الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ميشيل المصري

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كثيرا ما تلهينا الدنيا عن رموز راقية تعيش بيننا، فننسى وجودهم، حتى تصفعنا حقيقة الموت حين يصطفيهم الله.. فنندم على وقت عاشوه فى عزلة ولم نقتنصه قبل الرحيل.. هكذا رحل الفنان المبدع ميخائيل حبيب نخلة.. الشهير بميشيل المصرى أمس الأول.. وعمره 85 عاما، قدم ما يزيد على المائة عمل ما بين موسيقى الأفلام والمسلسلات والأوبريتات والأغاني.
ومن أشهر أعماله: (ليالى الحلمية) والعديد من الأعمال الدرامية الإسلامية وتسابيح رمضان- رغم أنه يدين بالمسيحية- كذلك التوزيع الموسيقى لكبار الملحنين كعبدالوهاب والموجى، حتى أنه صاحب المقدمة الموسيقية لأغنية قارئة الفنجان.. فقد تميز بأنه من القلائل الذين لم يكتفوا بالموهبة وإنما حرصوا على الدراسة.. رغم أنه درس الفن من وراء والده، لمعارضته دخوله عالم الفن.. ونظرا لحبه للرسم والموسيقى التحق سرا بمعهد «ليوناردو دافنشى» للفنون الجميلة بالقاهرة، والذى كان غالبية طلابه من الأجانب، فأطلقوا عليه «ميشيل المصري»، ثم التحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية سنة 1949، ورغم كونه عازفا على آلة الفيولينة (الكمان) إلا أن مدير المعهد وجهه لدراسة آلة الكورنو.. وهو ما أكسبه خبرة فى فهم طبيعة الآلات والقدرة على تطويعها فى مؤلفاته وتوزيعاته.. لكنه ظل يمارس العزف على الفيولينة التى أسماها «سيدة الأوركسترا»..فشارك بالعزف مع أم كلثوم، والفرقة الماسية التى كان عازفا مميزا بها، ويقوم بالتوزيع لعشرات الألحان التى تقدمها.. وكذلك فرقة الرحبانية، حيث كان عازف الفرقة الأول.
وساهم فى تأسيس فرقة الإذاعة الكويتية.. وقام بتسجيل بعض الأعمال مع أوركسترا لندن.. ورغم أن الموسيقى كانت حياته، إلا أنه فضل الابتعاد فى السنوات الأخيرة بعد أن شعر بتغير المناخ العام وتدهوره.. وقد شرفت بالتعامل معه فى إحدى الحفلات الرئاسية الكبيرة، وأذكر فى هذا الوقت أن وزارتى الثقافة والإعلام كانتا تتنافسان على إقامة تلك الحفلات، وكانت تلقى اهتماما بالغا من كبار المسئولين، الذين كانوا يحرصون على حضور البروفات للتأكد من كافة التفاصيل.. وحتى لا يحدث أى خطأ أثناء الحفل بحضور الرئيس، وحرصا على هيبة الدولة التى لم تكن تسمح بأى تجاوز أو تقصير.. ولأن عدد العازفين المحترفين فى مصر قليل، فكان أغلب العازفين يشارك فى الاحتفالين، ولكن تختلف أسماء الأوركسترا!!..وكان التنافس بين الوزارتين يصل أحيانا إلى الضرب تحت الحزام، فيتم تهديد العازفين لمحاولة منعهم من المشاركة فى حفلة وزارة الإعلام، باعتبارهم أعضاء فى أوركسترات وفرق الأوبرا التابعة لوزارة الثقافة، وكانت تبوء بالفشل، لكونها احتفالات رئاسية ليس من السهل إفسادها من المسئولين.. ورغم أن مشاركتى لم تكن الأولى ولا الأخيرة، إلا أن الحفلة التى أتحدث عنها كانت ذات بصمة وطابع مختلف، فقد كانت وزارة الإعلام هى المسئولة عن تنظيم الحفل، وكان الوزير الأسبق صفوت الشريف يحضر يوميا لقاعة المؤتمرات للإشراف على البروفات، والتى كانت تضم عددا هائلا من المشاركين، حيث كانت لديهم الرغبة لأن يكون المشهد عظيما ومبهرا، فتمت دعوة كافة عازفى مصر تقريبا، إلى جانب فرقة البالية والمطربين والفنيين.. ولكن لم يكن هذا هو سبب تميز تلك الحفلة، والتى تركت لدى كل المشاركين فيها من الموسيقيين ذكرى لا تنسى، وظلوا يتندرون بها لسنوات.. والسبب هو قائد الأوركسترا الفنان المبدع دمث الخلق ميشيل المصري.. والذى كان يتمتع بنزاهة وسمو أخلاقى نادرا ما نجده فى دنيانا، فكان يعشق عمله ويتقنه، ولديه من الرقى والنقاء وطهارة اليد ما يجعله يسمو بنفسه، ولا يلهث وراء المال كما نرى من أغلب الصفوة فى مجتمعنا، فقدم نموذجا للعدالة وحسن القيادة، واعتبرته منذ ذلك الوقت أحد أنقياء وشرفاء هذا البلد، فرغم أن عدد العازفين كان شديد الضخامة، وكانوا من جميع الأعمار، وعادة فى تلك الأحوال يتم تقسيم الجزء الأكبر من الكعكة على الكبار ولا يأخذ الصغار سوى الفتات، إلا أنه باعتباره قائد العمل، والمسئول المباشر والوحيد عن توزيع الأجور بالشكل الذى يراه، لذلك أصر على أن تتساوى أجور الجميع، دون تقسيم إلى فئات، ودون تفرقة بين صغير وكبير، لأنهم جميعا قاموا بنفس العمل.. فكان المعيار الوحيد هو العمل الفعلى وعدد البروفات التى حضرها كل عازف، أما المفاجأة بعد الحفل، والتى كشفت وجوه من قبله وبعده، فهو الأجر المخصص لكل عازف والذى كان عدة أضعاف الأجر المعتاد، وهو ما أكد للجميع نزاهته التى لم نعهدها قبله أو بعده، وحسن إدارته التى تعتمد على معايير ثابتة، وليست بالشللية والعلاقات والمجاملات..لذلك حين كان يسعى بعد الحفل لإعادة إنشاء أوركسترا الإذاعة لم يكن لدى العازفين أى مانع من ترك أعمالهم للعمل معه.. ولكن للأسف لم تنجح محاولاته بل حورب لإفشال مشروعه، وهو للأسف ما يحدث عادة مع كل شريف وناجح.. ولكن تظل السيرة الطيبة والمواقف المحترمة شاهدة على أصحابها مهما مرت السنوات.. رحم الله هذا المبدع الذى قدم السمو والرقى فى فنه وأخلاقه فاستحق بجدارة لقب «المصرى».