السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداع البوابة| الخفاش.. قصة لـ"أحمد متولي"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
استيقظ مبكرًا على غير عادته لم يكن قد فعلها منذ سنوات.. فقد أدمن السهر حتى ساعات الصباح الأولى.. حياة خفاش كاملة تبدأ من غروب الشمس وتنتهى بسطوعها فى كبد النهار.
تلفت حوله.. التقط هاتفه المحمول ليجد عدة مكالمات فائتة من زوجته، ورسالة تُخبره فيها بأنها لن تعود هى حتى يستقيم حاله.. هز رأسه ليُنفض بقايا النوم من عقله.. منذ متى وهى تهتم لأمره.. طالما كان الحال هكذا لسنوات طويلة، ولكنها لم ترفع راية العصيان إلا عندما شعرت بأن ماله ينفد.
صديقته كذلك تركته منذ أيام.. كانا فى إحدى الأمسيات التى أقامها صديقه الشاعر.. كانا يضحكان معا عندما وجدت إحدى الفتيات تقبل عليه وتُبدى إعجابًا - مبالغًا فيه من وجهة نظرها - بأحد مقالاته.. فإذا بها ترفع صوتها وتحيل الأمسية إلى فضيحة.
الحمقاء.. ألم تكن تعرف حينما صادقته أنه شخصية عامة..
«فليذهبا إلى الجحيم سوية أو فرادى».. هكذا حدث نفسه، وهو يستعيد هذه الذكريات. قام من سريره ليأخذ حمامًا باردًا كما اعتاد منذ طفولته، هنا خطر ما بدا له أنه هاجس غريب.. لماذا لا يصلى؟!
لم يلق بالا كثيرا للإجابة، وإنما قام من فوره ليُكمل حمامه اليومى بالوضوء.. نعم.. لا يزال يتذكره.. كذلك القِبلة.. أخذ لحظات قصيرة حتى يتذكر اتجاهها.. ارتدى الروب ثم وقف خاشعا وبدأ يُصلي..
لم يشعر بالخشوع بمثل هذه الطريقة من قبل.. حالة غريبة تنتابه اليوم ولم يدر ما هى!
ارتدى ملابسه وقرر الخروج.. تذكر مقهى فى وسط البلد كان يجلس عليه « أيام الفقر» كما يسميها.. لسبب ما شعر بالحنين لهذا المقهى، هبط من العمارة ليجد شابًا وفتاة تعرفا عليه.. صورة تذكارية.. لا بأس.. لن يستغرق الأمر سوى لحظات قصيرة.
وضع مفتاح سيارته فى الباب ثم توقف.. كلا.. هذا اليوم ليس عاديًا، فقد بدأ بشكل غير تقليدى، ولابد أن يظل كذلك.. ترك السيارة وسار حتى موقف الميكروباص.. دس نفسه وسط زحام البشر السائرين إلى أعمالهم؛ وبالكاد وجد لنفسه مكانًا انتزعه بشق الأنفس.. لا بأس.. هذا هو الاحتكاك الحقيقى بالجماهير.
تعرف عليه أحد الركاب فأنكر نفسه.. إذا كان الأمر محتملًا مع الشاب والفتاة فلن يكون كذلك مع هذا الجمع من البشر، وخاصة أن كتاباته تهاجم الإسلاميين الذين يملأ مؤيدوهم الميكروباص.. فى الصمت السلامة إذن.. شعار اليوم هو الحياة كواحد من الناس.. لن يفسده.
وصل إلى المقهى بسلام.. ها هو النادل العجوز قد أصبح مالكا للمقهى.. سلم عليه.. ذكره بنفسه فلم يلق الرجل اهتمامًا «شيء طبيعي.. فهو يقابل مئات البشر كل يوم.. إضافة إلى كِبر سنه «هكذا عاد ليُحدث نفسه ثم طلب شايا وشيشة كما كان يفعل فى الماضي.. منذ زمن لم يلامس اللاى السحرى شفتيه.. كانت له متعة خاصة.. عاد الفتى ليضع أمامه كوبا من الشاى الكشرى الذى توقف عن شربه منذ زمن بسبب قرحة معدته.. لا بأس فكل شيء مختلف.. فاليوم نفسه مختلف.. هكذا شرب الشاى بدون تعليق.. وبدأت الشيشة فى إصدار دخانها المعطر.
