لم يكن رواج نجوم دعاة «الكاسيت» فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى بمعزل عن تماهى المؤسسة الدينية الرسمية مع أنظمة الحكم، ففى الوقت الذى كان فيه خطباء الأزهر الشريف و«الأوقاف» يطالبون رواد المساجد بالامتثال إلى أوامر الله ورسوله وأولى الأمر، ويدعون إلى رئيس الدولة بالسداد والتوفيق، ظهر خطباء الكاسيت ليجاهروا بعدائهم لأنظمة الحكم، ينتقدونهم جهارًا نهارًا، فراجت بضاعتهم، وتحولت الدعوة مع الوقت إلى «بيزنس».
صار «زعيق» الشيخ كشك ودعاؤه على عبدالناصر والسادات وأم كلثوم وعبدالحليم أمرًا عاديًا فى سيارات الأجرة والمحلات التجارية فى المناطق الشعبية، ومع الوقت تحولت التجارة فى شرائط كشك ومن نهج نهجه أمام مساجد الاستقامة والفتح والنور وغيرها إلى «سبوبة» يقتات منها بعض أصحاب اللحى، فالرجل الفصيح خفيف الدم صاحب القفشات الفكاهية تعاظم عليه الطلب.
وقبل انتصاف عقد التسعينيات ظهر عدد من التلاميذ النجباء للشيخ كشك، استحضروا طريقته لكنهم تجنبوا طريقه فى مناصبة أنظمة الحكم العداء، فمخاصمة الدعاة للدولة فى هذا الوقت كانت مكلفة والضرب كان فى «سويداء القلب» على حد تعبير وزير الداخلية الأسبق زكى بدر.
توفى كشك نجم «الكاسيت» فى منتصف العقد الأخير من الألفية الماضية، وسطع نجم خلفائه من دعاة السلفية بمختلف تياراتها ومدارسها، وساعدهم على الانتشار تلك الريح الشرقية الوهابية، التى هبت على المحروسة فغيرت مزاج وعادات أبنائها، فضلًا عن الغياب شبه الكامل لخطباء المؤسسة الرسمية وتغييب صوت دعاة التنظيمات الأصولية.
ومن مسجد العزيز بالله بحى الزيتون ظهر الداعية المفوه خريج كلية الإعلام الشيخ محمد حسان، وبعد أن ذاع صيته استثمرت إحدى شركات الإنتاج شعبيته، فسجلت خطبه ونسختها على شرائط كاسيت وملأت بها مداخل المساجد.
وفى ذات الفترة صعد نجم الشيخ محمد حسين يعقوب، الذى تحول إلى نجم «الميكروباص» بعد انتشار خطبته «أنت ما بتصليش ليه»، فيما ظل الشيخ عمر عبد الكافى أحد منافسى سوق الدعوة عبر «الكاسيت» انطلاقا من مسجد أسد أبن الفرات فى الدقى ودروس نادى الصيد.
وما أن انتشرت الأطباق الفضائية على أسطح المنازل حتى انتقل هؤلاء الدعاة إلى شاشات التلفاز، يجتذبون العامة ويبنون جمهورهم فى المناطق الشعبية، وحققوا من خلال ذلك ثروات لا بأس بها، حتى إننى ذهلت عندما لمحت الشيخ يعقوب بالصدفة فى شارع جامعة الدول يركب «هامر»، فتتبعت سيرة هؤلاء المشايخ فعرفت أنهم يسكنون القصور، ويحشرون فيها الزوجات حسب الشرع، فتعجبت على حال الدعوة إلى الله.
وفى عز سيطرة دعاة السلفية الجدد، ظهر شاب أنيق يرتدى الزى الأفرنجى، هبط على سطح مسجد الحصرى بالعجوزة، يستخدم العامية ويستهدف جمهور لم يقنعه «زعيق» مشايخ السلف، ابتعد عن مساحات عذاب القبر وأهوال يوم القيامة وانتقل إلى سيرة النبى وخصال أصحابه.
