الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الصحراء تلهم المبدعين والواحات المصرية "واحات ثقافية"

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تعد الصحراء مصدر إلهام للمبدعين في الغرب والشرق ويتحدث بعضهم عن "الواحات الثقافية" وهي حقيقة تتجلى في الواحات المصرية بالصحراء الغربية والتي هي في الواقع واحات للثقافة.
وفي كتاب جديد صدر بالإنجليزية بعنوان:"عالم بلا حدود: رحلات في أماكن صحراوية" يطرح المؤلف ويليام اتكينز السؤال:"ما الذي يجذب الكثير من الفنانين والكتاب نحو الصحراء"، فيما يتحدث عن بعض المناطق الصحراوية في الغرب التي يمكن أن تتحول إلى "واحات ثقافية".
وواقع الحال أن الكاتب البريطاني ويليام اتكينز عرف بشغفه في الكتابة عن الصحراء ورحلاته في المناطق الصحراوية والنائية حول العالم حتى أن كتاباته على هذا المضمار تشكل جزءا هاما من "أدب الصحراء في الثقافة الغربية المعاصرة".
وتشكل "سيوة" مصدر إلهام لكتابات متعددة سواء على مستوى الإبداع الروائي مثل "واحة الغروب" للكاتب المصري الكبير بهاء طاهر والتي تحولت إلى مسلسل تليفزيوني أو حتى الكتابات الصحفية ذات النكهة الثقافية في صحف ومجلات تتناول جوانب متعددة للحياة في هذه الواحة الفريدة فيما يحق القول بأنها تشكل "بيئة جاذبة للمبدعين".
والواحات في صحراء مصر الغربية قابلة بامتياز للتحول إلى "واحات ثقافية" ومناطق جذب للسائحين والمبدعين من كل أنحاء العالم فيما يمتد الطريق إلى "الواحات الخارجة" لمسافة تتجاوز 400 كيلومتر عبر الصحراء غرب نهر النيل ويصل لمشارف محافظة أسيوط.
وتشهد بلدة "شالي" التي تعد البلدة الأقدم في واحة سيوة لتكون من أقدم بلدات العالم وهي مبنية "بالطين والملح" عمليات ترميم تراعي في المقام الأول الأبعاد التاريخية والتراثية والبيئية للمكان وينخرط في هذا الجهد الثقافي المعماري خبراء يدركون خصوصية المكان فضلا عن بنائين من أبناء سيوة يمسكون بأسرار البناء بالطين والملح وأخشاب أشجار الزيتون وجذوع النخل.
وبعض الفنانين المصريين أبدعوا في عمارة تستوحي تراث الواحات مثل الفنان الراحل محمود عيد الذي أقام متحفا في الواحات البحرية وهو اتجاه يتعين تشجيعه في ضوء كتابات تشير "لتراث الواحات المهدد" فيما تعد "بيوت الطين جزءا عزيزا من الذاكرة الثقافية لتلك الواحات في الصحراء الغربية ولايجوز السماح باندثارها".
والصحراء الغربية في مصر تضم عدة واحات أهمها واحة سيوة التابعة لمحافظة مطروح وواحات "الخارجة والداخلة والفرافرة وباريس" وهي ضمن محافظة الوادي الجديد بينما تتبع "الواحات البحرية" محافظة الجيزة.
وإذا كانت الواحات المصرية تقترن "ببيوت الطين وظلال الحنين" فبين المثقفين المصريين من أصحاب التجارب التنموية في الصحراء، يبرز اسم الدكتور إبراهيم أبو العيش الذي قضى منذ نحو عام واحد وكان بحق من الرواد في إقامة مشاريع زراعية بمجتمعات متكاملة داخل الصحراء وتنسجم تماما مع المنظومة البيئية دون أدنى تلويث للبيئة.
والحق أن هناك تجارب لافتة للاستفادة من التراث في الواحات مثل تحويل بيوت قديمة في واحة سيوة لفنادق تستقبل القادمين بالحنين لتلك المنطقة المصرية الفريدة والقابلة للتحول ككل الى "واحات ثقافية" تجذب الكثير من السائحين الباحثين عن التفرد وبكارة البيئة وعشاق "رحلات السفاري".
وإذا كان الداخل "للخارجة" سيلتقي في البداية "بمزار السلام" الذي تكثر به أسراب الحمام، فكل واحات مصر هي مزارات أمن وسلام وكلها شاهد على أول حضارة للإنسان كما تعبر عن كرم وأريحية الإنسان المصري المعاصر.
ولئن احتضنت الواحات البحرية "متحف التراث" الذي يقصده الكثير من الزائرين الأجانب ففي عمله الثقافي الخالد "شخصية مصر" يقول المفكر الراحل جمال حمدان إن الانسان المصري الأول نشأ في مناطق الواحات بالصحراء الغربية. مشيرا الى أن هذا الانسان ترك آثاره التي ترجع للعصر الحجري منذ 80 ألف عام بواحة "بلاط" فضلا عن "العوينات".
