الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

الأخبار

الأزهر: الداعية الصيني "ما لاي تشي" نموذج لسماحة الإسلام

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أبرزت وحدة الرصد الصينية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف، اليوم الإثنين، صورًا من حياة الداعية الصيني (ما لاي تشي)، مشيرة إلى أنّ حياته مثال لسماحة الإسلام، ودليلٌ قوي في مواجهة كل من يلصق التُهم بالإسلام مدعيًا انتشاره بالسيف، كما كان منهجه نموذجًا يُحتذى به في طريق الدعوة إلى الله، ولقد صدق الله تعالى حيث قال في كتابه العزيز: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ".
وتابعت الوحدة في إطار عرضها لحياة الداعية الصيني لم تكن القرون الطويلة التي مرت على وفاته قادرة على محو ذِكراه من قلوب ملايين الصينيين المسلمين، والذين يدينون له بالفضل على نشر الإسلام في الأراضي الصينية خلال القرن الثامن عشر، وبالرغم من شهرته الواسعة بين مسلمي الصين إلا أنّ حياته مجهولة لدى الشعوب العربية؛ لعدم وجود تراجم عن سيرته، موضحة أن حكمته وسياسته في ترسيخ العقيدة الإسلامية في الأراضي الصينية درسًا لكل الدعاة في كيفية نشر الإسلام بين مئات الألوف من الصينيين من مختلف القوميات.
وُلد (ما لاي تشي) في عهد الإمبراطور (كانغ شي) عام 1681 بمدينة "قانسو" غرب الصين بمقاطعة "خاي دجوو" والمسماه حاليًا مقاطعة "لين شيا"، وتربى وسط عائلة مسلمة غنية، حيث كان جده أحد الجنرالات العسكريين في الإمبراطورية الصينية، وكان والده يعمل بالتجارة، ولكن قبل ولادته بفترة وجيزة تعرّضت عائلته للإفلاس؛ مما حرمه من التمتع بالحياة الثرية التي عاشها أجداده، الأمر الذي جعل والده يتنبأ له بحياة صعبة، ولذلك سمّاه (لاي تشي) -والذي يحمل معنى "مَن أتى متأخرًا"-، وكعادة مسلمي الصين في تسمية أبنائهم بأسماء عربية بجانب أسمائهم الصينية فقد أطلقوا على (ما لاي تشي) اسمًا عربيًا وهو (عبدالحليم). وبرغم الظروف القاسية التي عاشتها أسرة (ما) لكنها لم تمنع والديه من إرساله وهو في سن الثامنة من عمره ليتعلّم أمور الدين في أحد مساجد مدينة "تشينغهاي"، وهناك أيضًا تعلّم اللغة العربية على يد الشيخ (تاي بابا)، ليُعجب به شيخه ويُعيّنه إمامًا وهو لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره.
في عام 1728 كان (ما لاي تشي) قد بلغ الثانية والأربعين وقرر وقتها الذهاب لبيت الله الحرام لأداء فريضة الحج تلبيةً لدعوة أحد التجار المسلمين العرب والذي زار مدينته. وقبل سفره للحج ذهب (ما) إلى مسجد "خوي شين" بمدينة "قوانغ تشو" لدراسة العديد من العلوم التي سيحتاج إليها في رحلته للحج: كالجغرافيا والأعراف واللهجات العربية، وتعلّم ذلك كله في غضون شهور قليلة. وبعدما أنهى دراسته سافر إلى مدينة "عدن" اليمنية عن طريق البحر، ومنها إلى "مكة المكرمة" ليحظى بمقابلة الشيخ (محمد بن أحمد) أحد مشايخ الصوفية، ويتعلّم على يديه العديد من المشارب الصوفية مثل: الشاذلية والقادرية، طوال ثلاث سنوات كاملة حرص خلالها على أداء فريضة الحج كل عام، كما التقى بكبار علماء المسلمين في ذاك العصر والذين يجتمعون في موسم الحج.
