رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

د. محمد حسن عبدالله يكتب: كل المعرفة.. تحت إصبعه

شوقي ضيف

د.محمد حسن عبدالله
د.محمد حسن عبدالله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
التقـيت به قـبل أن أراه مرات كـثيرة، عبر مؤلفاته الرصينة، متعددة الاهتمامات، وإن ظل المنهج (التأصيلي) هو نفسه لم يتغير، تشعر من خلال قراءته أنه "معرفة قديمة" فليس فيه تطاول، ولا مباهاة، ولا فخر بالذات، ولا إشارة إلى سبق، حتى وإن كان السابق إلى إثارات أصيلة يستحق أن تنسب إليه عن جدارة. عقب كل قراءة لأثر من آثاره كنت أشـعر بمـزيد حاجـتي إلى صحبته، وضرورة أن أستشيره، وأستنير برأيه، وكان نعم الصديق والرفيق والمعين في مواقف الحيرة والضياع.
ثم جاء "شوقي ضيف" أستاذا بقسم اللغة العربية، بجامعة الكويت، ورأيت - لأول مرة - الرجل الذي التقيت به عبر آلاف من الصفحات المضيئة بالجـهد العقـلي المثمر، ترسل شعاعها في اتجاهات شتي، لا تتناقض، وإنما تتكامل في بؤرة الوعي بالإنسان، والإيـمان بخيرية النفس البشرية، وتطلعها إلي الكمال، تنشده عن طريق المعرفة والعمل، كانت " الرؤية " تعميقا لما انطبع من قديم عبر لقاء الكلمات. ازددت له حبا، وبه إعجابا، ولمست من سماحة خلقه، وجوده بوقته وعلمه علي تلاميذه، كم هي رحيبة قلوب العلماء، وكم هي سخية نفوسهم.
نال شوقي ضيف، منذ عدة أعوام، جائزة الملك فيصل، وهي جائزة كبيرة إذا ما قيست إلي ما تعودت مؤسساتنا الثقافية أن تمنحه للعلماء، ومع هذا فإن ما أعطاه شوقي ضيف لأمته العربية، ولعقيدته الإسلامية، يتجاوز بكثير " حجم " الجائزة، ويبقي " الرمز " مؤشرا علي عرفان، قد تأخر كثيرا على المستوى الرسمي، وإن لم يتأخر أو يتحول عند خاصة المثقفين، وعامة القراء علي سواء.
شوقي ضيف بقـية عطر الثـقافة الرصينة، مقرونة بالخلق الجميل، وبـقية الثـقافة الموسوعية، التي جمعت العمق والتنوع، فلم تعش حبيسة التخصص الضيق، ولم يستدرجها التوسع إلي التسطح، فما من قارئ في مجـالات الأدب، والنقد، والفـكر، واللـغة، والنحو، والقـرآن، والبـلاغة، ومناهج البحث، والتحقيق العلمي... إلا ولشوقي ضيف في تكوين عقله نصيب، بشكل مباشر أو غير مباشر. لقد غطي برؤيته الشاملة عصور الأدب العربي جميعا، من الجاهلية، حتى العصر الحديث، واستوعب مناهج التأليف الأدبي: المنهج التاريخي، والمنهج الفني، والمنهج المقارن، والشخصيات... الخ.
عرفت أساتذة أجلاء يحسنون " التـأليف " بدءا باختيار الموضوع واستمرارا مع الإحاطة بالجزئيات، وحسن ترتيبها، والقدرة علي الإفـادة من المصادر والمراجع، وبـراعة التـأويل والاستنتاج، ولكـنهم لا يحسنون التـعبير عن أفكارهم إذا مـا ناقشتهم، أو استمعت إليـهم محـاضريـن، وعرفت أساتذة علي عكس ذلك: يملكون القليل من بضاعة العلم ولكنهم حذقوا أسلوب " تسويق " هذا القليل، وعرضه في صورة الجديد المبتكر، المثير للدهشة، وهو المألوف المستهلك، فتنبهر عند سماعهم وتصد عنهم حين تقرأ كتبهم !!
نادرا ما نجد أستاذا يجمع في توازن بارع بين الجانبين، من هذا الصنف النادر، كان: "شوقي ضيف".
اقرأ كتابه عن شوقي - أمير الشعراء - ( وهو من أوائل ما ألف ) وستجد أن جميع من كتبوا عن شوقي لم يتجاوزوا ما بدأ به وإن توسعوا فيه، أو تأولوا، أو أعادوا صياغته. أما سلسلة " تاريخ الأدب العربي " فهي أول رؤية شاملة للأدب العربي، وهو جذور خفية في تربة الجزيرة، إلي أن صار شجرة باسقة مترامية الأغصان والزهور ما بين المشرق والمغرب.
قضي شوقي ضـيف فـي آداب القـاهرة عمره الوظيفي، معـيدا، ومـدرسا، وأستـاذا مساعدا، وأستاذا، فما تزعم حزبا، ولا أثار حربا، ولا أزري بخصم في خصومة فكرية، وإنما عاش ينتج ويبدع، وأتاح الفرصة لمن لا يملكون مقدرته، أن يعيشوا من الرد علي مؤلفاته، أو إعـادة صياغتها، وعاش مشغولا عنهم بإضافة جديد في كل عام.
وعاش شوقي ضيف في آداب الكويت أربع سنوات، فـما غـادر مكتبه في الكلـية إلا إلـي بيته، وكان بيته كعبة قصاد لطلاب علمه من مختلف الجنسيات العربية، وخبرته التي لا تعوض، وكانت الأمة العربية ممثلة في هؤلاء الطلاب، من جميع أطرافها وأقاليمها، وكم كان محرجا لنا، ونحن أبناؤه وتلاميذه، أن يصر علي القيام بواجب الضيافة بنفسه (إذ كان يعيش وحيدًا)، تجاه رواد بيته الذين لا ينقطعون؛ فيقدم الشاي بنفسه، وقد يحث جليسه علي الشرب أكثر من مرة، كابن بلد أصيل، ولكن حديثه الشائق لا ينقطع، والفكرة عنه لا تغيب، والدراية العميقة بما يتعرض له تطل في كل كلمة، لا تشغله الحفاوة بجلسائه والترفق بهم عن توجيههم وتقويم أفكارهم.