ولعل جديد الاكتشافات في الصحراء المصرية يحرض الخيال الإبداعي على مزيد من الإبداع مثل ذلك الاكتشاف الذي اهتمت به وسائل الاعلام الدولية عندما أعلن في بداية العام الحالي أن فريقا من العلماء عثر على نوع جديد من الديناصورات يلقي الضوء على التاريخ الغائب للديناصورات في القارة الافريقية.
وكانت بعثة كشفية تضم علماء في الحفريات بجامعة المنصورة قد نجحت في تحقيق هذا الاكتشاف لبقايا حفرية لديناصور عاش في إفريقيا منذ 80 مليون سنة الذي وصف عالميا بأنه "من الاكتشافات العلمية المهمة"، فيما قال "مات لامادا" الباحث بمتحف كارنيجي للتاريخ الطبيعي في الولايات المتحدة انه أصيب بحالة من الذهول عندما رأى صور هذه الحفريات الديناصورية.
ويسهم هذا الاكتشاف الذي تحقق في الصحراء الغربية لمصر في الإجابة على أسئلة مهمة ومطروحة منذ وقت طويل بشأن السجل الحفري وعلم الحفريات في إفريقيا ومن ثم فقد وصفه مايكل ديميك الباحث بجامعة اديلفي الأمريكية "بالاكتشاف المذهل للغاية" موضحا أنه "اكتشاف يتمتع بطبيعة خاصة نظرا للمكان الذي عثر عليه فيه".
وكان الدكتور هشام سلام مدير مركز الحفريات بجامعة المنصورة ورئيس الفريق العلمي قد لفت الى أن هذا الاكتشاف عند واحة الداخلة في صحراء مصر الغربية يسهم في حل لغز مسار تطور الديناصورات في أفريقيا. معربا عن أمله "في ان يكون هناك نوع من السياحة يرتبط بتلك الحفريات" والأنشطة العلمية في الصحراء.
والصحراء ألهمت مبدعين من الكبار في العالم العربي بأعمال روائية خالدة مثل رواية "النهايات" التي رسم فيها الراحل عبدالرحمن منيف ملامح شخصية البدوي أو ابن الصحراء الذي يعرف وظيفته ودوره في الابقاء على حياة الجماعة ويضحى بروحه من أجلها.
ورواية "النهايات" كما وصفها الناقد المصري الراحل فاروق عبد القادر هي رواية البادية بامتياز وشهادة بدوي يعرف الصحراء والمواسم والخصب والمطر والجفاف والقحط والحيوان والطير فيما يتشمم رائحة الغيم ويتعرف على نذر العاصفة ويعيش مع أهل قريته على حافة الصحراء متمثلا أنماطها الثقافية وأصفى قيمها.
ولئن كانت الطبيعة بجبروتها غير المحدود في البحار والمحيطات وعلى قمم الجبال وفي أعماق الأودية والأصقاع المتجمدة وظلمة الغابات تنذر بالتحول وتبعث باشارات من نوع ما فالصحراء الغامضة القاسية الموحشة المفاجئة تتجاوز قوانين الطبيعة لتثبتها كما يقول عبدالرحمن منيف في روايته "النهايات".
وهاهو يغوص في رمال الصحراء حيث "جنت الدنيا وهبت ريح قوية عاصفة غيرت كل شيء، كانت الزوابع تدفع الكثبان الرملية وتسفها كما تفعل الرياح بالأمواج فتتدحرج الرمال بسرعة كما لو أنها كتل من القطن الهش أو بقايا أوراق محترقة".
وحتى الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخر كما يرى المبدع العربي الراحل عبدالرحمن منيف الذي ترجع أصوله لصحراء نجد ويقول في رواية النهايات إن الزمن " يتحول الى ذرات صغيرة، الثانية والدقيقة هي كل الزمن.. ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت الى مالانهاية كالصحراء بلا نهاية".
والصحراء التي قد ينظر لها البعض بخوف ووجل كمناطق لصخور قاسية ورمال متحركة وافق بلا نهاية وبلا حياة هي في نظر بعض المبدعين "موئل للإبداع وملاذ آمن من ضجيج الحياة وسط زحام لايطاق في المدن " وهاهو الكاتب ويليام اتكينز يعتبرها بمثابة "وجود مغاير في المكان والزمان ".
