الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فساد الأمكنة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
* فذلكة
مثل أغنية للأخوين الرحباني، ومثل فيلم بتلك الألوان الشبيهة بالأبيض والأسود التى يمثل فيها فريد الأطرش أو نور الهدى أو صباح...
مثل تلك الألحان الفيلارمونية المليئة بذبحات الكمنجات التى كانت تساير أشعارًا باللغة العربية الفصحى تغنيها فيروز رفقة جوقات رومانسية...رومانسية كصوت الكمنجات فى الأفلام القديمة.
هل للرومانسية علاقة بالكمان؟... رغم أن عصر النهضة والعصر الباروكى هما عصرا الكمان بامتياز إلا أن شيئا ما ظل يربط الكمان بالرومانسية فى ذهن صاحبنا...
صاحبنا؟... إنه حسين. حسين أستاذ الرياضة فى مدينة ثمانينية ثرية بالحلم رغم فقرها الذى هو شبل من أسد الفقر الجزائرى فى ثمانينيات القرن الفائت...
* تنويعات
لم يكن درويش فى بيروت التى رثاها بشكل جميل حينما قال:
الكمنجات تبكى مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس
الكمنجات تبكى على العرب الخارجين من الأندلس
كان درويش هو بقايا بيروت التى فى أحشاء صاحبنا... لأن بيروت كانت هى بقايا الأندلس فى أحشاء التاريخ..
كل هذا، وسواه كثير، كان يعتمل باستمرار فى دماغ صاحبنا... «حسين» مدرس الرياضة عاشق الموسيقى. الجميع فى بلدته كان يحبه رغم أنه كان مزعجا للجميع بسبب طريقته الاستعراضية فى الشرب. كان يسكر حد الثمالة فالعربدة. يسب ويقول الفظيع من الكلام لمن يواجهه أو يقول له أن يتحكم قليلا فى نفسه، أو يدعوه إلى قليل من الحياء.
فى الصباح يسأل بطريقة خفية عمن أصابهم بأذى وهو غير واع، ويذهب إليهم واحدا واحدا للاعتذار وطلب المغفرة. كانوا يسامحونه جميعا لعلمهم أنه ضحية الاستعمار الفرنسى الذى أخذ أباه الشهيد الذى ذبح أمام أمه صاحبة الثمانية عشر عاما، والتى فقدت عقلها ليلتها، وظلت تجرجر ابنين مختلين وخللا فى العقل وفى المكتوب إلى غاية موتها عن عمر طويل اختزلته الحياة فى ثلاث ليال مشهودة، ليلة دخولها وحملها، ليلة خروج زوجها للالتحاق بصفوف المجاهدين، وكان يعدها بأنهما سيكونان فى الجنة معا، ثم ليلة ذبح زوجها الذى ظل يرتج ساعة فوق أرضية الكوخ ومعها سكن ارتجاج وصداع كبيران دماغها فظلت تكرر لخمسين عاما: «رأسى يطلق على الرصاص» للكناية عن الألم الشديد.
لم يحدث له أن زار ذلك المكان. أقنعته أمه بأنه مكان فاسد وأنه إن ذهب إلى هناك سيذبحونه هو أيضا.
اختزل حسين حبه للأشياء الجميلة فى بيروت التى تربى على رؤيتها جنة فى سبعينيات القرن العشرين؛ حيث كانت بيروت عاصمة الدنيا. قبل أن يعود الاستعمار مرة أخرى ليفسد بيروت ويصيبها بالخلل الذى يلازمه. اكتفى بالكف عن متابعة التليفزيون، وجعل يقنع نفسه بأن الحرب اللبنانية لا تعنى سوى حى أو حيين جانبيين، أما بيروته هو فيطلع عليها فى الأفلام صارخة الألوان: صباح- فيروز- فريد الأطرش- دريد لحام.
كان خياله ملجأ جيدا لتجنب فساد الأمكنة.
كانت متعته الأولى والأخيرة هى كتابة «بيروت» بخط الرقعة على سبورة الإعلانات بالطبشور الأصفر. أصفر فاقع لونه يسر الناظرين. وكان الجميع يعلم أنها زاوية «سيدنا الحسين» كما كان الزملاء المحبون يكنونه. وحدث ذات مساء مشئوم من عام ١٩٩١، أن دخل الساحة فلاحظ أن أحدهم قد محا نقطة الباء فى بيروت وعوضها بالنون، فتحولت «بيروت» إلى «نيروت»... غشى حسين غضب شديد. استدعى ممثلى أفواج المساء فعرف من قام بالفعلة. استدعاه إلى قاعة المراقبة وعاقبه بالضرب المبرح إلى أن أغمى على الفتى وحسين يصرخ: «كيف تجرؤ على أن تفسد بيروت. إن من أفسد بيروت فكأنما أفسد الدنيا كلها».
عاقبة موجة الهلع تلك كانت بأن طلب مدير المدرسة من حسين أن يذهب لرؤية طبيب. وأمر له الطبيب بعطلة طويلة كان من المفروض أن تكون ثلاثة أشهر فتحولت إلى عام ثم إلى ثمانية أعوام، نهايتها الإحالة إلى التقاعد.
فى غضون ذلك الوقت. انتشرت الأزمة فى شوارع الجزائر، وفسد كل مكان عرفه حسين أو سمع به. خاف حسين من أن يعود من ذبحوا أباه بسبب الجهاد ليذبحوه بسبب الخمر. أطلق لحيته وتخلص من أشرطة الغناء ليشترى أشرطة تلاوة القرآن والدروس الدينية. وأصبح لا يُرى إلا ذاهبا/عائدا من/إلى المسجد.
* زبدة القول
مات حسين بنزلة برد، وهو يسير على قدميه ذاهبا لتحدى أشباح أبيه فى المحلة التى لم يزرها طوال حياته. كان يقول لمن صلوا معه ليلتها: «سأذهب لتطهير قرية أبى وأمي... فقد فسدت الأماكن كلها. على أن أنقذ بيروت»، وكانوا يقولون له: الليلة ماطرة والسير ليلا خطير جدا، وأنت بك زكام حاد. دع الأمر للأيام المقبلة»، وكانوا يعرفون أنه لم يكن يستمع لأى شخص فى الوجود.
كان يستمع لنفسه الأمارة بالطهارة.
عندما اقتحموا بيته اكتشفوا آخر ما كان يستمع إليه: شريط إلقاء محمود درويش لمديح الظل العالى الذى كان منتشرا جدا أيامها:
سقط القناع عن القناع عن القناع... سقط القناع ولا أحد
إلاك فى هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان..