الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حكايات «توفيق» فى «الملك والكتابة»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«قدر الكاتب أن يكون فاعلًا، فإن لم يكن كذلك صار مع الأسف مفعولًا به»، بهذه العبارة ختم صديقنا الكاتب الصحفى المبدع محمد توفيق، مقدمة الجزء الثانى من كتابه «الملك والكتابة.. حب وحرب وحبر»، وذلك بعد أن عدد ورصد عشرات القرارات التى صدرت بإغلاق صحف واعتقال وتشريد صحفيين، فى مرحلة وصفت بأنها الأكثر إثارة فى تاريخ علاقة السلطة بالصحافة فى مصر.
وثق توفيق معارك السلطة والصحافة فى الجزء الأول من كتابه الذى صدر العام الماضى «الملك والكتابة.. قصة الصحافة والسلطة فى مصر»، وسرد قصصًا لنقل أصحاب القلم إلى منافذ شركة «باتا»، فضلا عن نفى وسجن العشرات فقط لأنهم تجاسروا ومارسوا حقهم فى نقد قرارات وسياسات أصحاب الفخامة والسيادة، فى الفترة التى تلت عام 1950.
وفى الجزء الثانى «حب وحرب وحبر»، انتقل توفيق إلى الفترة التى سبقت 1950، نبش أرشيفها وتتبع معارك «أصحاب الجلالة» مع السرايا والحكومة والمعتمد البريطانى من جهة أخرى، ومع قوى التخلف والتشدد من جهة أخرى.
عن تلك المعارك يقول توفيق فى كتابه: «لم يكن الصحفى دائمًا صاحب اليد الطولى فى المعارك، فهناك كلمة إن تم توجيه الاتهام بها إلى المحرر، صار هو ورئيس تحريره فى قفص الاتهام، وربما جلسا معًا فى زنزانة واحدة لشهور وسنوات.. كلمة واحدة، لكن ضريبتها فادحة وعواقبها غير مأمونة، فهى كطلقة خرجت من فوهة بندقية قناص، إن خرجت سقط أمامها شخص، كلمة تلقى بالصحفى فى غياهب الجب، ولن يلتقطه بعض السائرين».
الكلمة التى قصدها توفيق، والتى دفع ثمنها طابور طويل من الصحفيين وكبار الكتاب على مدى أكثر من قرن من الزمان، هى «العيب» إما فى الذات الخديوية أو فى الذات الملكية أو فى الرئيس، وعدد صاحبنا حالات وقضايا أحيل فيها أبناء مهنتنا إلى القضاء بدعوى تطاولهم على ذات الحاكم، واستعرض قضايا انتهت بسجن عدد من الآباء المؤسسين منهم أحمد حلمى وعبدالعزيز جاويش ومحمود عزمى وأمين الرافعى وأحمد لطفى السيد ومحمود عباس العقاد وتوفيق دياب ومحمد التابعي.
فى الجزء الثانى من «الملك والكتابة.. حب وحرب وحبر» الصادر عن دار أجيال للنشر قبل أيام قليلة، قدم الحكاء محمد توفيق قصصًا من غرف الأخبار وصالات التحرير وحكايات من معارك السلطة والصحافة، سلط فيها الضوء على أبطالها، ونقل لنا مشاهد حية من مشادات وملاسنات وحملات صحفية أثيرت فى بلاط صاحبة الجلالة، وصف قاعات المحاكم التى مثل أمامها أصحابنا، دخل معهم زنازين سجون مصر العمومى والاستئناف وغيرها، عايش كربهم وابتلاءاتهم وصبرهم على المكاره.
وضع توفيق بمهارة «الديسك الشاطر» لكل فصل من فصول «الملك والكتابة»، عنوانًا أقرب إلى «مانشيت» صحفى يخطف عين قارئ وقف على «فرشة جرايد» يبحث عن مطبوعة تستحق القراءة، من تلك العناوين «الحكم قبل المداولة»، «العيب فى ذات أفندينا»، «التعريض بالسلطان»، «مات الملك ليحيا الملك»، و«رجاء تزوير الانتخابات».
رغم تسلسل أحداث وتتابع قصص «الملك والكتابة» من حيث التأريخ، إلا أن القارئ يستطيع أن يقف عند أى فصل وينتقى أى قصة ليقرأها بشكل منفصل، فيخرج منها بمعلومة ويكون انطباعًا عما جرى.