استخدم عمرو خالد الذى هجر الإخوان وتنظيمها بعد حصوله على بكالوريوس التجارة، أسلوبا مسرحيا فى إقناع جمهوره، يؤدى وكأنه يقف أمام كاميرا سينما، يصطنع البكاء وكأنه يقف على خشبة مسرح فتبكى معه القاعة، ويصفق له جمهوره.
خطف الداعية المودرن قلوب المناطق المودرن ومرتادى النوادى الذين وجدوا ضالتهم فى خطاب لا يذكرهم بالفقراء ولا ينكد عليهم بأحوال البلد والسياسة، ويحدثهم عن بناء الإنسان ودوره الإيجابى فى المجتمع دون الإلحاح على الآخرة وحسابها، فصار نجمًا ساطعًا وظاهرة توقف عندها الباحثون.
حول خالد دفة الدعوة بعد أن صار نجم شباك، فجذب عددا آخر من الدعاة المودرن، وبرزت أسماء جديدة وضعت نصب أعينها عمرو ونجاحه الساحق فى تحويل «الدعوة» إلى نجومية وحسابات بنكية فلكية، فحجز معز مسعود ومصطفى حسنى موضعًا فى هذه السوق الفاخرة، وجذبوا إليهم جمهور الفضائيات الباحث عن التدين الخفيف.
فى مطلع القرن الحالى أجريت حوارًا مع المغفور له الشيخ محمد الراوى عن ظاهرة الدعاة الجدد، سألته عن تقييمه لهم فقال بخفة دم «خليهم ياكلو عيش»، سألته عن عمرو خالد فرد ساخرًا «ده الممثل؟»، فعدت السؤال بصيغ أخرى فانفعل وقال «أليس أحد هؤلاء من بارك ضرب الأمريكان للعراق، يلعن...»، وطلب منى البحث عن موضوع آخر للحوار.
كان لصديقى الراحل حسام تمام الباحث البارز فى ملف الجماعات الإسلامية رأيٌ فى ظاهرة تحلق أبناء الذوات حول «الدعاة الجدد» لخصه فى أكثر من دراسة منشورة قبل رحيله عام 2011، قال فيه: «هذه الشرائح البرجوازية تريد تدينًا بدون كلفة سياسية، لا يتصادم مع النظام السياسى القائم.. ونمط التدين الذى يقدمه الدعاة الجدد هو نمط مرتبط بهذه الشرائح التى لديها رغبات وطموحات فى الصعود الاجتماعى، وفى ذات الوقت تريد تدينًا يشبع حاجتها الروحية دون خسارة مكاسبها وامتيازاتها الاجتماعية، أو فقدان طموح المتعة واللذة والسعادة والراحة، فوجدت فى خطاب هؤلاء الدعاة النموذج المناسب».
مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعى وتحولها إلى قوة تنافس الإعلام التقليدى، استخدم عمرو ورفاقه كل شطارتهم فى السيطرة على جمهور تلك المواقع، وتمكنوا فى فترة وجيزة من حجز مساحات من بوستات وتعليقات متابعى «السوشيال ميديا» لا تقل عن المساحة، التى يحظى بها نجوم الفن، حتى تحولوا مع الوقت إلى «تريندات».
اصطنعوا معارك وهمية وخاضوا فى ملفات لم يكن للدعوة إليها سبيلا من قبل، وشاركوا فى مسلسلات وأفلام، معتمدين على مهارتهم فى التمثيل والإقناع، جعلوا من الدعوة إلى الله طريقًا إلى الحسابات المليونية، يناقضون أنفسهم فيدعون الناس علنًا إلى التقشف والزهد، بينما يعيشون حياة مخملية تشبه حياة البارونات.
من حق معز مسعود أن يتزوج مرة واثنتين وثلاثة، ولا تثريب على عمله فى الإنتاج الفنى أو زواجه من الممثلة شيرى عادل، إنما القضية فى اتساق ما يطرحه كداعية مع أفعاله أمام جمهوره، فتناقض مسعود وخالد ورفقاهما عكس صورة سلبية عن الدعوة، التى ضاعت بين خطباء مؤسسة تكلست بفعل الزمن و«زعيق» أصحاب اللحى المحناة وشراهة الدعاة الجدد إلى ملذات الحياة.
Saadlib75@gmail.com