ولم يكتف (ما) بالدراسة في مكة المكرمة، بل انتقل منها إلى عدد من المدن الإسلامية كدمشق وبغداد والقاهرة وإسطنبول، ليقض بها ثلاث سنوات أخرى زار خلالها الأماكن التي شهدت ازدهار الحضارة الإسلامية، واطّلع على فن العمارة الإسلامية العظيمة، وتعرّف على كبار علماء الإسلام بهذه المدن؛ الأمر الذي ساهم في ازدياد خبراته ومعارفه.
في عام 1734 وبعد مرور ست سنوات من السفر وتلقّي العديد من العلوم، عاد (ما) إلى الصين بعد أن اكتسب الكثير من المعارف والخبرات، فوصل عن طريق البحر إلى ميناء "هونغ كونغ" الشهير ومنه إلى "قوانغ تشو"، ليصبح إمامًا ذا مكانة عالية في المجتمع الإسلامي هناك. ومن مدينة تشينغهاي بدأ في نشر مذهبه الصوفي، وبعد تلقّيه دعوات للتدريس في العديد من المساجد في مقاطعات "يوننان، وخنان، وشنشي" بدأ ينشر أفكار مدرسته الصوفية الجديدة التي تعني "الخُفْيَة"، ليُصبح واحدًا من أشهر العلماء المسلمين في شمال غرب الصين.
إنّ من أشهر أعمال (ما) وأشدها أثرًا بين المسلمين هو نشره الإسلام في إقليم "التبت" وتحديدًا في مدينة "كارنج"، فبالرغم من كِبر سنه آنذاك حيث بلغ 75 عامًا، قصد (ما) مدينة "كارنج" بالإقليم التبتي، وبدأ في نشر دعوته هناك والتي لم يكن تأثيرٌ كبير في بدايتها. لكن مع إصراره وأسلوبه السلس في نشر الإسلام بدأ في جذب أسماع الناس وأذهانهم، _ووفقًا لروايات مسلمي التبت_ فإنّ الحدث الأكبر الذي كان له أثرٌ كبير في اعتناق البوذييين للإسلام، ما حدث في مدينة كارنج التبتية في فترة جفاف لم تشهدها المنطقة منذ أكثر من مائة عام سابقة، فطلب الرهبان البوذييون وزعماء المدينة من الداعية الإسلامي (ما) إيجاد حلٍ لهذه المشكلة، فأخبرهم بأنّ في الإسلام صلاة تُؤدى حال انقطاع المطر والإصابة بالجفاف وتُسمى "صلاة الاستسقاء"، فطلبوا منه أن يُصليها ولم يتوقعوا نتيجة لذلك، لكن شاء الله تعالى أن تُمطر السماء ثلاثة أيام وبلا توقف وذلك على حسب العديد من الروايات باللغة الصينية التي توفرت لمرصد الأزهر، فكانت تلك المنحة من الله تحولًا كبيرًا في دعوة (ما) ولفت أنظار الناس إليه، لكن ما لبثت هذه الشهرة الواسعة أنْ جعلته يمثل خطرًا على القيادات البوذيّة في المدينة؛ فخططوا لمقتله والتخلّص منه مما اضطره إلى الهرب، الأمر الذي جعل الكثيرين يتعاطفون معه ودخل عددٌ كبيرٌ منهم الإسلام. وبالرغم من أنّ المسلمين في إقليم التبت لا يزالون أقليّة مقارنةً بسكان التبت البوذيين، إلا أنّ (ما) قد وضع بذرة الإسلام على هذه الأرض لتنمو وتزدهر بمرور الأيام والسنين.
