الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مع جول فيرن باتجاه إفريقيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
المؤتمر الأوروبى السنوى للخيال العلمى، والذى تحول إلى تظاهرة عالمية بشكل ما اتخذ له هذا العام مدينة آميان الفرنسية عاصمة يرسو بها. آميان مدينة سياحية جميلة جدا معروفة أيضا بكونها مدينة جول فيرن «أبى الخيال العلمى». 
ضيف الشرف هذا العام هو «الخيال العلمى الأفريقى»، مع محاضرة كان لى حظ تقديمها باللغة الفرنسية حول الأدب الجزائرى تحديدا كأدب معول عليه لتمثيل هذا النوع من التخييل، فى حين تدخل كل البلدان الأخرى تحت خانة الأفريقى؛ خانة احتوت حتى نمطا من كتابات الزنوج الأمريكان داكنى البشرة، من الذين يتسمون عموما «أفروأمريكانز».
تنويعات
حينما تقضى أربعة أيام فى تأمل ومناقشة هذه المسائل، تطرح عليك أسئلة كثيرة لم يكن جول فيرن يتوقع طرحها، وهو الرجل المتبصر الذى توقع كل شىء تقريبا، لم تبلغ قدرته على الاستبصار نقطة الحد الكافى اللازم لتوقع كل ما حدث لقارة أفريقيا. قارة عاشت مطولا على أساس كونها ولاية متعددة الأسماء... كل بلد أوروبى يسميها باسم.
لماذا تغير أفريقيا فى الوعى الأوروبى أسماءها؟ لكى لا يكون لها اسم أصلا. وما لا اسم له إما أنه فى العدم أو فى دائرة الوحوش المنبوذين.
على ذكر الخيال العلمى: أليس أشهر شخص عديم الاسم هو وحش فرنكنشتاين؟
كانت إحدى المسائل الأشد جدلا هى السؤال: ما الذى يجعل الخيال العلمى أفريقيًا؟ أصول مؤلفه؟ سيكون ما كتبه بوعلام صنصال مؤخرا حول «٢٠٨٤ أو نهاية العالم خ ع أفريقيا آنذاك»... وهذا ما يبدو مستبعدا لأول وهلة.
هل هى موضوعات بعينها ألفناها كموضوعات تحيل على كل ما هو أفريقى؟ هل هو خ ع الذى يكتبه بيض الجزائر ومصر وأفريقيا الجنوبية؟ هل هو ما أكتبه أنا؟
سأقص قصة طريفة وقعت لى شخصيا تلخص الأمور بشكل طريف.
منذ عام ونيف كانت مجلة «جالاكسى» الفرنسية المحترمة بصدد التحضير لعدد خاص حول «الخيال العلمى الأفريقى» وسألنى مدير التحرير، إن كان لى نص يصلح لذلك، فأعطيته قصة كنت قد كتبتها بالفرنسية عنوانها «مغتصب بغداد» وهو عنوان فيه إحالة تناصية جميلة مع عنوان قصة «لص بغداد» الشهيرة، إذ أن الفرق بين العنوانين بالفرنسية هو حرف واحد فحسب: le voleur de Bagdad/le violeur de Bagdad... وهى قصة خيالية علمية تقع أحداثها فى بغداد فى القرن العاشر للميلاد.
بعد قراءتها أخبرنى المدير برأى رئيسة التحرير التى يبدو أنها قد قالت: «هى قصة تصلح لعدد خاص بالخيال العلمى الآسيوى»، علقت له بمرح معين: «لا زلت أفريقيًا للأسف الشديد فأنا جزائرى، والجزائر إلى غاية أجل غير معروف بلد أفريقى».
مؤخرا التقيت برئيسة التحرير الخاصة بالعدد (سيدة زنجية فرنسية المولد) فقالت لى إنها تذكر بأن الموضوع لم يوح إليها بأفريقيا. 
من هنا يمكننا إعادة طرح السؤال بشكل أكثر إحراجا: هل أفريقيا المستقبلية – بما أنه موضوع الخيال العلمى الأثير- هى أفريقيا التى نحلم بها؟ أم التى نتمنى بقاءها؟ أم أفريقيا التى نخشى منها ونحن نقول إننا نخشى عليها؟ هل هى أفريقيا التى يكتبها زنوج أمريكا؟
كان لى حديث مهم مع كاتبة فى غاية الأهمية «صوفيا ساماطار» وهى زنجية أمريكية الأم أفريقية الأب زوجها أشقر وابنها هجين.. كان حديثنا حول أفريقية عملها، وأخبرتنى بأن لها مفهوماً هجيناً لأفريقيتها. سألتها: هل هو مفهوم «الأفروأمريكانز» الأمريكان ملونى البشرة؟ قالت لى: لا.. هو مفهوم تبقى أفريقيا فيه أشد حضورا.. فهى لا تحضر كلون بشرة أو كحلم واستيهامات بعيدة كما هو حال الأمريكيين ذوى البشرة السمراء، والواقع هو أن أباها ولد بأفريقيا وهى عملت بمصر لتسع سنوات وتتكلم العربية المصرية بطلاقة و«تعرف القارة جيدا» كما تقول.. تحضر أفريقيا عندها كصورة نابضة متحركة متناقضة ليس فيها تكلس وكاريكاتورية وثبات... أفريقيا الحاضرة وليست أفريقيا الآتية من استيهامات الغرب الاستعمارى وأدبيات الرحالة المتعالين على المكان.
زبدة القول
فى تصور مستقبلى اجترحه الكاتب والفيلسوف موسى ولد ابنو فى روايته «الحب المستحيل» يتصور مستقبلا فيه صورة لعالم ناصع، كارثى بسبب انشقاق البشر إلى جبهتين: رجال ونساء بينهما برزخ لا يبغيان.. ولكنه عالم لا تطرح فيه مسألة العرق الملون والعرق النقى، وليس للمولد ومكانه وتاريخه صلة بالموقع الاجتماعى. وصف أحد الحضور الرواية بأنها تنتمى إلى صنف «نيويوركى» من التخييل. وكانت الإحالة على مرحلة عاشها الكاتب الموريتانى بنيويورك.
السؤال الذى ظل عالقا هو: هل أن مستقبل أفريقيا فى الخيال العلمى هو إما جزء من تاريخها وإما جزء من تاريخ العالم الأبيض؟
وماذا لو كان المستقبل خاليا من اللون أصلا؟ أم أنه مستقبل لا يناسب الرجل الأبيض؟
فى علم الألوان يعد الأبيض قيمة لونية وليس لونا.. بناء على هذا، هل يكون المستقبل أكثر وفاء لهذا الاعتبار الاستيطيقى والفيزيائى مما كان عليه التاريخ الذى رأف بالزنجى فسماه «الرجل الملون»؟ تسمية اعتذارية لبشرية لم تتخلص من عقدة الألوان التى تثقل فكرها، عقدة قد يكون حلها الخروج من اللون إلى القيمة اللونية؛ لكى نتجاوز عالم الألوان إلى عالم القيم. ولكنها مسألة أخرى تحتاج إلى رحلة جديدة من رحلات جول فيرن.