غير أنه لايجوز أن ننسى أو نتناسى تحذيرات يطلقها كتاب من أصحاب الاهتمامات الثقافية العميقة بالصحراء مثل ويليام اتكينز صاحب كتاب "عالم بلا حدود: رحلات في أماكن صحراوية" والذي يعيد للأذهان تلك التوقعات بأنه بحلول عام 2020 سيهاجر نحو 60 مليون شخص بالقارة الافريقية من مناطقهم فيما يعرف "بأفريقيا جنوب الصحراء" جراء التراجع المريع في خصوبة أراضيهم بسبب التغيرات المناخية مثل ظاهرة الاحتباس الحراري مع الإفراط في قطع الأشجار والري غير المقنن والرعي الجائر.
وفيما تعتبر الأمم المتحدة "التصحر" من أخطر التحديات البيئية في زمننا الراهن، فإن هذه الظاهرة من فعل الإنسان المعاصر والذي لايجيد حتى التعامل الإيجابي مع الصحراء ككنز عامر بالامكانات المادية والمشاهد الطبيعية الخلابة، كما هو الحال في الواحات المصرية بالصحراء الغربية والتي يمكن أن تكون مقرا مثاليا لمراسم الفنانين.
وفي الولايات المتحدة تدخل بعض كتابات "أدب الصحراء" ضمن الجهود الثقافية الرامية لبناء "ثقافة مضادة لثقافة التسليع والافراط الموغل في المادية"، وتقام سنويا مهرجانات ثقافية في مناطق صحراوية ومن بينها مهرجان يقام في شهر أغسطس كل عام بمنطقة "صحراء الصخرة السوداء في نيفادا" وهو مهرجان يشارك فيه نحو 70 ألف شخص ليتحول هذا المكان الى "واحة ثقافية وبراح يضمد جراح الروح".
والإنتاج الثقافي الأمريكي يتضمن بعض الكتب اللافتة عن الصحراء مثل كتاب "جوهرة الصحراء المتفردة" للكاتب ادوارد آبي الذي قضى في الرابع عشر من مارس عام 1989 وكان من كبار المثقفين الأمريكيين المهمومين بالدفاع عن قضايا البيئة بقدر ماعرف بكتاباته التي "تمجد الصحراء".
وهذا النوع من الكتابة في السرد الثقافي الأمريكي ينزع نحو بناء منظور جمالي للصحراء مع تركيز على أبعاد السمو بالروح وتجاوز منغصات الحياة المعاصرة بإيقاعاتها اللاهثة فيما لايمكن التغافل عن أن الثقافة الأمريكية كجزء من الثقافة الغربية لم تكن بعيدة عن النظرة الاستشراقية الغرائبية للصحراء العربية و"الإرث التاريخي الثقافي لشخصيات مثل الضابط البريطاني توماس ادوارد لورنس والشهير بـ"لورنس العرب" والذي كان جاذبا لهوليوود لتصنع فيلما عنه بات من أأفلامها.
وهاهو مواطنه الكاتب المعاصر ويليام اتكينز يعود أحيانا للكتابة عنه وعن مغامراته في زمن الحرب العالمية الأولى التي يقترن بها اسم "لورنس العرب" غير أنه بحكم اهتماماته الثقافية يسعى لإضفاء عمق ثقافي على شخصية لورنس تتجاوز صورته الهوليوودية لتتناول مدى تأثره بالصحراء العربية واتجاهه لما يصفه بالتنسك والزهد وكبح أهواء الذات.
وبالتأكيد فإن التاريخ الثقافي الغربي حافل بأسماء الكثير من الرحالة الذين استهوتهم الصحراء العربية مثل الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر الذي قضى في عام 2003 وهو صاحب كتاب "الرمال العربية" وتوقف عنده الكاتب ويليام اتكينز مشيرا لرحلاته الشهيرة في اربعينيات القرن الماضي "بالربع الخالي وصمت الصحراء المهيب".
ومن الذي ينسى أيضا في سياق التناول الثقافي الإبداعي الغربي للصحراء العربية قصة "المريض الإنجليزي" لمايكل اونداتجي السريلانكي الأصل والكندي الجنسية التي صدرت عام 1992 وفازت بجائزة "مان بوكر" التي تعد من أهم الجوائز الثقافية في الغرب وتحولت لفيلم سينمائي في عام 1996 حافل بصور بديعة للصحراء.
وفي واحات مصر تتنوع المناظر الخلابة حيث النخيل وأشجار الزيتون، كما يمكن للزائر أن يرى "معاصر الزيتون" في بلدات وقرى كقرية "القصر" بالواحات الداخلة، ناهيك عن فنون المعمار التي استلهم منها المعماري المصري الشهير حسن فتحي الكثير من روائعه.
ويبدو أن إبداعات الصحراء على موعد مع "الواحات الثقافية" كمدد ثقافي تقدمه مصر الخالدة للعالم والباحثين عن التفرد والسلام النفسي والمشاهد الخلابة تحت مخمل شمس الأمل.