الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مصابيح فى دائرة الظل «7»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تشهد الواقعات ومحاولات المستنيرين المتتالية - منذ العقد الثانى من القرن التاسع عشر حتى اليوم - لتجديد الخطاب الدينى بأن هذا الأمر ليس يسير التحقيق من الخارج، ولن يأتى بأكله أو تتحقق كل مراميه فى ظل جمود الأزهريين وعنت الرجعيين منهم ووجود بعض التيارات المناقضة للوجهة الأشعرية التى اصطبغت بها نهوجهم حيال قضية العلاقة بين المنقول والمعقول. ومع تسليمنا بأن هناك مشروعات قد نمت بين جدران الأزهر واضطلع بها بعض الثائرين الداعين لنبذ التقليد وفتح باب الاجتهاد - ثانية - لتحديث علم أصول الفقه وعلم أصول الحديث وعلم الكلام، فإن مثل هذه المشروعات قد وُجهت بالرفض بل والطعن فى أصحابها، وعليه لن ينصلح حال الأزهر - القادر دون غيره - على تجديد الخطاب الديني، إلا إذا قوى تيار المصلحين من علماء الأزهر الذين يستلهمون مشروع الأستاذ محمد عبده ومدرسته لهذا الغرض. ويُعد مفكرنا الذى نقدمه اليوم أحد أولئك الثائرين والمصلحين فى النصف الأول من القرن العشرين، هو الفقيه والقانونى والكاتب والمعلم والمتفلسف المصرى محمد يوسف موسى (١٨٩٩- ١٩٦٣م) أحد رواد التجديد فى النصف الأول من القرن العشرين، وُلد بمدينة «الزقازيق» بمحافظة «الشرقية»، فى بيت علم وتقوى، إذ كان معظم أفراد عائلته من خريجى الأزهر، وكانت أمه من حفاظ القرآن. 
ختم القرآن مرتلاً ومجودًا فى سن مبكرة، ثم ارتحل إلى الأزهر عام ١٩١٢م لإتمام دراسته حتى حصل على العالمية عام ١٩٢٥م، ونظرًا لتفوقه العلمى عُين فى أحد المعاهد الأزهرية فى مدينة الزقازيق لمدة ثلاث سنوات، وفى هذه الفترة أُصيب بضعف شديد فى بصره، ومن المؤسف أن الأزهر فصله من وظيفته عقب هذه الحادثة، غير أنه لم يستسلم لهذه المأساة وقرر أن يبدأ من جديد، فتعلم الفرنسية ليتمكن من دراسة الحقوق واحتراف المحاماة عام ١٩٣٢، وفى نفس الوقت راح يطلع على الكتب الفلسفية قديمها وحديثها وقرر ترجمة العديد من كتب المستشرقين والرد عليها، وذلك لما تحويه من مغالطات وأخطاء تاريخية. وفى عام ١٩٣٦ أعاده الإمام الأكبر الشيخ مصطفى المراغى (١٨٨١-١٩٤٥م) لوظيفته وفى العام التالى عينه معيدًا للفلسفة والأخلاق فى كلية أصول الدين.
وفى عام ١٩٣٨م سافر إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه فى الفلسفة الإسلامية من جامعة باريس تحت إشراف المستشرق الفرنسى (ماسينيون) وكان موضوع رسالته «الدين والفلسفة فى رأى ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط»، غير أن ظروف الحرب العالمية الثانية دفعته إلى العودة ثانية إلى مصر، وفى هذه الفترة تعرف على الشيخ مصطفى عبدالرازق (١٨٨٥-١٩٤٧ م)، الذى ألحقه عام ١٩٤٥ ببعثة الأزهر إلى جامعة السوربون وحصل على الدكتوراه عام ١٩٤٨م بدرجة مشرف جدًا بعد مناقشته من خمسة أساتذة يرأسهم (ليفى بروفنسال).
ولم يكن محمد يوسف موسى مدرسًا تقليديًا، بل كان مجددًا ومحدثًا ومطورًا بطبعه، الأمر الذى دفعه إلى إعلان الحرب على كل قلاع الجمود والتقليد فى التعليم الأزهري، ونادى بالتوسع فى إرسال البعثات العلمية إلى المراكز البحثية الكبرى فى أوروبا، ولاسيما تلك التى عكفت على دراسة التراث العقدى والفلسفى الإسلامي، وقد جابه الأزهريون دعوته بالرفض وراحوا يحيكون حوله المؤامرات، الأمر الذى كان وراء نقله إلى جامعة فؤاد الأول للعمل أستاذًا للشريعة فى كلية الحقوق عام ١٩٥٢.
