الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الثقافة رافد مهم لنهر العلاقات الخالدة بين الأشقاء في مصر والسودان

السيسي والبشير
السيسي والبشير
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يبدأ الرئيس عبدالفتاح السيسي، غدا الخميس، زيارة للسودان الشقيق ويعقد لقاء قمة مع الرئيس السوداني عمر البشير في سياق التواصل المستمر بين قيادتي الدولتين، فإن الوشائج الثقافية حاضرة دوما كرافد مهم لنهر العلاقات بين البلدين الشقيقين.
وكان سفير السودان بالقاهرة عبدالمحمود عبد الحليم، قد أكد في مداخلة تليفزيونية أمس الثلاثاء، أهمية زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي للسودان، منوها بأن الشعبين المصري والسوداني "شعب واحد منذ قديم الأزل" فيما لفت لخصوصية العلاقات وقوة الوشائج الثقافية والاجتماعية بين البلدين الشقيقين.
ولئن خلص مثقفون في البلدين الشقيقين إلى أن هناك "خصوصية" بين مصر والسودان صنعتها اعتبارات الجغرافيا ومسيرة التاريخ وحركة البشر على نحو ربما لم يتيسر لأي شعبين في المنطقة فإن "الثقافة" من أهم الثوابت في العلاقات بين شعبي وادي النيل.
ودعم التعاون الثقافي بين مصر والسودان يتفق دوما مع حقائق التاريخ ومعطيات الجغرافيا التي تؤكد بدورها أهمية المضي قدما في التعاون الاقتصادي والتجاري وكل مجالات التنمية لشعبين جمعهما القدر بأواصر لا يمكن أن تنفصم.
وهكذا يقول الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة: إن السودان ليس جارا عاديا لمصر. مشيرا إلى جذور امتدت منذ سنوات بعيدة بين البلدين والتلاحم البشري بين الشعبين اللذين يوحدهما النيل منذ آلاف السنين، و"هناك أجيال متعددة جمعت بين دماء السودان ودماء مصر" بينما يصف الدكتور مصطفى الفقي مدير مكتبة الأسكندرية البلدين الشقيقين "بالدولتين التوأم" مؤكدا على أهمية "المشترك الثقافي". 
وقد تستدعي حالة ابداعية سودانية بالغة التوهج مدى قوة الوشائج الثقافية والاجتماعية التي تتضمن روابط النسب والرحم بين السودانيين والمصريين وهي حالة المبدعة ليلى ابو العلا التي أضحت كاتبة عالمية وواحدة من نجوم الأدب المكتوب بالانجليزية وصاحبة حضور واضح في الصحافة الثقافية الغربية.
فالروائية السودانية ليلى أبو العلا التي ولدت عام 1964 بالقاهرة ونشأت في الخرطوم تحمل درجة الدكتوراه في الاحصاء من بريطانيا وصاحبة الروايات والمجموعات القصصية المتعددة واخرها مجموعة "بيت في مكان آخر" التي تضم 13 قصة قصيرة ابدعتها بالانجليزية واحتفت بها الصحافة الثقافية الغربية هي مصرية الأم ووالدتها استاذة جامعية في "الديموجرافيا" وكانت عميد كلية التجارة في جامعة القاهرة فرع الخرطوم.
ولاحظت جريدة "الأوبزرفر" البريطانية في سياق تناول نقدي لهذه المجموعة القصصية الجديدة ان ليلى أبو العلا لم تتخل في "قصصها الجميلة" عن الحنين للوطن الذي يسكن في قلبها وعقلها وبين ضلوعها كما استمرت هذه المبدعة السودانية-المصرية في تناول قضايا المهاجرين للغرب. 
ورأت "الأوبزرفر" أن مشاعر الشوق للوطن والحنين للبيت القديم لم تراجع ابدا في قلب وعقل الدكتورة ليلى أبو العلا منذ ان ابدعت روايتها الأولى:"المترجمة" في عام 1999 وتوالت اعمالها مثل:"اضواء ملونة" و"منارة" و"حارة المغني" فيما ترجمت ابداعاتها في القصة والرواية من الانجليزية للعديد من اللغات الأخرى.
