السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التطور التشكيلي لمقدمة القصيدة العربية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
افتتح الشاعر القديم قصيدته بالوقوف على الأطلال وبكائها؛ إذ جعلها مدخلًا للحديث عن أهلها الراحلين، يذكر شوقه إليهم، وألم فراقه عنهم، وفيهم محبوبته؛ ليُميل إليه الأسماع، وذلك لما فى النسيب (الشعر الرقيق الذى يُتغزَّل به فى المرأة) من قوة تأثير على طبيعة البشر، ولم يَشذ عن هذا النموذج ـ فى العصر الجاهلى إلا الشعراء الصعاليك ـ وهذا من جملة ما تمردوا عليه من أنماط سائدة ـ إذ استبدلوا بالمقدمة الطللية المقدمة الفروسية.
ثم جاء أبو نُوَاس فى العصر العباسي، واستبدل بالمقدمة الطللية المقدمة الخمرية، وأنكر على معاصريه افتتاحهم القصيدة بوصف الأطلال، وجعل ذلك من قبيل التقليد الأعمى، انظر إليه يقول:
تصفُ الطلولَ على السماعِ بها
أَفَذُو العَيان كأنتَ فى الحكمِ
وإذا وصفتَ الـشيءَ مُتَّبِعًا
لم تَخْلُ من غَلَط ومن وهْمِ
أما الشاعر المعاصر فقد تدرَّج إلى عالم التجربة الشعرية عبر افتتاحية تستبدل المعاناة الإبداعية بالمعاناة الغزلية والطللية، وكثيرًا ما قَرَن بين هذه المعاناة ورصده لمخاطر الرحلة ومشاق الطريق، أعني: رحلة المُبدع وراء الحقيقة الفنية الهاربة، على حد تعبير أستاذى الأديب الدكتور محمد فتوح.
وعبر سلسلة متتالية من المقالات سوف أتناول ـ بشكل مختصر ـ التطور الذى لحق بمقدمة القصيدة العربية عبر العصور، وقد أسميتُ هذه السلسلة بالتطور التشكيلى لمقدمة القصيدة العربية؛ لأن المقدمة من حيث هى عُرْف فنيٌّ، لم تمنع كل شاعر من أن يُشكِّلها وما يتلاءم مع ذاته وجماعته، فالمقدمة ثابتة، ولكن الذى يتغيّر هو العناصر المشكلة لهذه المقدمة، فالشاعر المعاصر ـ مثلًا ـ استلهم بكاء الطلل ووصف الرحلة، وجعلهما إطارًا عامًّا لتجربته، بعد أن أثقلهما بدلالات إضافية.
هذا المجمل هو ما سأقوم بتفصيله فى هذه السلسلة؛ إذ أُقسِّمها إلى أربع مراحل تطوُّرية مرَّت بها تلك المقدمة، الأولى: المقدمة الطللية فى الشعر الجاهلي، الثانية: المقدمة الفروسية فى شعر الصعاليك، الثالثة: المقدمة الخمرية فى شعر أبى نُوَاس، الرابعة: المعاناة الإبداعية فى الشعر الحديث.
أولا: المقدمة الطللية فى الشعر الجاهلي
انصرفت عناية الشعراء منذ القديم إلى الاهتمام بمطالع قصائدهم؛ لأنها أول ما يقع فى أذن السامع، فلابد أن يكون لها وقع حسن، وإذا جئنا إلى القصائد الجاهلية، نجدها تبدأ بالديار والوقوف على الأطلال وبكائها، فالديار هى ديار المحبوبة، ديار الذكريات، هى قطعة من الماضى العزيز الذى يثير فى نفسه الشوق والحنين.
ولعل أول إشارة حاولَتْ الوقوف عند تفسير هذه الظاهرة، ما ذهب إليه ابن قتيبة فى كتابه الشعر والشعراء من أنَّ الشاعر إنّما ابْتَدَأَ قصيدته بذكر الديار والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الرَّبْع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الراحلين عنها، ثم مزج ذلك بالحديث عن النسيب، فشكا شدة الوَجْد وألم الفراق، وفَرْط الصبابة والشوق؛ ليُميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعى به إصغاء الأسماع؛ لأن النسيب قريب من النفوس، عالق بالقلوب، لما قد جعل اللـه فى تركيب البشر من محبَّة الغزل، وإلف النساء.
والواقع أن وقوف الشاعر الجاهلى عند أطلال أحبَّته، وبكاء ديارهم لم يكن غريبًا؛ لأن الطلل عنده قطعة من الحياة التى تَهْرَم مثلما يَهْرَم الطلل، وكلما مضى منها جزء لا يستطيع الإنسان ردَّه مهما فعل، وكأن البكاء على الطلل أصبح يعنى البكاء على الحياة نفسها، وكأن البكاء على الحياة بمثابة نقطة الانطلاق فى تفكير الشاعر الجاهلي؛ فهو يتأمل الطلل، ويشعر بعمق الحالة التى يعيشها، فلا يجد شيئًا يناجيه غير هذه الأطلال التى صَعُبَ على الراحلين حملها عندما رحلوا عنها، ولو أنهم استطاعوا لفعلوا.
والوقوف على الأطلال وبكائها هو أسلوب المعلقات فى الاستهلال، فامرؤ القيس يقف على الديار ويستوقف الصَّحْب: (قِفَا نَبكِ مِن ذِكرى حبيبٍ ومَنْزِلِ)، وكذلك فعل طَرَفَة حين وصف أطلال خَوْلَة: (لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ)؛ وتبعهما لَبِيد فى وصف الديار: (عَفَتِ الدِّيَارُ فَمَحَلُّها فَمُقَامُهَا)، وزُهَيْر يتحدث عن دِمْن أم أوفى: (أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَم تَكَلَّمِ)، وعنترة يتعرَّف على الديار بعد طول توهُّم: (هَلْ غَادَرَ الشُّعراءُ مِن مُتَرَدَّمِ... أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْد تَوَهُّمِ)، والحارث بن حِلِّزة يفتتح بفراق حبيبته أسماء: (آَذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْماءُ)، ولم يشذ عن هذا التقليد من أصحاب المعلقات إلا عمرو بن كلثوم، فقد كان مندفعًا إلى الكأس وشرابها؛ ليهيِّئ نفسه لعتاب عمرو بن هند، فبدأ بقوله: (ألا هُبِّى بِصَحْنِكِ فَاصْبِحِينَا).
هذا هو الأسلوب العام فى ابتداء القصائد الجاهلية، البدء بالديار وحديثها وذكرياتها، ولكن هل ظل بكاء الطلل هو النمط السائد فى مطالع القصائد العربية؟ لا، فلقد تعرضت هذه المقدمة لحملات عديدة من التمرد، أولها كان فى العصر الجاهلى نفسه، من الشعراء الصعاليك، ولكن هذا لا يعنى أن المقدمة قد أُلغيت، ولم يَعُد الشعراء يستهلُّون بها، كل ما فى الأمر أنهم استبدلوها بتقاليد أخرى موازية.. وللحديث بقية.