الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

لغتنا.. والأفكار والمعتقدات الخاطئة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اللغة لا تمثل وسيلة مهمة وأساسية للتواصل بين البشر فحسب، بل هى وعاء للفكر، وغالبًا ما تكون الجمل والعبارات والألفاظ محمَّلة بالأفكار ومعبرة عنها، والطفل البشرى محاط دومًا بمن يلقنه الأفكار- عبر الجمل والألفاظ- ويغرس فى عقله المعتقدات، ويشكل وجدانه انفعاليًا على نحو يتوافق وهذه الأفكار والمعتقدات.
إن العالَـم زاخر بالأشياء المختلفة، والإنسان منذ طفولته يلاحظ أن بعض الأشياء تتشابه فى بعض الخصائص، كما أنها تتميز عن غيرها من الأشياء الأخرى فى بعض الخصائص الأخرى، ولا يستطيع الإنسان أن يستجيب لكل هذه الأشياء الكثيرة التى حوله باعتبار أن كلًا منها شىء مستقل عن غيره من الأشياء، بل إنه يميل إلى تصنيف الأشياء المتشابهة فى مجموعة أو نوع معين، ثم يطلق عليها لفظًا أو اسمًا يميزها، فمثلًا «الشجرة» لفظ أو اسم يطلق على مجموعة من الكائنات الحية التى تتشابه فى مجموعة من الخصائص؛ ومن تلك الخصائص التى تتصف بها «الشجرة»: أنها نبات له جذر وساق وأفرع وأوراق، وأحيانًا ثمار، و«الإنسان» لفظ أو اسم يميز عددًا هائلًا من الأفراد لهم بعض الخصائص التى من أهمها القدرة على التفكير. ومثل هذه العملية التصنيفية مفيدة فى تقليل الكثرة والتعقيد فى الأشياء التى حولنا، وذلك بتبسيطها عن طريق تكوين مفهوم واحد يمثل أشياء كثيرة.
نحن نتعلم المفاهيم عن طريق عمليتى «التجريد» abstraction و«التعميم» generalization. فحينما يرى الطفل كلبًا لأول مرة، يفزع ويصرخ ويهرول ليرتمى فى أحضان والده أو والدته، وهو يرتجف من فرط الخوف والهلع، وحين ينظر إلى والديه، متوقعًا أن ما يعتريه من خوف، يعتريهما أيضًا، فيفاجأ بحالة الطمأنينة التى هما عليها، رغم وجود الكلب، وينظر إلى وجهيهما، فيرى عيونًا مبتسمة، والأطفال الصغار حريصون على قراءة ما تنطق به العيون- ويسمع والديه يطلقان على هذا الكائن الذى أفزعه اسم «الكلب» أو «بوبي» فإنه يتعلم أن يسميه كلبًا، والأرجح «بوبي». وبتكرار رؤيته لكلاب مختلفة وسماع والديه يسميانها «بوبي». يدرك الطفل الخصائص التى يتميز بها الكلب، فالتجريد هو ملاحظة نواحى التشابه بين عدة أشياء مختلفة فى بعض النواحى الأخرى.
وهناك أصناف مختلفة من الكلاب، ولكنها جميعًا تشترك فى بعض الخصائص العامة، وتجريد هذه الخصائص المشتركة عن غيرها من الخصائص الأخرى هو الذى يكون مفهوم الكلب عند الطفل، فإذا رأى الطفل بعد ذلك كلبًا آخر لم يكن رآه من قبل، فإنه يستطيع أن يقول بمجرد أن يراه إن هذا «بوبي»، وتسمى هذه العملية بالتعميم. وقد تكون عملية التجريد التى يقوم بها الطفل فى أول الأمر غير دقيقة، ولذلك فقد يخطئ فى عملية التعميم، فإذا رأى قطة فيصيح فرحًا: «بوبي.. بوبي.. بوبي».
إنه يطلق اسم الكلب على القطة، نظرًا للتشابه بينهما، إذ كل منهما يسير على أربع، وكل منهما له ذيل وأذنان، ولكن حينما يقوم والداه بتصحيحه فيقولان له، إن هذا قط وليس كلبًا، يبدأ الطفل فى تمييز الفروق بين خصائص الكلب وخصائص القط، وعن طريق «عملية التمييز» discrimination تتحدد المفاهيم المختلفة بدقة لدى الطفل، ويكون الطفل بناء على ذلك أقدر على تعميم مفهوم الكلب على جميع أنواع الحيوانات التى تنتمى إلى نوع الكلاب، وليس على غيرها من الحيوانات الأخرى، وبهذه الطريقة يتعلم الطفل جميع المفاهيم الأخرى.