وفي مجموعة قصصها القصيرة:"بيت في مكان اخر" استبصارات مثقفة سودانية-مصرية للعلاقات بين البشر في الشرق والغرب واشكاليات الهوية ومنظومات القيم لهؤلاء القادمين من الشرق للغرب ومن بينهم شابة مصرية تعيش في لندن وتسكنها قيم أمها "لطيفة" فيما اكد نقاد في الصحافة الثقافية الغربية أن هذه المجموعة القصصية القصيرة تظهر ان تلك الكاتبة السودانية-المصرية قد امسكت بزمام القصة القصيرة المكتوبة بالانجليزية. 
وحصلت ليلى فؤاد ابو العلا على جائزة "كاين" العالمية للأدب الافريقي عام 2000 عن قصتها "المتحف" ضمن مجموعتها القصصية "اضواء ملونة" واختارتها صحيفة "نيويورك تايمز" كواحدة من اهم الكتاب على مستوى العالم في عام 2006 فيما يمكن لقاريء أعمالها أن يرى ألوان من الحياة الشعبية والشوارع في السودان ومصر وبريطانيا.
وتوضح ليلى أبو العلا- التي كان عمها حسن ابو العلا من أبرز شعراء السودان في أواسط القرن الماضي- انها تكتب بالانجليزية لأن كل تعليمها كان بالانجليزية، وكذلك أغلب القراءات فيما تعتبر أن اللغة الانجليزية "لغة عالمية وليست لغة الغرب فحسب" كما ترى ان "المسافة بين الشرق والغرب ليست كبيرة مثلما كانت في الماضي غير ان هناك حاجة للحوار ويمكن للأدب ان ينهض بدور ايجابي في هذا الحوار المنشود كما يمكن للأصوات العربية والاسلامية ان تكون جزءا من عملية التبادل الأدبي العالمي". 
ولئن جاءت أغلب ابداعات ليلى ابو العلا متصلة بالاغتراب والهجرة واشكاليات الأفارقة والمسلمين في الحياة بالغرب فهي تقول عن نفسها:"انا متأثرة بالثقافة المصرية بصورة كبيرة" وتشعر بالفضل والامتنان لوالدها ووالدتها لتشجيعها على القراءة في بدايات تكوينها الثقافي.. مضيفة:"وقد وفرت لي والدتي على وجه الخصوص الكثير من الكتب وكانت قدوة ممتازة في جمعها لدور الزوجة والأم مع المهنة كأستاذة جامعية".
وفي خضم هذه الوشائج بين المصريين والسودانيين وتجلياتها في مواكب النور والابداع وعرائس الشعر لم يكن من الغريب ان تتغنى "كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي" ام كلثوم بكلمات الشاعر السوداني الهادي آدم في رائعة "اغدا القاك".
إنها أواصر ووشائج محبة وقدر مشترك تنساب تلقائيا في ابداعات المثقفين في البلدين الشقيقين مثل الشاعر السوداني الراحل التجاني يوسف بشير الذي كان يذوب عشقا لمصر فيما كانت واحدة من اهم المجلات الثقافية في تاريخ مصر والعالم العربي تحتفي بشعره وهي مجلة "الرسالة" التي ترأس تحريرها الأديب المصري احمد حسن الزيات.
وإذا كان الشاعر السوداني التجاني يوسف بشير يلخص بشعره "الشاعرية السودانية" في رأي كثير من النقاد الذين رأى بعضهم انه مازال بين كوكبة تتصدر المشهد الشعري السوداني رغم تتابع الأجيال بعده وتدفق مياه جديدة في نهر الشعر السوداني فان ذاكرة الابداع الشعري تحفظ ماقاله في حب مصر.
