الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

جمال مختار.. والحلم العربي الذي ولد في غواصة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لبى الدكتور جمال الدين مختار نداء الرحيل بعد حياة حافلة فى خدمة الأمة العربية مؤسسًا للأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا وفى خدمة حماية الأمن القومى المصرى، وأحد حماة شرف الوطن فى البحر كمؤسس أيضًا لسلاح الغواصات، وأحد رموز الرياضة العالمية كرئيس للجنة الأوليمبية المصرية ورئاسة العديد من الأندية التاريخية، مثل أندية رياضة الشراع واليخت والغوص، ولا يعرف الكثير أنه تولى منصب مدير الكرة للنادى الأوليمبى السكندرى، وتحت إشرافه وبتدريب المدرب (التيمي) حقق هذا الفريق من نجوم مصر بطولة الدورى العام الوحيدة لأحد الأندية فى عروس المتوسط.
جمال مختار بدأ حياته كخريج الدفعة الأولى للكلية البحرى، وضمت هذه الدفعة فى مقدمتهم اللواء محمود عبد الرحمن فهمى الوزير الأسبق وقائد القوات البحرية صاحب ملحمة (إيلات) والعميد حسين زاهر ياقوت الذى تولى رئاسة الشركة المالكة للأسطول التجارى الوطني، وأستاذ اللوجستيات ومؤسس هذا العلم فى الأكاديميات والجامعات أحمد عبدالمنصف محمود، والدكتور المؤرخ الجليل سميح إبراهيم، فهذه الكوكبة التى تتلمذت على أيدى الفريق أول سليمان عزت مؤسس البحرية المصرية الحديثة، والذى اتخذ موقفًا معاكسًا لحركة يوليو 52 مؤيدًا للملك فاروق، لكنه أمام قبول تنازل الملك عن العرش قام بتأييد الحركة وظل هو الأب الروحى والأستاذ والمعلم للبحرية المصرية أكثر من 15 عامًا أسس فيها مدرسة تخرجت فيها كوادر على أعلى مستوى من الكفاءة، وكانت البحرية هى السلاح الذى لم تشتبك معه إسرائيل، وظلت القوات البحرية محتفظة برونقها وواجبها التعبوى والدفاعى فى كافة الحروب، هذه المدرسة التى تخرج فيها جمال مختار، منهم أبطال جلال دسوقى وأحمد شاكر والفريق فؤاد ذكرى واللواء عبدالمعطى العربى ومصطفى مميش وماهر قنديل وبدر الدين إبراهيم وممدوح غانم وكمال الديدى وغيرهم.
نقطة التحول فى حياة هذا الأسطورة بدأت بعد أن أحيل إلى الاستيداع عقب حرب 67 لكن الرجل بفضل قدراته الخاصة شعر بأن حياته الثانية بدأت فى خدمة وطنه والتحق على الفور بالجامعة الأمريكية وحصل على الماجيستير فى علوم الإدارة الحديثة خاصة بالنسبة للمنظمات البحرية وبعد شهور تلقت مصر من الأمم المتحدة منحة لتأسيس معهد للنقل البحرى لتخريج الكوادر البحرية للتعامل مع النظم الحديثة فى تقييم السفن بطرازات جديدة، وفعلًا أوفدت أحد خبرائها، وهو الباكستانى «زكاء الله» ومن مصر الاقتصادى الراحل عبدالفتاح جاد، ووضع الموقف كله أمام المهندس حسن عامر والد الاقتصادى طارق عامر محافظ البنك المركزى، وكان قد التصق بقدراته الإدارية ورصيدة من الفكر الاقتصادى بل وعشق النقل البحرى، الذى اختاره لهذا الموقع هو الرئيس الراحل أنور السادات وعقدت اجتماعات عديدة حول هذه الفرصة الذهبية التى جاءت إلى مصر، لكى تؤكد مكانتها فى العالم البحرى من خلال موقعها الاستراتيجى، وجاء السؤال الصعب.. من الذى لديه القدرة لإدارة هذا الحلم المحلى أو العربى ورسخت أسماء عديدة وفى جلسة تاريخية عقدها الدكتور أحمد عفت ثانى وزير يتولى وزارة النقل البحرى بعد وزيرها