والمفاهيم التى يتعلمها الطفل فى أول الأمر هى المفاهيم المتعلقة بالأشياء المحسوسة التى يمكن أن نشير إليها وندركها إدراكًا مباشرًا مثل «الكوب» و«الكرسي» و«الماء» و«الكلب» و«القط»، وبتقدم الطفل فى العمر يبدأ بالتدريج فى تعلم المفاهيم المجردة مثل «الحق» و«العدالة» و«الحرية» و«الصدق» و«الأمانة». ويتعلم الطفل هذه المفاهيم المجردة نتيجة ملاحظة أنماط معينة من السلوك فى مواقف مختلفة، ونتيجة توجيه الأسئلة الكثيرة إلى الوالدين والكبار الآخرين المحيطين به كالمدرسين، مثلًا.
وتكون المفاهيم التى يكونها الطفل فى أول الأمر أيضًا مركزة حول ذاته، أى تدور حول الأشياء التى تشبع حاجاته ورغباته الشخصية، وذلك لأن خبرة الطفل واهتماماته تكون فى المرحلة الأولى مركزة فى شخصه، ولكن بتقدمه فى السن وباتساع اتصالاته ومعرفته بالناس والأشياء من حوله تبدأ خبرته فى الاتساع والتنوع، ويبدأ فى إدراك العلاقات بين الأشياء بصرف النظر عن علاقتها به شخصيًا.
إلى هنا والأمر يبدو معقولًا ومقبولًا، ولكن الخطورة تكمن فى المفاهيم والعبارات والألفاظ المحملة بشحنات انفعالية، فمثلًا حين يذهب الطفل «محمد»- وليكن هذا اسمه- إلى المدرسة لأول مرة فى حياته، فلا شك أن الوالدين وحتى بقية أفراد الأسرة سوف يبتهجون جميعًا بهذه المناسبة العظيمة، وينتظرون على أحر من الجمر عودة طفلهم من المدرسة، وحين يعود يحتفون به، والفرحة تغمر قلوبهم، والابتسامة تكسو وجوههم، ثم يبدأون بإمطار الطفل بالأسئلة المتلاحقة:
- ماذا أكلت؟ ماذا شربت؟
- من دخل عليك الفصل من المدرسين والمدرسات؟
- ما أسماؤهم؟ وما انطباعك عنهم؟
- على من تعرفت من الزملاء والأصدقاء؟
- من جلس بجواره؟
حين يجيب الطفل عن كل هذه الأسئلة ببراءة وتلقائية، تظل وجوه الوالدين وبقية أفراد الأسرة تغمرها البهجة وتكسوها الابتسامة، إلى أن يجيب الطفل عن السؤال الأخير المتعلق باسم من جلس بجواره من الزملاء طوال اليوم الدراسي، فينطق الطفل قائلًا:
- جرجس.. جلست بجوار جرجس.
ما إن ينطق «محمد» باسم زميله «جرجس» حتى تكفهر الوجوه، وتنطفئ الابتسامة، وتغيب البهجة!!، ويوجه الأب أو الأم أو أحد الأشقاء أو إحدى الشقيقات الكلام إلى محمد مستنكرًا:
- جرجس.. !!.. لم تجد سوى جرجس تجلس بجواره؟!.. جرجس ده «مسيحي» «كافر».. حذارى أن تجلس بجواره مرة أخرى.. لا تصاحبه وإلا ربنا سوف يدخلك «نار جهنم»!!.
وعلى النحو نفسه يتعامل الطفل «جرجس» حين يعود إلى المنزل ويخبر أهله بأنه جلس فى المدرسة بجوار زميله «محمد».. هكذا يتم شحذ العقول وشحنها منذ الصغر بجرعات هائلة من كراهية الآخر المختلف.
هكذا يتم شحن السنى ضد الشيعي، والشيعى ضد السني، وتتولد عن هذه الكراهية خصومات وخصومات، تتحول مع الأيام إلى حروب طاحنة، فى العراق واليمن وسوريا ولبنان... وغيرها!! ويروح ضحيتها أبرياء لم يرتكبوا ذنبًا، وتجرى الدماء أنهارًا.. أنهارًا.. كل هذا نتيجة لسوء استخدام الألفاظ والعبارات وتوظيفها لغرس بذور الضغينة والكراهية فى النفوس، وشحن العقول بأفكار ومعتقدات مغلوطة.