلقد تعرض فى حياته وحتى بعد مماته لمؤامرة هدفها تغييبه عن عقول ووجدان الناس.
ولا أدل على ذلك من أنك إذا قلت الشيخ محمد متولى الشعراوي، لما استعصى عليك أن تجد لدى محدّثك - أيًا كان تدنى مستوى ثقافته - فكرةً عن صاحب الاسم. ولكنك إذا أردت أن تحدثه عن د. فؤاد زكريا، فلا بد أن يواجهك بهذا السؤال:
من هو د. فؤاد زكريا؟.. هو فؤاد حسن زكريا، والشهير بفؤاد زكريا، مفكر وأستاذ جامعى مصرى متخصص فى الفلسفة. وُلِدَ فى الأول من ديسمبر عام 1927 بمدينة بورسعيد بمصر، وتوفى فى الحادى عشر من مارس عام 2010 بمدينة القاهرة عن 83 عاما بعد صراع مع المرض، كان نموذجا للمفكر العقلانى الملتزم‏؛ إذ لم يقف موقف المتفرج السلبى الذى يؤثر السلامة الشخصية أو المصلحة الذاتية على حساب ما يؤمن به من مبادئ‏،‏ لقد خاض عدة معارك فكرية، مزودًًا بمنهج علمى صارم.
نعود ونتساءل: لماذا تتاح كل الفرص للشعراوى وأمثاله للتعبير عن كل قناعاته الفكرية والدينية، بحيث لم يدخل قبره - عليه رحمة الله - إلا وقد أفرغ كل ما فى جعبته من أفكار بما فيها الجيد والغث، فى حين أُلقِىَ بفؤاد زكريا فى جوف القبر محرومًا من التعبير عن كل مكنونات نفسه ودخائل عقله.. !! سألت زميلى أستاذ الفلسفة: هل فى هذا تكافؤ فرص وعدالة؟ هل هذه مساواة؟.. أين هى حرية الفكر؟
أجابنى زميلى أستاذ الجامعة: نعم.. هذه قمة العدالة.. لأن فؤاد زكريا وأمثاله هم المفسدون فى الأرض، يجب مواجهتهم بالمنع والحظر، أما مولانا الشيخ الشعراوي، فهو أحد أولياء الله الصالحين الذى يهدى إلى طريق الصلاح والرشاد، فكيف نسوّى بينه وبين فؤاد زكريا وأمثاله؟
هذا هو موقف بعض أساتذة الجامعة فى بلادنا من حرية الفكر، ولكى نكون منصفين، لا بد أن نؤكد أن هذا ليس موقفًا عامًا، بل توجد كثرة من الأساتذة الجامعيين الذين هم مضرب المثل فى الذود عن حرية الفكر. نحن فى قاعات الدرس نعلم أولادنا ضرورة الابتعاد عن إصدار الأحكام والتعميمات المطلقة.
إن كثيرًا من رجال الحكم فى كل العصور يعتريهم شغف شديد بالدين، وتنتابهم رغبة جامحة فى استعماله سلاحًا يرهبون به خصومهم السياسيين، فالدين يزيد من سطوة الحاكم، ولذلك نجد رجلًا مثل ميكافيللى يقول إنه ينبغى على «الأمير»، أى «الحاكم» حماية الدين حتى وإن لم يكن هو نفسه يؤمن به، لأن الدين يعاونه على حكم الشعب وتثبيت سلطانه. 
بقى أن أقول إن جاليليو لو لم يلق ما واجهه من عنت واضطهاد، لأنجز أضعاف ما أنجزه قبل أن يغادر هذه الحياة، ولو أن طه حسين لم يواجه هذا الصخب المفزع حين أصدر كتابه «فى الشعر الجاهلي» لواصل مسيرة أظنها كانت ستوفر علينا سنوات طويلة من التخلف ما زلنا نرصف فى أغلالها. هكذا ماتت أفكار ودُفِنَت مع جثامين أصحابها خوفًا ورعبًا، دون أن ترى النور ولو للحظة واحدة!!.. ويتحدثون عن ضرورة مواجهة الإرهاب!! هل هناك إرهاب أبشع من ذلك؟! هل هناك أخطر على إنسانية الإنسان وكرامته من الخوف القابع داخل نفسه؟! أو من الإرهاب الحاجب للأفكار؟! والساحق لكل إرادة حرة؟! 
لا شك أن الفكر فى بلادنا يُحَارَب، لا أقول كالأفيون - كما قال نزار قبانى - بل أشد ضراوة.