الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المعاهدة الحرام "2" "الإمبراطورية المصرية"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نستكمل معًا ما بدأناه الأسبوع الماضى من سرد للأحداث التى مهدت لتقسيم منطقة الشرق الأوسط، فبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار إنجلترا وفرنسا وهزيمة تركيا وألمانيا، وخروج روسيا القيصرية من حلبة المنافسة لانشغالها بالثورة الشيوعية أكتوبر ١٩١٧ لكنها فى ذروة الثورة العربية أعلنت نصوص الاتفاقية السرية، حيث وضع الروس فى اعتبارهم عدم تكرار ما حدث فى عهد محمد على باشا وإبراهيم باشا، ثم فى عهد إسماعيل باشا والعمل ومعهم أوروبا على تحجيم الإمبراطورية المصرية، وعدم تقدم الجيش المصرى - مرة أخرى - والذى وصل إلى حدود الأستانة، وألحق عدة هزائم بالجيش والأسطول الروسيين، بطلب من الباب العالى فيما عرف بحرب القرم، وأشادت الصحف الأوروبية بأداء الجيش المصرى، كذلك عندما استعانت الدولة العثمانية بالجيش المصرى فى حرب البلقان ١٨٧٦ - ١٨٧٧ ضد الصرب والروس والتى وصلت فيها القوات المصرية إلى «وارنه» على البحر الأسود، وكان أداء الجيش المصرى بقيادة الأمير حسن باشا بن إسماعيل موضع إعجاب القادة العسكريين والصحف الأوروبية، وقضى الجيش المصرى على طموحات روسيا القيصرية وتطلعها إلى الاستيلاء على الآستانة وميناءى البوسفور والدردنيل مع انشغال تركيا بالفتن والثورات التى أشعلها الروس!
تم ضرب مشروع محمد على باشا، وأجبر على توقيع معاهدة لندن عام ١٨٤٠ بعد أن ساندت دول أوروبا الباب العالى فى مواجهة الجيش والأسطول المصريين ووقف تمدد الإمبراطورية المصرية وجيوشها، التى شكلت خطرًا على روسيا وأوروبا عامة! من أجل ذلك، سارعت روسيا القيصرية إلى المشاركة فى معاهدة بطرسبرج التى عقدت بينها وبريطانيا وفرنسا فى مارس ١٩١٦، واتفاقية «سايكس - بيكو - سازانوف»
كان «سازانوف» شديد الإعجاب بسياسة «بالمسترون» وزير خارجية بريطانيا عام ١٨٤٠، ووضع رسالة بالمسترون إلى السفير البريطانى فى تركيا موضع اهتمامه الخاص والتى جاء فيها: «.. ومن مصلحة السلطان التركى أن يشجع عودة الشعب اليهودى إلى فلسطين، بإذن من السلطان وفى حمايته وبدعوة منه، ليكون حجر عثرة أمام أى أهداف تخطر فى المستقبل بعقل محمد على أو من يخلفه، وأرجوك أن تضع هذه الاعتبارات أمام أعين السلطان والحكومة التركية بصفة سرية»! وهنا يظهر لنا السبب الرئيسى فى مباركة السلطان العثمانى بعد ذلك لهجرة اليهود إلى فلسطين والدعم التركى الدائم لدولة الاحتلال الصهيونى حتى يومنا هذا.
ووجد سازانوف فى المشاركة فى تلك الاتفاقية السرية تحقيقًا لأطماع روسيا القيصرية بالاستيلاء على الولايات التركية الشمالية والشرقية، والخلاص من مشكلة يهود روسيا القيصرية بإيجاد وطن قومى لهم فى فلسطين، الأمر الدى سيحقق أمن روسيا القيصرية بمنع مصر من التوسع وزحف جيوشها شرقًا ثم شمالًا!
كانت السلطات الروسية تفرض المزيد من القيود على يهود الدولة، وحصرت إقامتهم فى أماكن محددة، والتى وجد فيها بعض المثقفين اليهود ذريعتهم المنشودة فى محاربة فكرة الاندماج، وضرورة البحث عن حل عملى للمسألة اليهودية حيث سارع الحاخام صامويل موهيلفر إلى تأسيس حركة «أحبار صهيونية» التى دعت إلى استيطان أرض فلسطين وإحياء اللغة العبرية، ولجأ صامويل إلى صديقه سازانوف الذى سعى إلى حصول الحركة على ترخيص من الحكومة الروسية باسم «جمعية دعم اليهود فى سوريا وفلسطين».
