السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

دلالات الصمت

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حظيت قضايا الخطاب والتواصل على اهتمام العديد من المفكرين فى الآونة الأخيرة، ومن بين هذه القضايا «الصمت» بوصفه نسقًا خفيًا فى الخطاب يسهم فى دفع حركته ويوجَه الدلالة فى العملية التواصلية. وللصمت أبعاد ودلالات فى الخطاب تحضر حين يعجز «اللسان» أو «السارد» أو «الواصف» عن توصيل المعنى أو حين تتعطل لغة الكلام؛ وهو عنوان «البلاغة» عندما يكثر اللغو، وهو سبيل الإقناع حين تفشل مستويات اللغة عن التأسيس. ومن ثَم أصبح «الصمت» عنصرًا فاعًلا ومعطى ونسقًا حاضرًا فى كل خطاب، كما أوضح ذلك الباحث التونسى «يوسف رحايمي» فى تحليله لمفهوم «الصمت» فى الخطاب اللغوي.
ويعد «الصمت» ظاهرة غنية ومعقدة، وربما كانت بعض جوانبها واضحة ومعروفة، لكن بعض جوانبها الأخرى خافية ولا يمكن اكتشافها إلا من خلال بحث متعمق. ومن التعريفات الشهيرة للصمت أنه «السكوت والامتناع عن الكلام»، أو «إمساك اللسان» بمعنى أن «الصمت عزوف عن الكلام ورغبة جامحة فى السكوت»، أو هو «ترك الكلام مع القدرة عليه» على حد قول الجرجاني. غير أن هذا التعريف لا يسعفنا فى استجلاء ماهية «الصمت» ولا يقف عند كنهه، فنحن لا نعلم من الصامت إلا صمته، ولسنا على يقين أنه صمت بلاغة أم عجز عن التعبير. لذلك، فالصمت ظاهرة زئبقية متلونة لا نكاد نعثر عن خيط ناظم ينسجها، فهى بلاغة وبراعة من ناحية، وضعف وعجز من ناحية أخرى. «الصمت» هو الرضا والتعقل والحكمة تارة، وهو الركون والانصياع والتسليم تارة أخرى.
والواقع أن المعنى الشائع عن «الصمت» الذى يجعله مجرد مرادف للامتناع عن الكلام- أعنى نشاطًا سلبيًا خالصًا ينعدم فيه كل اتصال- يعنى أن الصمت هو توقف عن الاتصال بين الناس، بمعنى أن يكون الكلام هو وحده وسيلة الاتصال بين شخص وآخر أو مجموعة من الآخرين. وهذا المفهوم السابق لا يعبر إلا عن نظرة سطحية للصمت، ذلك لأن «الصمت» هو أحد المكونات المختلفة للاتصال، وهو ليس مجرد شيء سلبي، أو مجرد غياب للكلام، بل هو نشاط إيجابي. وقد عبر عن هذا المعنى «ماكس بيكارد» الكاتب والفيلسوف السويسرى فى كتابه «عالم الصمت» بقوله: «لا يستطيع المرء أن يتصور عالمًا ليس فيه شيء سوى اللغة والكلام، لكن يستطيع المرء أن يتخيل عالمًا حيثما لا يكون هناك شيء إلا الصمت». و«يحتوى الصمت كل شيء فى ذاته، إنه لا ينتظر أى شيء؛ إنه حاضر دائمًا وبصورة كلية فى ذاته ويملأ تمامًا الحيز الذى يظهر فيه». «لا يكون الصمت مرئيًا، ومع ذلك فوجوده واضح بجلاء إنه يمتد إلى أبعد المسافات، مع أنه قريب جدًا لنا بحيث نحسه بصورة ملموسة كما نتحسس أجسادنا؛ إنه غير محسوس مع أننا نشعر به مباشرة». 
وإذا كان «الصمت» يظهر أحيانًا مقترنًا ببعض الأعمال البشرية التى تنتج الأصوات: كالصياح أو الصراخ، أو الكلام أو الحديث أو الموسيقي، كما صرح بذلك الدكتور/ إمام عبدالفتاح فى مقاله: «فلسفة الصمت»، فإن البحث الدقيق يكشف لنا أن «الصمت» يظهر أيضًا مقترنًا بإنجازات بشرية ليس فيها أصوات كما هى الحال فى كثير من الفنون التى تستخدم الإيماءات والإشارات والحركات المنظمة، أكثر من استخدامها للأصوات مثل: «فن المحاكاة» أو التقليد؛ كذلك نجد أن القراءة الخاصة تنطوى على «الصمت»، وأيضًا كثير من الفنون الحديثة كالرسم أو التصوير والنحت وغيرها.
إذن ينتمى «الصمت» إلى النشاط الواعى المرتبط بالإنسان والعالم الذى يسكنه، فهو قوة ومبدأ أنطولوجى يدخل فى نسيج التجربة البشرية كما عبر عن ذلك الفيلسوف الوجودى «جان بول سارتر» من خلال كتابه «جمهورية الصمت»، الذى أصدره عام ١٩٤٧ فى الولايات المتحدة. وقد تحدث- فى هذا الكتاب- عن العمل السرى أثناء أهوال الحروب العبثية التى أفقدت العالم خمسين مليونًا من البشر، حيث قال: «لقد فقدنا- أثناء هذه الحروب المدمرة للبشرية- حقوقنا وأهمها حقنا فى الحرية والتعبير عن الرأي، وكنا نتلقى الإهانات علنًا وكان لزامًا أن نبقى صامتين... وكنا نرى على الجدران وفى الصحف صورة كريهة لا معنى لها لا تمت لواقعنا بصلة، لكن سلطات القهر تريد منا أن نصدقها... وبسبب كل هذا كنا أحرارًا أكثر من أى وقت مضى... هكذا بالدم والدموع تشكلت جمهورية هى الأقوى من بين سائر الجمهوريات هى جمهورية «الصمت». وقد تمكن فيلسوف الوجودية- من خلال جمهورية «الصمت»- أن يختار ذاته بحرية، وحين يختار الإنسان ذاته باختيار حريته فقد اختار الحقيقة كل الحقيقة.