المرحوم محمود حمدي، وشارك فى هذا الاجتماع المستشار سعيد العيسوى المستشار القانونى للوزير والمهندس حسن عامر وغيرهما من الخبراء ووقع الاختيار على شخصية الدكتور جمال مختار بعد استطلاع واسع مصحوب بالقلق وبالحسابات الإدارية والعلمية الدقيقة، وترك الوزير عفت والمهندس حسن عامر للذين اختيرا لهذه المهمة كامل الحرية لاختيار معاونين، وبدأت خطوات البناء الأول الصعبة واختار أن يكون الاقتصادى عواض عثمان والد الدكتور أحمد عواض رئيس قصور الثقافة، ثم أصدر قرارًا باخيتار اثنين من ألمع العقول فى القانون البحرى، وهما الدكتور أحمد عبدالمنصف، والدكتور ألفونس حبيب، وبدأت الفكرة بإنشاء معهد ثم تطور إلى كلية ثم أكاديمية النقل البحرى ثم الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا، وقد قررت الجامعة العربية بفضل اتصالات ومعاناة وفدائية تأسيس هذا الصرح، واستطاع بثبات المقاتل الغواص أن يحقق هذا الحلم العربي، لأن ضابط الغواصات له مواصفات قتالية خاصة، جعلته يجيد هذا الحلم العربى ويجعله حقيقة وصرحًا وواجهة لوحدة الأمة العربية تحت لواء الجامعة العربية، وجمع جمال مختار بين الفكر الإدارى للمنهج الأمريكى ومدرسة السربون العليا التى منحته درجة الدكتوراه، بل أدار هذه المنظومة بلغة جديدة فى الإدارة لم تكن معروفة فى المنظومة الإدارية وأصبحت الأكاديمية بمثابة ملتقى الأفكار والمناهج والمدارس البحرية فى العالم ورغم تحديات عديدة، إلا أنه بفضل تميز إيقاعها تحولت إلى شخصية علمية لها ملامحها المستقلة بكوادر على أرقى مستوى عالمى لتتخرج فيها أرقى نماذج، وخلال سنوات معاناة جمال مختار، إلا أنه استطاع أن ينجو بالأكاديمية من دوامات السياسة ودهاليز الصراع العربى، ومع حدة التحديات كان الجهد عظيمًا والعطاء أعظم، كان ينطلق بسرعة الريح ويتحرك نحو أهدافه متسلحًا بفكر الغواصات، حتى أصبح هذا الصرح مفخرة للأمة العربية ونافذتها إلى العالم المتحضر الذى أصبح ينظر للعقل العربى البحرى بكل معانى الاحترام.
وإذا تحدثنا عن جمال مختار فإنه كان الحل لمشاكل مجتمعه، والفكر المبتكر لاحتياجات أمته والصوت الأمين فى أداء رسالته والنجم الساطع فى قيمة مبادئه وأمانته وصاحب القرارات الهائلة فى قدراته على اقتحام الغامض والجديد والمجهول فى العالم الأكاديمى والقدرة على إدارته.
جمال مختار الذى كرمته الدنيا كلها عن جدارة، لأنه عالم العلوم الذى لا يعرف العواطف ولا يؤمن بالشفاعات كان يستحق التكريم، لأنه ظل فى محراب الأكاديمية، أعطاها عمره وصحته ونقش اسمه فى سجلات المنظمات العالمية بحروف من نور على أعلى درجات العلم والمعرفة لكن الغريب أن الجهة الوحيدة التى لم تقم بتكريمه هى الأكاديمية العربية، التى أسسها من الألف إلى الياء ولا داعى لتكرار وقائع، لأن الذى دفع ثمنها فاعلوها، لكن جمال مختار عاش عملاقًا ورحل عملاقًا، وكنت أتصور أن يخرج جثمانه من مبنى الأكاديمية إلى مسجد المواساة، لكن يبدو أن المسئولين بالأكاديمية بخلوا على الرجل وحرمانه من هذا التقليد، لتبدأ جنازته من أمام المبنى الذى أشرف على تركيب كل مسمار فيه بدمه، فقد مات يوم إجازة رسمية والمبنى مغلق بالضبة والمفتاح.
وأسأل هل فى هذا ثوابه.. أم عقابة؟.. لكن الحقيقة المؤكدة أن جمال مختار قيمة سواء فى حضوره أو غيابه.