ومن أطرف ماقاله التجاني يوسف بشير بعد شعوره بالاحباط جراء عجزه عن تدبير ثمن تذكرة للسفر الى مصر:"كلما انكروا ثقافة مصر كنت من صنعها يراعا وفكرا...نضر الله وجهها فهي ماتزداد الا بعدا علي وعسرا" !
والتجاني يوسف بشير الذي ولد في ام درمان عام 1912 ورحل عن الحياة الدنيا عام 1937 كان من اعلام الحركة الوطنية السودانية وتجلى ابداعه الشعري في ديوانه "اشراقة" بأشواق ومكابدات روحية ووجدانية
وكان الشاعر والكاتب والإعلامي الراحل فاروق شوشة قد لاحظ في طرح حول هذا الشاعر السوداني المبدع انه رحل عن خمسة وعشرين عاما شأنه في ذلك شأن الشاعر التونسي ابو القاسم الشابي وكلاهما كان يلخص شاعرية بلاده في زمانه.
وأشار فاروق شوشة الذي قضى في الرابع عشر من اكتوبر عام 2016 الى انه سمع بالتجاني لأول مرة من خلال كتاب "الروائع لشعراء الجيل" الذي اصدره الأديب المصري محمد فهمي وهو كتاب حظى باقبال كبير "بين شداة الأدب" في خمسينيات القرن الماضي.
وقد يكون مافعله هذا الأديب المصري في خمسينيات القرن العشرين مع هذا الشاعر السوداني الذي قضى في ريعان شبابه وتسليطه اضواء كاشفة على عبقرية التجاني عندما قدمه بكتابه للمثقفين والمهتمين بالأدب والابداع في مصر والعالم العربي قد تكرر على نحو ما في ستينيات القرن ذاته عندما قام الكاتب والناقد المصري الكبير رجاء النقاش الذي قضى في الثامن من فبراير عام 2008 بتقديم احد اهم المبدعين عبر التاريخ الثقافي السوداني للقاريء العربي آلا وهو المبدع الكبير الطيب صالح.
فلن تغيب عن الذاكرة الثقافية المصرية والعربية الدور الذي نهض به رجاء النقاش في تقديم ابداعات الروائي السوداني الكبير الطيب صالح صاحب "عرس الزين" و"مريود" و"ضو البيت" للقاريء المصري والعربي عموما تماما كما كان للكاتب الصحفي الراحل احمد بهاء الدين اضافة للناقد رجاء النقاش القدح المعلى في تقديم الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش للمتلقي العربي من المحيط الى الخليج.
وبكل الحب والفهم كان الأديب السوداني الكبير الطيب صالح صاحب "ود حامد" و"منسي" يتحدث دوما عن مصر ومبدعيها بل إنه كان كسوداني يقول عن المصريين إنهم:"نحن" وكان يبدي دوما اعجابا كبيرا بقصائد العامية المصرية للشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي.
وفيما يحق وصف الشاعر الراحل محمد الفيتوري الذى حمل دماء مصرية-سودانية-ليبية بأنه ضمن مكانة خالدة في ديوان الشعر العربي المعاصر لريادته الشعرية المجددة سواء على مستوى المضمون او الشكل معانقا رحاب الحداثة فانه يحق ايضا القول بأن قصة الفيتوري انما تؤكد ان "مصر هي صانعة النجوم في الثقافة العربية وسماء الابداع للناطقين بلغة الضاد".
ولعل الشاعر الكبير محمد الفيتورى كان افضل تعبير فى تكوينه ومسيرته فى الحياة والابداع عن مدى التداخل والتفاعل الثقافى العربي وهو الذى عاش سنوات التكوين والدراسة فى مصر وانطلقت شهرته منها.