زميلنا توفيق أحب الصحافة فأحبته، أخلص لها ففتحت له أرشيفها، فصنع منه كتابه الممتع، الذى استغرق من عمره 10 سنوات حتى يصل إلى يد القارئ، جمع حكايات صراع السلطة والصحافة من أرشيفات دار الكتب ومكتبة الإسكندرية والمؤسسات، وتلك لو تعلمون عملية شاقة وصعبة، إلا أن الكاتب نجح فيها بامتياز وتدخل فى ترتيبها وصياغتها وربطها ببعض ببراعة، وذلك لإيمانه بأن «قصة الصحافة ليست قصة مهنة وإنما قصة بلد بكل ما فيه من مبدعين ومدعين، ولصوص وشرفاء، وأثرياء ومهمشين، وأبطال وخونة، ومشهورين ومغمورين، وزعماء وظرفاء، ومهرة وعجزة، وعلماء وجهلة، وعبيد وأحرار، وكذابين وأتقياء، وانكسارات وانتصارات».
من أبرز القصص التى استوقفتنى فى الجزء الثانى من «الملك والكتابة»، تلك المعركة التى اشتعلت بين رئيس الوزراء إسماعيل صدقى وعميد الأدب العربى طه حسين، عام 1932، بعد أن طلب الأول من الثانى ترأس تحرير جريدة «الشعب» لسان حال الحزب الذى أسسه صدقى ويحمل نفس الاسم، إلا أن حسين رفض خوفًا من أن يقال أن الأديب الكبير يقف مع الرجعية، فأقام رئيس الوزراء الدنيا على حسين، وقرر عزله من منصبه كعميد لكلية الآداب ونقله للعمل كمفتش للغة العربية فى وزارة المعارف.
لم يكتف صدقى بذلك بل أوعز إلى نوابه فى البرلمان بإعادة فتح قضية كتاب «فى الشعر الجاهلي» التى فتحت النار على طه حسين قبل سنوات، وأدى نواب «الشعب» دورهم فى التنكيل بعميد الأدب العربى تحت القبة، من جهته رفض حسين تسلم عمله كمفتش للغة العربية، فأضرب طلاب كلية الآداب احتجاجًا على نقل عميدهم، وذهبوا إلى بيته وحملوه على الأكتاف وهتفوا له.
فى تلك اللحظة وبحسب ما نقل توفيق فى كتابه، أحس طه حسين أن تحولًا كبيرًا قد طرأ على حياته، وأن الناس التى هاجمته بالأمس بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلي» صارت تحلف بحياته، فنادى بتعميم التعليم وبمجانيته وطالب برفع الظلم الاجتماعى عن الشعب.
ومن ذات العام وفقا لما نقله توفيق فى كتابه، دارت معركة أحرجت فيها «صاحبة الجلالة» صاحب السيادة رئيس الحكومة، فنشرت صحيفة «الجهاد» لصاحبها توفيق دياب صورًا لخطابات منسوبة لرئيس الوزراء إسماعيل صدقى موجهة إلى مأمورى أقسام البوليس والبنادر، يطلب فيها منهم تزوير الانتخابات البرلمانية لصالح حزبه «الشعب».
واستقبل «الشعب» فضيحة صدقى بالتصفيق لصاحب «الجهاد» توفيق دياب، واستقبلت الحكومة ما نشر بالوعيد للجريدة وصاحبها، فأمر صدقى بتقديم دياب إلى المحاكمة وتمت محاكمته بصورة عاجلة.
شهد الجميع بتزوير الانتخابات لدرجة أن الكاتب الصحفى محمد زكى عبدالقادر الذى كان يعمل فى جريدة «الشعب» وصف الانتخابات بأنها «أقرب ما تكون إلى التمثيلية». وصدر الحكم على توفيق دياب بالحبس 6 أشهر مع وقف التنفيذ.
محمد توفيق صاحب «الملك والكتابة» مؤرخ جديد استقر فى بلاط الصحافة، واستحق رغم حداثة سنه أن يزاحم «أصحاب الجلالة» الكبار، وذلك ليس بشهادة كاتب هذه السطور، ولكن بشهادة أحد الآباء المؤسسين أستاذنا محمد العزبي.
Saadlib75@gmail.com