فى هذه اللحظات كان يُخيل إليه أنه يرى المستقبل بوضوح شديد..
كان يرى نفسه وحيدًا.. بلا أصدقاء.. بلا أسرة.. بلا أهل.. قاطع أهله منذ وفاة والديه بعد أن رأى تكالبهم على ميراثه.. حالة من اللامبالاة تسيطر عليه.. فهذه الفكرة لو كانت قد جالت فى ذهنه أمس لأصابه الفزع وهرع ليقضى وقته بين أكبر عدد ممكن من أصدقائه.
أما الآن.. لا بأس.. فاليوم لا يزال مختلفًا..
أنهى الشاى والشيشة وخرج ليمشى فى الطريق ببطء.. فى ذهنه تتردد أغنية قديمة لفريق المصريين «الشارع ده كنا ساكنين فيه زمان.. كل يوم يضيق زيادة عما كان.. أصبح الآن بعدما كبرنا عليه.. زى بطن الأم مالناش فيه مكان».. كلمات العبقرى صلاح جاهين تخرج من لاوعيه لتملأ روحه؛ ولا شعوريا وجد نفسه يستقل ميكروباصا جديدا إلى بيته القديم.
لم يكن يدرى لما فعل ذلك.. هل بحثا عن جيران الماضي؟.. أم عن أصدقاء الطفولة؟.. كانت حركته - طيلة اليوم - لا إرادية.. فلماذا يسأل الآن؟!، فليفعل ما يمليه عليه لا وعيه دون تفكير.. إنه يستمتع بما يفعل.. إذن فلتذهب زوجته وصديقته ومعارفه إلى الجحيم..
إنه مستمتع.. وكفى..
الغريب أنه مع راحته يشعر بانطلاق غريب.. اختفت آلام القرحة والعمود الفقري.. يشعر بأنه يأخذ أنفاسًا عميقة بعد سنوات من التدخين أسودت فيها رئتاه وأصبحتا أشبه بأخاديد سوداء من الدخان والهموم. رّن هاتفه المحمول ليسارع بإغلاقه دون أن يهتم حتى بإلقاء النظر على شاشته لمعرفة من المتصل.. لا يهم.. هو قد ترك حياته ليوم واحد.. فلما لم يتركوه هم.. إنه الآن يعيش كما يريد.. ليس كما يريدون..
وصل أخيرًا إلى شارعه القديم.. لشد ما اختلفت التفاصيل.. اختفت أشياء كان يعتبرها من معالم حياته اليومية.. لم يبق من ذلك الزمن السحيق سوى محل البقالة الذى كان المرحوم والده يتعامل مع صاحبه بنظام الشهر.. نفس المعالم.. نفس أنواع البضائع تقريبًا.. نفس اللافتة التى يزيد عمرها عن عمره.
دون تفكير اتجه نحو المحل.. دخل.. وقف مرتبكًا.. استقبله شاب صغير بابتسامة تحمل لافتة خدمة العملاء زادت من ارتباكه.. لم يدر ماذا يقول؟.. طلب شيئًا تافهًا لا يحتاج إليه.. هكذا فتح الحديث مع الشاب.. علم منه أنه ابن صاحب المحل العجوز، وأنه لا يزال حيًا، ولكن أرذل العمر منعه من مزاولة العمل فتولاه ابنه.
«لشد ما تفعل بنا الأعوام».. هكذا قال لنفسه وهو خارجًا من المحل.. لم يدر ماذا يفعل بما اشتراه.. تصادف مع تفكيره مروره بعامل نظافة رقيق الحال.. أعطاه ما اشتراه ومعه ما تيسر من المال.. دعا له الرجل فرد عليه بابتسامة وسار إلى حيث لا يعلم.
