الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مخاوف المثقفين تتصاعد حيال المشهد التركي بعد الانتخابات الأخيرة

 صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
سواء داخل تركيا أو خارجها، تتصاعد مخاوف المثقفين حيال المشهد في هذه الدولة بعد فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أجريت في الرابع والعشرين من شهر يونيو الجاري.
وبدخول النظام الرئاسي في تركيا حيز التنفيذ تدخل هذه الدولة مرحلة جديدة مغايرة للنظام البرلماني الذي شهدته منذ "مولد تركيا الحديثة" في عام 1923 كما تشهد بنية المجتمع تغيرات مثيرة لقلق العديد من المثقفين الأتراك وغيرهم.
وإذا كان مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض محرم انجه قد اعتبر أن الانتخابات الأخيرة شهدت انتهاكات واضحة من جانب أنصار حزب "العدالة والتنمية" الحاكم ورأى أن نتائج هذه الانتخابات "ترسخ حكم الفرد" فإن النظام السياسي الجديد بعد الانتخابات الأخيرة في تركيا ينزع من البرلمان سلطة استجواب الوزراء. 
ويثير هذا المشهد قلق المبدعين الأتراك للمشهد الراهن في تركيا فضلا عن المثقفين في الخارج، بينما تقول كايا جنج في مجلة "نيويورك ريفيو" أن أردوغان سعى في الانتخابات الأخيرة للحصول على "سلطات رئاسة إمبراطورية".
وأضافت جنج أن أردوغان "يعيد صياغة المجتمع التركي وهندسته من جديد على هواه سواء في الإعلام والقضاء أو التعليم والقطاع الصحي تحت مسمى تركيا الجديدة"، فيما ترى الأديبة والمبدعة التركية اليف شفق أن نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عمد لتكريس "ثقافة الخوف" في ربوع تركيا.. فيما يضرب عرض الحائط باحتجاجات المثقفين سواء داخل بلاده أو خارجها.
وأبدى العديد من المعلقين في الصحف ووسائل الإعلام الدولية شعورا بالدهشة حيال أقدام هذا النظام على طرد الآلاف من رجال الشرطة والعاملين في الدوائر الحكومية والسلك الأكاديمي فيما تفيد أرقام معلنة أن عدد المعتقلين في تركيا لأسباب سياسية يصل إلى نحو 50 ألف شخص وأقيل من سلك القضاء وحده نحو 110 آلاف شخص بينما ارتفعت معدلات التضخم والبطالة مع ارتفاع نسبة العجز المالي في الموازنة إلى نحو 60 في المائة.
ويقول المحلل الإيراني الأصل أمير طاهري وهو صاحب اهتمامات ثقافية وحضور في الصحافة الغربية كما أنه من كتاب جريدة الشرق الأوسط التي تصدر بالعربية من لندن أن المراقبين المهتمين بالتجربة التركية يتفقون في الرأي على أن أردوغان الذي قدم نفسه في البداية ومنذ أول انتخابات يخوضها حزبه في عام 2002 "كربان لسفينة الدولة التركية لم ينجح في الوصول للشواطئ الذهبية الموعودة أي السلام والرخاء".
وأشار طاهري إلى مغزى تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2010 وتنامي المخاوف من حدوث ركود اقتصادي "في ظل فترة تعج بالمخاوف والشكوك" وهي فترة عبرت عنها كتابات اليف شفق صاحبة "مرايا المدينة" و"النظرة العميقة" و"قواعد العشق الأربعون"، عن الدول التي لا تتعلم دوما من التاريخ وهي ظاهرة محزنة تعاني منها الآن تركيا في ظل نظام حكم رجب أردوغان؛ "حيث لا يتحرك التاريخ الى الأمام بل يتراجع للخلف فيما لا يتعلم النظام الحاكم شيئا مفيدًا من أخطائه".
ويتفق المعلقون على أن نظام أردوغان أخفق في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص في تحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية كما باتت تركيا في ظل هذا النظام تعاني من سجل سيئ على صعيد الحريات وحقوق الإنسان فضلا عن العلاقات السيئة مع العديد من دول الجوار العربي والأوروبي.