وكانت تلك الأسباب الثلاثة التى دعت سازانوف للمشاركة فى هذه الاتفاقية السرية غير أن الثورة الشيوعية ١٩١٧ أطاحت بالقيصر ونظامه وأسرته وسازانوف نفسه، وكان الإعلان عن نصوص الاتفاقية السرية نهاية لأطماع روسيا القيصرية وسياسة سازانوف.
وتم عن عمد أو تغافل - إسقاط اسم سازانوف - فى جميع المصادر السياسية والتاريخية وبكل لغات العالم وعلى رأسها العربية، حتى اشتهرت تلك الاتفاقية السرية فقط بـ «سايكس - بيكو».
والآن أجد أن هناك ضرورة لشرح وتوضيح الدور الذى قام به المكتب العربى بالقاهرة حيث إنه أبرز الأجهزة المنفذة للسياسة البريطانية فى الشرق العربى، قبيل وخلال الحرب العالمية الأولى، وكان جهازًا مستقلًا فى دار المندوب السامى بالقاهرة برئاسة البريجادير «جلبرن كلايتون» رئيس المخابرات المدنية والعسكرية للقيادة العامة البريطانية فى مصر، وضم المكتب مجموعة من رجال الاستخبارات المتخصصة فى شئون الشرق العربى وضباط ورحالة وعلماء آثار ومستشرقون، وجميعهم تعرفوا على المنطقة العربية قبل الحرب وادعوا صداقة العرب وبعضهم عملوا مستشارين لقوات الثورة العربية أبرزهم: توماس إدوارد لورانس وجون فيلبى وأورسى جور ود. هوجارث ورونالد ستورز سكرتير الشئون الشرقية للمندوب السامى ومصر، وكانوا على صلة وثيقة بمكتب المخابرات الحربية البريطانية فى العراق والكويت برئاسة: كامبل طوسون ومعه مسز جيرترود بل، المستشرقة وعالمة الآثار والتى كان لها الدور الأبرز فى تكوين العراق الحديث، وأطلق عليها العراقيون «الخاتون»، بالإضافة إلى الدبلوماسيين الشهيرين: ديكسون وبرسى كوكس.. ولقاءات دورية سرية كانت تتم سواء فى القاهرة أم البصرة أم بغداد، وكان المكتب العربى بالقاهرة على اتصال مباشر بوزارتى الخارجية والحربية البريطانيتين، وقد تولى المكتب وضع تقارير عن المنطقة العربية أمام مخططى السياسة البريطانية، كما كان يصدر نشرة سرية تتناول الأوضاع السياسية والعسكرية فى البلاد العربية كانت تسمى «النشرة العربية - Arab Bulletin»، وكان للمكتب أخطر الأدوار فى التحضير لاتفاقية «سايكس - بيكو - سازانوف» كما أعد تقارير عن مدى إسهام العرب فى الحرب ضد الأتراك، وأعد منشورات لكسب الرأى العام فى فلسطين والدعوة لمناصرة الشريف حسين، وأنه يعمل بالتعاون مع الجيش البريطانى، وسعى المكتب إلى التأثير على الشريف حسين من أجل ضمان تأييده للسياسة البريطانية فى الشام بخاصة فلسطين، ثم اتجه المكتب لتركيز الاهتمام بالأمير فيصل بن الحسين لحمله على الاتفاق مع اليهود باعتباره «فرصته الوحيدة لجنى ثمار الثورة العربية»، وفيما بعد نجح كلايتون وهوجارت ولورانس فى تدبير لقاء بين فيصل ووايزمان رئيس البعثة الصهيونية فى ٤ يونيو ١٩١٨ فى «العقبة» وأبدوا تفاؤلهم الأمر الذى سيحل مشكلة الحكومة البريطانية فى «تنفيذ وعودها للطرفين» والتمهيد للحصول من الشريف على اعتراف بـ«الأمانى الصهيونية فى فلسطين مقابل الاعتراف به ملكًا على العرب». أكتفى فى هذه الحلقة بهذا القدر من الأحداث، ولكن أدعوكم للتأمل والتفكر فى كل هذا انظروا إلى قدر التشابه بين الماضى وحاضرنا الآن، وكيف أن سياسة الغرب واحدة، وكيف أن عجلة التاريخ واحدة وتعيد نفسها بين الإغراءات المتتالية التى تداعب أحلام وطموحات الحالمين بالسلطة، والحكم والملك وكيف يتم الوقوع فى الفخ بنفس السذاجة المعتادة من العرب.
نستكمل الأسبوع المقبل إن كان فى العمر بقية.