بدأت الشمس فى المغيب.. دار فى ذهنه أن أصدقاءه يمكن أن يشعروا بالقلق بسبب اختفائه المفاجئ وإغلاق هاتفه فى ذلك الوقت، خاصة أن الحرب الباردة لا تزال مشتعلة بينه وبين أجهزة النظام.. فكّر فى أن يفتح هاتفه ويرسل لأحدهم رسالة يطمئنه بها ويعود لإغلاقه بعد ذلك.. دارت الفكرة فى ذهنه لثوان عدِل عنها بعدها.. «فليذهبوا إلى الجحيم».. كررها لنفسه مرة أخرى.
قرر أن يستكمل يومه.. ذهب إلى دار سينما درجة ثالثة كان قد اعتاد دخولها فى مراهقته.. عاد أيضًا ليستكمل مفاجآت الماضى عندما وجد عامل التذاكر الذى كان يعرفه فى شبابه قد صار مديرًا للسينما.. والمثير للسخرية كذلك أن الفيلم الذى يتم عرضه مأخوذ من إحدى رواياته.. لعن فى سره المنتج والمخرج اللذين حوّلا الرواية إلى فيلم رخيص إلى الدرجة التى يتم عرضه فى مثل هذه السينما ضمن ثلاثة أفلام فى عرض واحد.. «لهذه الدرجة صارت أعمالى هابطة».. هكذا تساءل بحسرة؟!
خرج من السينما بينما قرص القمر قد توسط كبد السماء.. كان قد اتخذ قراره.. لن يعود كما كان أبدًا.. سيترك حياته القديمة بكل ما فيها عدا الكتابة.. سيطلّق زوجته ويترك صديقاته.. سيعتزل السياسة.. سيقلع عن الخمر والحشيش بل وحتى السجائر.. سيكتفى بالشيشة كل فترة وأخرى.. سيواظب على صلاته، وربما يلتحق بإحدى الطرق الصوفية.
قرارات ثورية عديدة دارت فى عقله.. هذا اليوم غيّر فى حياته الكثير.. غاص داخل أعماقه، وانتزع من داخلها كل ما يجعله يشعر بالراحة والسكون.. قرر أن تكون كل أيامه مثل هذا اليوم.. إنه يُسعِد الكثيرين فلماذا لا يشعر بالسعادة نفسها مثلهم.
كانت الأفكار تزدحم فى عقله وتشغل تفكيره، حتى أنه لم ينتبه إلى تلك السيارة السوداء رباعية الدفع التى كانت تتبعه أثناء سيره.. لو كان متابعا لما يحدث حوله لأدرك أنها خلفه منذ بداية اليوم.. ربما منعه تفكيره والزحام عن الملاحظة لكن الآن تبدو الرؤية أوضح. كان يسير فى بطء متجها نحو منزله وهو غارق فى التفكير.. لم ينتزعه من شروده سوى أن أذنه التقطت صوت تكة معدنية أعادت ذهنه إلى أيام التجنيد فى الجيش.. كانت صوت سلاح يستعد للإطلاق.
قبل أن يستدير ليرى ماذا هناك كان الأمر قد تم.. بضع طلقات انطلقت من مسدس الجالس بجوار السائق لتستقر فى جسده.. انتهى الأمر فى ثوان معدودة، وبينما كان جسده يطير فى الهواء ليستقر على الرصيف كان ذهنه يستعيد أحداث اليوم منذ الصباح.
لم يشعر بالألم.. لم يشعر بالدهشة.. كان - على الرغم من الرصاص المستقر فى جسده - مازال منتشيًا بأحداث اليوم، وبينما كانت روحه تغادر جسده كان يبتسم فى هدوء وعقله تملأه فكرة واحدة..
أنه لن يعود - أبدًا - كما كان.