وفيما استخدم أردوغان في خطاب الفوز الانتخابي أمام أنصاره مفردات لغة تعبر عن اعتزامه مواصلة التدخل في شئون دول الجوار العربي وخاصة سوريا، وقال ان بلاده ستواصل "تحرير الأراضي السورية" فمن الواضح أن نظام أردوغان لم يتعلم شيئا أيضا من التاريخ وهو يمضي بحمق لفرض تصوراته الظلامية و"أوهام العثمانية الجديدة" على الجوار ودول المنطقة، فهناك فارق جوهري حقًا بين تفاعلات حرة وطبيعية وتلقائية وتاريخية ومستديمة بين العرب والأتراك كمكونين أصيلين في العالم الاسلامي، فضلا عن علاقة جوار وتقاسم لسمات حضارية وعوامل ثقافية، وبين هيمنة ثقافة على أخرى كما هو الحال في "مشروع تتريك المنطقة"، أو "العثمانية الجديدة".
ومن منظور تاريخي، فإن الكثير من مثقفي الأمة العربية مثل عبد الرحمن الكواكبي دفعوا ثمن المواجهة مع "ثقافة التتريك" التي كانت تنتهجها دوائر عليا في الامبراطورية العثمانية لاعلاء الثقافة التركية على حساب الثقافة العربية بل ومحاولة تهميش هذه الثقافة رغم أنها مرتبطة جوهريا بالإسلام.
وواقع الحال أن أيديولوجية "العثمانية الجديدة"، والتي لا تعني في جوهرها إلا "تتريك المحيط الإقليمي الواسع وفرض النفوذ التركي على منطقة شاسعة على غرار الإمبراطورية العثمانية القديمة، باتت تحكم وتتحكم في السلوك السياسي لنظام أردوغان بقدر ما يدفع المبدعون والمثقفون الأتراك مثل اليف شفق ثمنا باهظا لهذا السلوك.
وبعد نشر روايتها "لقيطة إسطنبول" عام 2006 في تركيا تعرضت اليف شفق لحملة شعواء من جانب التيار الأردوغاني حتى أنها مثلت أمام القضاء كمتهمة بإهانة وطنها غير أن الأمور تتفاقم أكثر الآن.
فالأوضاع بالنسبة للكتاب والمبدعين والناشرين- في نظر اليف شفق-لم تكن أبدا مخيفة وقاتمة مثلما هي اليوم فيما تضيف في طرح نشرته بالإنجليزية في جريدة "الجارديان" البريطانية أنه على مدى العقد الأخير راحت هذه الأوضاع تتفاقم تدريجيًا في البداية ثم مضت تتردى بسرعة مخيفة.
ولم تتردد هذه المبدعة التركية الكبيرة وصاحبة رواية "شرف" في توجيه الاتهام لنظام حكم رجب طيب أردوغان باعتباره سببا لهذا التردي المخيف في المشهد الإبداعي التركي وتفاقم أوضاع المبدعين والكتاب والناشرين معتبرة أن نظام أردوغان "مناهض للديمقراطية وتعدد الآراء والتنوع والتسامح"، ناهيك عن قيام هذا النظام بتغيير جوهر الحكم الذي كان يقوم على "الديمقراطية البرلمانية" إلى دولة "يحتكر فيها أردوغان السلطة وتقوم على الحكم المطلق".
وهكذا تنعي اليف شفق الديمقراطية في تركيا في غياب سيادة القانون والفصل بين السلطات والحريات الأكاديمية وحقوق النساء فضلا عن غياب حرية الإعلام معيدة للأذهان أن الآلاف من المثقفين الأتراك طردوا من وظائفهم في ظل نظام الحكم الأردوغاني وصعود أيديولوجية التطرف ورفض التسامح مع حرية التفكير بشكل مختلف.
وأشارت إلى ظاهرة استخدام نظام أردوغان "لسلاح الملاحقات القضائية ضد المفكرين والمبدعين والكتاب والصحفيين والأكاديميين" معيدة للأذهان أن أحد أشهر رسامي الكاريكاتير في تركيا وهو موسى كارت قضى خمسة أشهر في السجن ثم نال إفراجا مشروطا ويمكن أن يدخل السجن مجددًا ولكن هذه المرة لمدة تصل إلى 29 عامًا.
ومن ثم لم يعد من المستغرب القول بأن أخطر المهن في تركيا الأردوغانية هي تلك التي ترتبط بحرية التفكير والإبداع والتعبير مثل الصحافة والأدب وهو وضع عانت منه اليف شفق بعد أن نشرت رواية "لقيطة إسطنبول" في تركيا. 
