الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"دانتي" والكوميديا الإلهية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا شك أن المنحى الرئيس العام للفكر البشري، فى سعيه وراء المعرفة – منذ فجر التاريخ – قد اتسم بالانتقال شيئًا فشيئًا، مما هو مجرد غامض وشامل، إلى ما هو مشخص محدد ومدرك؛ ومما هو مجهول مخيف، إلى ما هو معلوم ومفسر. هذا المنحى قاد الإنسان إلى بناء أقيسة مُيسَرة للوعي، تمكنه من امتلاك لغته التعبيرية الخاصة، ويروى من خلالها قصة كفاحه فى الوجود. وهذا ما فعله الشاعر الإيطالى «دانتى اليجيرى» (١٢٦٥ – ١٣٢١) عندما تحدث عن «الكوميديا الإلهية» التى تعتبر أهم عمل أدبى عرفته أوروبا خلال العصور الوسطى، فقد وُصفت بأنها معجزة شعرية تسعى لإصلاح البشرية جمعاء. وقصد «دانتي» أن يجعل منها بداية لعصر جديد، وكأنه أراد أن يضع كتابًا مقدسًا جديدًا يهدى البشر إلى سواء السبيل.
ويرى «دانتي» أن لقصيدته ثلاثة معان: المعنى اللفظي، وموضوعه حالة الروح بعد الموت. والمعنى الرمزي، وموضوعه الإنسان بما يناله من جزاء على ما فعل. والمعنى الصوفى، وموضوعه الخروج بالناس من البؤس فى الحياة الدنيا، وقيادتهم إلى طريق الخلاص والسعادة فى الحياة الآخرة. ويعتمد بناء «الكوميديا الإلهية» على رؤية نقلت «دانتي» لزيارة العالم الآخر حيث استولى عليه نعاس ثقيل. وحين أفاق وجد نفسه عند ذاك الوادى الذى مزق مَرآة قلبه من الخوف، وكمن خرج من البحر إلى الشاطئ لاهث الأنفاس، راح يتأمل من ورائه المياه الرهيبة. يقول: «هكذا التفتت روحى إلى الوراء، وكانت لا تزال لائذة بالفرار، لكى تحملق فى الطريق الذى لم يدع أبدًا إنسانًا حيًا».
وعند باب الجحيم قرأ «دانتي» ما يلي: «لم يخلق قبلى شيء سوى ما هو أبدي، وإنى باق إلى الأبد. أيها الداخلون، اطرحوا عنكم كل أمل». سمع «دانتي» – فى الجحيم – صرخات المعذبين كعاصفة هوجاء، فبكى من هول ما سمع. وحين سأل عمن يكون هؤلاء المعذبون، جاءه الجواب بأنهم كانوا فى الدنيا يبحثون عن مصلحتهم الذاتية فقط. فلم يعصوا الله، ولم يطيعوه فى الوقت ذاته، وعاشوا بلا فضيلة ولا رذيلة. فطردتهم السماء حتى لا ينقصوا جمالها.
ومع خروج «دانتي» من الجحيم، تبدأ المرحلة الثانية التى تقتضى الصعود فى أفاريز «المطهر» وهو مكان قائم بين الجحيم والفردوس، ويمثل رحلة التوبة والتكفير عن الخطايا. ويبتعد الجو العام الذى يسيطر على المطهر عن أجواء الجحيم. فالروح ترتجف هنا فى رقة واستشفاف وتنغمس فى سماحة صوفية، فتتخلى عن فرديتها؛ وتتلاشى فى محيط الحب الشامل. يقول: «سأتغنى بتلك المملكة الثانية، حيث تتطهر الروح الإنسانية، وتصبح جديرة بالصعود إلى السماء».
وفى الفردوس ينقلنا «دانتي» إلى القمة، وهى ذروة تعبر عن رحلة العقل من المعاناة إلى التأمل. وحين يقف أخيرًا أمام النور الإلهى ويخاطبه قائلًا: «أيها النور الأبدى الساكن إلى ذاتك وحدها، والذى تدرك ذاتك بذاتك، وبكونك مدركًا من ذاتك، ومدركًا إياها، فإنك تحب ذاتك وتبتسم». فهو يحاول الانتقال إلى مرتبة أعلى من مرتبة الفيلسوف هى مرتبة الرؤية والمشاهدة، حيث أصبح شاهدًا بفضل ما أفاض الله عليه من نور أضاء له ما كان غامضًا ومجهولًا. وبوصول «دانتى إلى هذا المستوى، تنتهى رحلته الطويلة من الجحيم إلى الفردوس. وهى رحلة قدمت خلاصة أقصى ما يستطيع أن يتصوره عن العالم الآخر وإحساسه بالموت.
ومن هنا تعكس «الكوميديا الإلهية» صورة واضحة على أن تطور الوعي، قد عانى خلال مساره الطويل، سلسلة من الإشكاليات. فالوجود الذى نحياه هو التشخيص الوحيد لمعنى شامل ما زال مجهولًا حتى الآن، لذلك يصعب علينا أن نعترف – تحت مظلة العقل – بحتمية اختفائنا، ومغادرتنا لهذا العالم دون مبرر ودون إرادة ونحن حين نمنح هذا الوجود كل هذه الأهمية القصوى، فلأننا أصلًا لا نملك شيئًا حقيقيًا سواه. فنحن لا نعرف ما كان وما سيكون، ولكننا نعرف – على الأقل – ما هو كائن، وما هو كائن لابد أن يحمل قبسًا من جوهر السر الذى جعله حقيقة حية ملموسة.