كان لحكمة (ما) الكبيرة دورٌ مهم في فهم فِكرة أنّ نشر الإسلام في التبت أمرٌ يحتاج لوقت طويل وسياسة حكيمة؛ ففي بداية دعوته قام بتأسيس مسجد إسلامي في مدينة "كارنج"؛ ليكون نقطة انتشار دعوته الإسلامية، وأرسل العديد من الأطفال إلى مسجد مقاطعة "خاي دجوو" ليتعلموا الدين الإسلامي والعادات الإسلامية ليعودوا بعد ذلك أئمة مدينة "كارنج". وبعد عِدة سنوات من الدعوة تُحوّل أغلب سكان كارنج إلى الإسلام، ليسود في المدينة أسلوب حياة جديد مختلف عن الحياة البوذية القديمة، ومعها بدأ أهالي التبت استخدام بعض الكلمات من اللغة العربية. وكان من أساليب (ما) في دعوته للإسلام استهداف زعماء مدينة "كارنج"؛ فقد استطاع اكتساب ثقة العديد من زعماء المدينة وخاصة الرهبان، فاستطاع أن يُقنع زعيم الرهبان البوذيين بالمدينة بالدخول في الإسلام، وذلك بعد مناظرات عِدّة؛ مما ساعد في دخول الكثير من أتباعه الإسلام.
ومن أكثر المواقف التي أظهرت حِكمة وذكاء (ما) في مجال دعوته الإسلامية هو تفاديه الصِدام مع العادات القديمة للمجتمع التبتي حديث العهد بالإسلام، وتقديمه بعض التنازلات الضرورية، وظهر ذلك عندما بدأ بتعليم الإسلام لأبناء مدينة كارنج، فاصطدموا في البداية بالتعاليم الإسلامية المخالفة لأسلوب حياتهم القديمة، لكن حكمة (ما) كان لها أثرٌ بالغ في تفادي هذا الصدام، فلم يُجبرهم على موافقة التعاليم الإسلامية جملةً، وأهم هذه الأمثلة هو موافقته على استمرارهم في تربية الخنازير مع التوقف عن أكله، وموافقته على عدم تغيير الزِي التقليدي لهم واستبداله برداء إسلامي طويل إلا في وقت صلاة الجمعة؛ فكان لمثل هذه التصرفات دورًا فعالًا في اعتناق الآلاف من التبتيين الإسلام، وما لبث أنْ توقف التبتييون عن تربية الخنازير أيضًا.
ولم تمض السنتان حتى أصبحت مدينة كارنج نقطة تمركز لنشر الإسلام في التبت كلها، ولم يكتف (ما) بما وصل إليه في دعوته، بل قرر الذهاب إلى مقاطعة تشينغهاي لنشر الإسلام، فنتج عن هذا المجهود العظيم إسلام خمسة سكان قرى في منطقة "باو آن"، لكن ذلك أغضب بعض الرهبان فتأمروا عليه وادعوا كذبًا أنّ (ما) يُمارس السحر، فتم احتجازه في مدينة "لانتشو" لمدة عام قبل أن يُحوّل للمحاكمة، لكن ما لبث أنْ ثبُتت براءة (ما) من قِبل المحكمة الإمبراطورية في بكين، لتزداد شهرته ويعلو نجمه وتتم دعوته من مقاطعات عِدة للتدريس في مساجدها كان أهم هذه المقاطعات هي بكين ودالي وخنان، وليعود أخيرًا إلى مقاطعته ومسقط رأسه "خاي دجوو".
أراد (ما) أن يختم حياته بأداء مناسك الحج، فذهب إلى البيت الحرام قاصدًا الحج ليعود بعدها إلى الصين في صراع مع المرض إلى أن لقي ربه يوم 11 أكتوبر 1766 عن عمر ناهز الـ 85 عامًا، تلك الحياة الطويلة التي وهبها لنشر الإسلام في مختلف المقاطعات والمدن الصينية منها: "تشنغهاي، وقوانغ تشو، وهيشو، وشون هوا، وهوا لونغ، وجوي دا، وتون رين، وشين ينغ، وبكين، ويوننان"، كما كان له الفضل في التعريف بالإسلام وتعاليمه السمحة بين أبناء القوميات الصينية والتي لم تكن تعرف قبل ذاك الوقت شيئًا عن الإسلام كقومية التبت، تلك القومية التي اعتنق الإسلام فيها بفضل دعوة (ما) أكثر من 200 ألف تبتي، كما قام ببناء أحد أشهر مساجد الصين وهو مسجد "مين خوان" سنة 1748.