الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ملاحظات معلمة مجنونة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أكثر من ربع قرن قضيته فى حقل التعليم ومازلت، أرعى عقول طلابي، بما أتانى الله من فضله، وما وضعته الوزارة من مناهج لم يطرأ عليها الكثير من التغيير.
 لأننا ندرس أساسيات العلوم فى المرحلة الإعدادية. عشرات من خطط التطوير السابقة ولا شىء سوى الرتابة والطلاب الذين يشعرونك أن المدرس إنما جاء فقط ليعطيهم دواءً مرًا، أو ليعيد ما قاله مدرسه الخصوصى الذى يسبق توزيع المنهج فى الشرح بوحدة كاملة ويسبق الخريطة الزمنية بشهرين كاملين ليتمكن من إعادة المنهج، قبل الامتحان، ناهيك عن كم الإحباطات التى تحدث نتيجة انكسار حالة التفاعل بيننا وبينهم تلك الطاقة التى تستخرج أجمل ما فينا وأصدق ما يمكن أن نقدمه لهم. كنت أضع نفسى مكان الطالب، فأشعر بنفس الرتابة، هو جالس لا حركة، لاصوت والمدرس يصب فى أذنيه ما تم تحضيره أو بمعنى آخر ما حفظه من كثرة التكرار، هنا وهناك. 
كان أكثر ما يؤذينى بشكل شخصى هو غياب الدافعية والشغف، وعدم فرح الطالب بما يتلقاه. فكنت أبذل كل جهدى لجذب انتباهه، وكان الجميع يشيدون بعملى والطلاب يحبوننى لكننى أبدا لم أكن راضية. كنت أبحث دائمًا عن القطعة الناقصة التى تكمل لوحة - الميكانو- الجميلة. فأتساءل هل هو تأثير الدروس الخصوصية؟ هل نقص الإمكانيات؟ هل الأعداد الكبيرة فى الفصل؟ هل طريقة الامتحانات؟ هل طريقة الشرح؟ كانت الأفكار كل يوم تتقافز أمامى وأنا أعمل. وكنت أقول لنفسى تعملين بجد، لا شىء أكثر. لكنى كأديبة لديها رسالة فى كل ما تكتبه، لم أستطع الهدوء أبدًا. كان وجه الأم الجميلة الدكتورة نهاد صليحة يبتسم إلى دائمًا وهى تشرب قهوتها أثناء المحاضرة، وتسمح لنا نحن أيضا بذلك وجلستها المميزة التى تثنى فيها ساقا تحتها بتلقائية حتى تستريح وكأنما تجلس على الكرسى فى شرفة بيتها لا فى قاعة درس لها تقاليدها المعتادة. كان وجهها فى كل مرة، يشرح لى نظرية التلقى لرومان ياكبسون، وتكرر لى عواملها من مرسل ومستقبل، ورسالة، وسياق وقناة تواصل وكود التواصل. أنا المرسل والطلاب المستقبل والدرس هو الرسالة وقناة التوصيل هى طريقة شرحى والسياق هو الشىء الذى نتحدث عنه والكود هو مجموعة الإشارات سواء أكانت صوتية أم مكتوبة، لسانية أم بصرية بيننا. هكذا بدأت العمل شرعت فى تغيير الأمر عملت على تغيير قناة التوصيل للمنهج الذى لا أستطيع تغييره كسرت الطريقة التقليدية للدرس كلما أمكن وحسب طبيعته وسط نظرات التعجب من الزملاء ومشاجرات مع المدير وإمكانيات ضعيفة. عملت على تقوية الصلة بينى وبين أبنائى من الطلاب قدمت الأم على المعلمة. خرجت بهم إلى الفناء والحديقة. فتحلقوا حول الأشجار متعاونين فى حل تدريبات الكتاب المدرسي. أو فى قراءتهم للدرس بصوت عال لكى أعلمهم كيف يضعون الأسئلة ويعملون تفكيرهم فى إجابات جديدة. اعتمدت طريقة الحكى فى مواقف حياتية، وطريقة اللعب، فأصبحنا نلعب ونتعلم ونحكى ونأكل ونشرب فى نهاية الدرس. هذا بالإضافة إلى ما يصنعونه من تجسيم للكيمياء الذرية وملفات كهربية من أسلاك تليفون قديمة وموجات طولية ومستعرضة وغيرها. أدخلت فى أدواتى الصلصال والكارتون والصمغ والمقص والألوان وأصبحت دروس الحفريات والانقراض عجينًا وقوالب جبس نصبها معًا فى قوالب جيلى وقواقع. أصبح لدينا شغفًا. وحصة تجتاحها الحرية والضحك والتعليم والمحبة. وأصبح لدى طلاب ينظفون المعمل بعد انتهاء الدرس ويعيدون الكراسى إلى أماكنها. كان مديرى السابق يقول إننى مجنونة وسيبوها فى حالها. هذه المجنونة أصبحت سعيدة الآن وترسل التحية لوزير التربية والتعليم فيما يجريه من تغييرات وإصلاحات لأنها رأت بعينها وأحبت عملها من قلبها وانتصرت للتغيير. هذه المجنونة التى تعمل فى قرية ومازالت ولا يعرفها أحد، رفضت مدارس المدينة لأنها تؤمن أن القرى بأهلها هى العمود الفقرى لمصر وهى الترمومتر الحقيقى لقياس أثر التعليم. تتوسم خيرا فى القادم فى رؤية مصر 2030 التى تعتمد التنمية المستدامة وتعرف جيدا قدر التحديات من نقص فى الموارد وغيرها لكنها متفائلة لأنها وحيدة قررت وغيرت وانتصرت. هذه المجنونة فخورة بطلابها برسوهم ضد الإرهاب وبشعرهم وقصصهم التى كتبوها وبحبهم لبلدهم وانتمائهم لها. هذه المجنونة التى لم تر فاصلا بين العلوم والوعى والشعر والانتماء، لم تعتمد الطريقة التقليدية فى العمل لكنها اعتمدت الطريقة التقليدية فى الحب وغير التقليدية فى الفكر وانتصرت للضمير.