ورواية "لقيطة إسطنبول" تتعرض للمجازر التي تعرض لها الأرمن في تركيا عامي 1916 و1917 وهي مسألة تعد من المحرمات التركية بينما تصف اليف شفق هذه الرواية وهي السادسة لها بأنها في الحقيقة رواية حول الأسرار العائلية المدفونة وأهمية كشفها والحديث عنها علانية وأن كان بعضها يدخل في باب المحرمات السياسية في بلادها.
وتقول اليف شفق التي ولدت في الخامس والعشرين من أكتوبر عام 1971 أنها ذهبت في "تأملات حول الرحلة الثقافية والسياسية لتركيا" عندما طلبت منها "راديو 4" التابع لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تقديم روايتها "لقيطة إسطنبول" في سياق مايعرف "بموسم القراءة الأوروبي" في شهر ينايرالماضي.
وإذ أوضحت بحسها الصوفي أن "رحلة التأملات دارت في أيام وسنوات ما بعد نشر روايتها لقيطة إسطنبول في تركيا" فإن اليف شفق التي ترجمت أعمالها لنحو 30 لغة ترى أن تركيا تشهد الآن "صداما بين الذاكرة وفقدان الذاكرة" فيما يعاني المجتمع التركي عمومًا في ظل نظام رجب أردوغان من أعراض فقدان الذاكرة.
واليف شفق التي ذاع صيتها الأدبي بشدة بعد عملها الإبداعي "قواعد العشق الأربعون" تقول إن التيار الحاكم في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان يعمد لاستخدام كلمات وتعبيرات غامضة أو مبهمة مثل "إهانة الشخصية التركية" لتكميم أفواه المبدعين وقمع حرية التعبير.
كما تشير هذه المبدعة التركية التي تعيش في بريطانيا حاليا لمسألة مهمة وهي اقتناص عبارات أو كلمات في الأعمال الإبداعية والخروج بها من سياقاتها في هذه الأعمال لمحاكمة المبدعين موضحة أن ذلك ماحدث معها عندما قام الادعاء باقتناص كلمات وردت على السنة شخصيات أرمينية في روايتها "لقيطة إسطنبول" وخرج بها بعيدًا عن سياقات الرواية لاستخدامها كدليل اتهام في المحكمة بينما كان من الطبيعي أن يدافع محاميها عن "الخيال الإبداعي" ليتحول المشهد داخل المحكمة إلى "مشهد سريالي" على حد وصفها.
ووسط تظاهرات غاضبة للجماعات المتشددة التي يرعاها النظام الأردوغاني تعرضت اليف شفق للعديد من مظاهر الترويع من بينها "البصق على صورها" غير أنها تستلهم في المقابل كمبدعة روح الصمود من مواطنيها الذين يقفون إلى جانب حرية الإبداع والتعبير ويستنكرون النزعة الظلامية واستهداف أصحاب الكلمة الحرة.
ولعل ما تعرضت له اليف شفق يعيد للأذهان ماتعرض له الأديب النوبلي التركي اورهان باموق من ضغوط وملاحقات في بلاده بعد أن أعلن بضمير المثقف وشجاعة المبدع أن "مليون أرمني و30 ألف كردي قد قتلوا على هذه الأرض ولكن لا أحد يجرؤ على قول ذلك" فيما تعرض لملاحقات قضائية في بلاده بعد اتهامه "باهانة الهوية التركية".
وإذ انتقد حزب الشعوب الديمقراطي المعبر عن الأكراد ممارسات السلطات التركية لمنع انصار الحزب في شرق وجنوب شرق البلاد من التصويت في الانتخابات الأخيرة يقول المحلل أمير طاهري أن نظام أردوعان خلق أزمة في مسألة الهوية ولم ينجح في إقرار أسلوب تعايش مع الأكراد. 
والأمر قد لا يكون بعيدًا عن شعور باموق بإشكالية الهوية في بلاده التي تتجه في ظل نظام رجب طيب أردوغان "لأوهام العثمانية الجديدة" وتبتعد "بطابعها السلطاني الأردوغاني" عن الديمقراطية وتخاصم حرية الكلمة ويدرك اورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 2006 حدة إشكالية الهوية في بلاده كما أنه يستشعر "مناخ الخوف" الذي أشاعه نظام أردوغان.
وتتفق اليف شفق مع النوبلي اورهان باموق في التنديد بدعم نظام رجب طيب أردوغان للجماعات الظلامية وممارساته لتحويل تركيا إلى تربة خصبة لأفكار التطرف فيما باتت الثقافة الرسمية السائدة الآن في تركيا الأردوغانية مزيجا من السلطوية الشمولية والرجعية الظلامية والتمييز ضد النساء والتعصب بكل صوره وهي ثقافة ترى اليف شفق ومعها المحلل أمير طاهري بأنها لا يمكن أن تؤهل تركيا لتحقيق حلمها في الانضمام للاتحاد الأوروبي.