فقصة الفيتورى فى الحياة والابداع دالة لفهم اهمية الدور الثقافى المصرى الذى تجلى على لسان الشاعر الراحل كامل الشناوى وهو يقدم ويزكى الشاب محمد الفيتورى للعمل فى مجلة "اخر ساعة" المصرية فى بدايات خمسينيات القرن العشرين ويقول لرئيس تحريرها حينئذ محمد حسنين هيكل:"ان مصر تاريخيا هى صانعة النجوم فى الثقافة العربية" متنبئا لهذا الشاب بأنه سيكون نجما جديدا من نجوم الابداع الشعرى تقدمه مصر للعرب. 
وقصة الفيتوري الذي توفي في شهر ابريل عام 2015 بمستشفى في العاصمة المغربية الرباط عن عمر يناهز 85 عاما دالة ايضا على مدى عمق وخصوصية العلاقة بين ما يعرف ببلدان "المثلث الذهبي العربي" اي مصر والسودان وليبيا وحقيقة التفاعل الطبيعي على المستوى الثقافي بين المصريين والسودانيين والليبيين.
ومحمد مفتاح الفيتوري الذي يعتبره كثير من المثقفين المصريين "واحدا منهم" ولد بالسودان ونشأ بمدينة الأسكندرية وتخرج في كلية دار العلوم في جامعة القاهرة وشغل مناصب دبلوماسية في سفارات ليبيا وكانت افريقيا حاضرة بصورة لافتة في عناوين دوواينه:"اغاني افريقيا" و"عاشق من افريقيا" و"اذكريني ياافريقيا".
وواقع الحال ان مصر كانت حاضرة في ابداعات الفيتوري التي عبرت عن تعدد وثراء وتداخل مستويات هويته العربية والافريقية فيما ارتبط صاحب ديوان "سقوط دبشليم" بأوثق العلاقات مع مثقفين ومبدعين مصريين مثل الشاعر والكاتب كامل الشناوي الذي أخذ بيده في بداية مسيرته الابداعية التي استمرت حتى وهو يتجول بين عواصم ومدن مثل بيروت وروما والرباط.
ولعل استمرارالدور الثقافي والتاريخي لمصر "كصانعة للنجوم في الثقافة العربية" يتجلى في حالة الكاتب والروائي السوداني الشاب حمور زيادة الذي فاز في عام 2014 بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن روايته "شوق الدرويش". 
وكانت الروائية المصرية سلوى بكر وصفت رواية "شوق الدرويش" لحمور زيادة بأنها "عمل كبير ومهم وستكون علامة بارزة في تاريخ الأدب السوداني" وهو الأدب الذي مازال الراحل العظيم الطيب صالح يشكل قطبه الأعظم برواياته الخالدة مثل "موسم الهجرة للشمال" 
ومنذ عدة سنوات يعيش حمور زيادة صاحب "سيرة أم درمانية" و"الكونج" في "وطنه الثاني مصر" ليواصل ابداعه ويكتب احيانا مقالات وطروحات عبر منابر صحفية وثقافية مصرية، فيما نوه الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد بأن روايات هذا المبدع السوداني الشاب تعبر عن قدرته الكبيرة على التصوير البصري وتميز "بغرائبية تعيد للأذهان أدب امريكا اللاتينية". 
والى جانب حمور زيادة صاحب المجموعة القصصية "النوم عند قدمي الجبل"، فان الروائي السوداني الدكتور أمير تاج السر صاحب روايات "مهر الصياح" و"زحف النمل" و"العطر الفرنسي" و"صائد اليرقات" و"ايبولا 76" عاش بمصر عدة سنوات ودرس في كلية الطب بجامعة طنطا ويستعيد دوما ذكرياته في المحافل الأدبية المصرية.
ولئن رددنا مع الشاعر السوداني التجاني يوسف بشير شعره الخالد حول النيل الذي وصفه "بسليل الفراديس" وخاطبنا معه النيل قائلين:"انت في مسلك الدماء وفي الأنفاس تجري مدويا في انسيابك" فان النهر الخالد يجمع دوما وسيجمع للأبد بين شعبي وادي النيل..انه دفق العطر والحب في القلوب والعقول.