أما مشروعه الإصلاحى فيمكن إيجازه فى ثلاثة محاور، وجميعها مستمد من مشروع الأستاذ الإمام محمد عبده ومدرسته. أولها القضاء على الخصومة المتوهمة بين الفلسفة والعلم من جهة، والدين الإسلامى من جهة أخرى، وتبيان أن علاقة التجاور بين الأنساق المعرفية هى الأفضل، فليس من مصلحة الدين القضاء على العقل أو الإطاحة بالفلسفة كأسلوب تفكير، أو جحد العلم ونظرياته وتطبيقاته المعاصرة باسم الموروث العقدى وما ألفناه من فقهائنا الأقدمين، وهذا لا يعنى التضحية بالثوابت العقدية التى تحوى بين طياتها المشخصات الإسلامية لمسايرة نظريات سياسية أو اجتماعية أو علمية لم يقطع بصحتها، كما ينبغى على المفكرين المسلمين عدم القطع بصحة الوافد سواء كان مصدره التراث العربى الإسلامى أو الوافد الحديث من الغرب، وتطويع القيم والأخلاق الإسلامية والمبادئ العقلية الفلسفية لتتواءم مع الواقع المعيش، فلا فائدة من التجريد والتنظير فى الواقع العملى الذى لا يعترف بصحة الأمور إلا فى ميدان التجريب والتطبيق، ومن ثم جاءت دعوة مفكرنا للفلسفة التطبيقية وأخلاقيات المهنة. أما المحور الثانى فيتمثل فى قضايا التعليم الذى يجب تطويره من حيث الأسلوب والآليات وتجديده من حيث تخليصه من الحواشى ومواطن الحفظ ومواضع التلقين وتحديثه للمعارف والعلوم والفلسفات والمناهج النقدية المعاصرة وطرائق التحقيق العلمي، ذلك بالإضافة إلى دعوته لتوحيد التعليم الابتدائى الذى يتلقى فيه النشء المبادئ الأساسية التى تكون الهوية وتؤسس عليها المشخصات الدينية والقومية، لا فرق فى ذلك بين المدارس الأزهرية والمدارس المدنية مصرية كانت أو أجنبية، وتحديث الخطاب الدعوى فى الكليات الأزهرية والتأكيد على أن الاجتهاد هو الأصل الذى يجب أن تقوم عليه الدراسات الأصولية والفقهية. وثالثها تحديث المناهج الأزهرية فى دراسة الفقه الإسلامى على نحو يمكن الطالب من فهم مقاصد الشريعة وكيفية استنباط الأحكام وتخير ما يناسب الواقع المعيش من الآراء المتباينة، وذلك بفضل اطلاعه على الفقه المقارن، وقد نادى غير مرة بضرورة عمل موسوعات فقهية تشتمل على الآراء والأحكام الفقهية دون التقيد بمذهب أو بطائفة دون أخرى، أما الشاذ فيجب إدراجه أيضًا وتبيان أوجه الشطط والخلل والانحراف فيه دون تسفيه أو قدح، فالمجتهد المصيب له أجران، ودونه له أجر المحاولة. 
أما آليات تطوير هذا العلم فيمكن إيجازها فى: عدم مخالفة قطعى الثبوت والدلالة من القرآن وصحيح السنة، وذلك فى إصدار الأحكام أو مناقشة القضايا المعاصرة، وتقديم المقاصد الشرعية فى ميدان التطبيق. تحقيق المصادر الفقهية تحقيقًا علميًا نقديًا واستبعاد ما لا يتلاءم مع الواقع. إنشاء مجمع عالمى للفقه الإسلامى وتكون سلطته العلمية هى التى يجب تعميمها بوصفها نتيجة إجماع العلماء المجتهدين فى هذا العصر. تقديم العقل على النقل فى فهم النصوص الشرعية.
وحسبى أن أؤكد أن مشروعات التجديد وآلياتها موجودة بالفعل ولا ينقصها إلا الطاقة الدافعة للتطبيق الذى نادى به مفكرنا المجتهد المناضل.
ولسير الأعلام بقية.