ومن المثير للتأمل أن "تركيا أردوغان" التي تعاني من اشكاليات تتعلق بالهوية واستقطابات حادة حول تصورات أساسية لأنماط الحياة والقيم بما يشكل أساسا خطرًا لانقسامات مجتمعية واحتمالات انفصالية تريد تصدير هذه الإشكاليات للدول العربية بما يخدم أيديولوجية هذا النظام وأوهامه المتعلقة "بالعثمانية الجديدة".
ورغم أن "الثقافة الذكورية المتعصبة" تتحكم في وسائل الإعلام والمنابر الثقافية التركية فإن اليف شفق تقول إن النساء في بلادها هن "حارسات الذاكرة الجمعية لتركيا كما أن المرأة هي صاحبة النصيب الأكبر في إثراء تقاليد الحكي الشفاهي والسرد الشعبي.
وتؤكد اليف شفق على أن المشهد الثقافي والإعلامي والأكاديمي في تركيا ازداد سوءا منذ المحاولة الانقلابية في عام 2016 حيث جرى إغلاق أكثر من 160 منفذا إعلاميا ووجد أكثر من 150 صحفيا أنفسهم في السجون وطرد أكثر من أربعة آلاف أكاديمي من الجامعات ومضى نظام الحكم الأردوغاني في "حملات تطهير تضمنت وضع أسماء مثقفين وصحفيين في القوائم السوداء ومصادرة جوازات سفرهم".
وفي هذه الأجواء الخانقة من الطبيعي أن تزدهر ظاهرة "الرقابة الذاتية" في الصحف ووسائل الإعلام والمنابر الثقافية وأن تتقلص مساحة النقاش العام في البلاد فيما تلاحظ اليف شفق اتساع نطاق ظاهرة "زواج الأطفال" كثمرة مريرة من ثمار الأفكار الظلامية التي يرعاها نظام أردوغان في تركيا وامتدت ممارسات "غسل الأدمغة" لتشمل تغيير المناهج التعليمية وبصورة لم تعرفها تركيا من قبل.
ولعل ذلك كله يفسر ظاهرة تصاعد هجرة المثقفين الأتراك خارج بلادهم مثل اليف شفق التي اضطرت للإقامة خارج تركيا فيما تقول بأسى أن الكثير من الأكاديميين والصحفيين وأصحاب الأفكار الليبرالية يغادرون الوطن ولكن الكثير من المثقفين "من أصحاب الأرواح الشجاعة" أيضًا اختاروا البقاء في الداخل رغم كل المخاطر التي تتهددهم.
وإذا كان اورهان باموق قد استحالت روايته:"غربة في عقلي" إلى نص مداده الشجن ويكاد يكون مرثية لزمن إسطنبول الذي ذهب بلا عودة لتشكل هذه الرواية "أنشودة حزينة" حقا بقدر ماتحمل "وجد العشق لأسطنبول التي يتبدد ماضيها الجميل وتنتحر أيامها الخوالي" فإن اليف شفق تخلص في نهاية تأملاتها للمشهد في بلادها بأن تركيا التي كان ينظر لها من قبل كجسر للتواصل البناء بين أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وكنموذج يمكن أن يحتذى في العالم الإسلامي فقدت دورها البناء بعد أن فقدت ديمقراطيتها فيما تحولت إلى "بلد التعساء".
وفيما يأمل البعض في إمكانية إقدام أردوغان بعد الانتخابات الأخيرة على إجراءات ديمقراطية تسهم في امتصاص الاحتقانات الظاهرة في بلاده يرى العديد من الخبراء والمحللين في الصحافة ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية إمكانية اتجاه أردوغان المعروف "بنزعته الانتقامية" لمزيد من الإجراءات الأوتوقراطية التي تنال من جوهر الديمقراطية.
ولاريب أن كل المثقفين الشرفاء في هذا العالم يقفون مع الشعب التركي في مواجهة "ثقافة الخوف" كما أن المثقفين المصريين والعرب ككل يحملون كل الاعتزاز والتقدير للشعب التركي.. وبين الأحلام والخطى يبقى الأمل في أن تعبر تركيا مرحلة الجراح نحو فضاء الحرية والتسامح والتنوع.