الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

أمل دنقل.. أمير شعراء الرفض

أمل دنقل
أمل دنقل
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«هل يموت الذى كان يحيا
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
و كأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصبًا، بينما
ينحنى القلب يبحث عما فقد
استوحى الشاعر الكبير الراحل أمل دنقل، والذى تحل السبت ذكرى ميلاده؛ قصائده من رموز التراث العربي، مخالفًا بذلك معظم المدارس الشعرية فى الخمسينيات، وقد كان السائد فى هذا الوقت التأثر بالميثولوجيا الغربية عامة واليونانية خاصة.
ولقد عاصر أمل دنقل عصر أحلام العروبة والثورة المصرية، ما ساهم فى تشكيل نفسيته، وقد صدم ككل المصريين بانكسار مصر فى عام 1967، وعبر عن صدمته فى رائعته «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» ومجموعته «تعليق على ما حدث».
وعاش «أمل» لحظات النصر وضياعه وصرخ مع كل من صرخوا ضد معاهدة السلام، ووقتها أطلق رائعته «لا تصالح» والتى عبر فيها عن كل ما جال بخاطر كل المصريين، ونجد أيضًا تأثير تلك المعاهدة وأحداث شهر يناير عام 1977 واضحًا فى مجموعته «العهد الآتي». كان موقف أمل دنقل من عملية السلام سببًا فى اصطدامه فى الكثير من المرات بالسلطات المصرية وخاصة أن أشعاره كانت تقال فى المظاهرات على ألسن الآلاف.
ولد الشاعر أمل دنقل بمركز قفط محافظة قنا فى صعيد مصر، يوم ٢٣ يونيو ١٩٤٠، لأب كان يعتبر من الصفوة إلى حد ما، نظرا لكونه معلما للغة العربية وناظما للشعر، ما أهله لامتلاك مكتبة كانت تعد مرجعية شاعرنا وزاده منذ الصغر. 
وحين ارتحل أمل للقاهرة برفقة صديقيه يحيى الطاهر عبدالله وعبدالرحمن الأبنودي، بدأ فى نشر بعض أعماله الشعرية التى تنتمى للشعر الرومانسى التقليدي، ومع احتكاكه وتفاعله مع الشعراء، ومنهم أحمد عبدالمعطى حجازى أخذ أمل يبلور لنفسه اتجاها شعريا متميزا، جعل منه مع منتصف السبعينيات واحدا من أهم شعراء العربية المعاصرين الذين أضافوا لحركة الشعر الحر أعماقا وتقنيات لم يصل إليها جيل الرواد والشباب.
لم ينشر أمل دنقل قصائده الأولى ذات الطابع الرومانسى الباهت، وإنما نشر بعضها بعد وفاته فى نهاية أعماله الكاملة «القاهرة ١٩٨٤» ولكن أول ما نشر ديوانه «مقتل القمر» الذى حمل بعضا من تلك الطوابع الرومانسية، رغم نضج المستوى الفنى بوضوح فى قصائد الديوان، بينما ظهر الاتجاه الحقيقى لشعر أمل دنقل فى ديوانه الثانى «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» حيث لاحظ معاصروه القدرة الكبيرة على تحقيق المفارقة بين الواقع والحلم وليس التناقض، وكذلك بين الذاتى والموضوعي، فالرموز التراثية لا تبقى ذاتها فى نص أمل دنقل بقدر ما تتحول إلى رموز حية ومعاصرة سواء متطابقة مع منظور الشاعر أم مخالفة له، ويعد رمز زرقاء اليمامة، حسب الدكتور سيد البحراوي، أحد أهم الرموز التى برع أمل دنقل فى إلباسها معاناته فى الواقع، وقبل هزيمة ١٩٦٧، وبها اشتهر شهرة فائقة بسبب رصده لمجمل تناقضات الموقف العربى الذى كان لا بد أن يؤدى إلى الهزيمة.
وعلى مدار انتاج أمل دنقل الإبداعى تظل هذه الخصائص أساسية، حيث يظل الشاعر قادرا على أن يحمل هموم شعبه فى إطار همومه الشخصية، دون أن تنمحى هذه الهموم. 
المصادر التراثية عند «أمل»
هناك عدة زوايا ينظر الشاعر العربى من خلالها إلى التراث، وربما تنحصر فى: التراث الشعبي، والمرايا، والأقنعة، والتراث الأسطوري، وقد استفاد أمل دنقل من هذه الزوايا استفادة كبيرة فى تكوين رؤيته وخلق إبداعه بشكل عام، إلا أنه تبدو صورة «القناع» الأكثر شيوعا وشفافية وحضورا فى شعر أمل دنقل، وظلت الزاوية المثلى فى تشكيله الفنى ورؤيته الشعرية. ويبدو أن أفكار الكارثة التى حلت بالعالم العربى بعد هزيمة ١٩٦٧، أصابت أمل دنقل بما يطلق عليه الردة التاريخية، كرد فعل طبيعى لما خلفته الكارثة من آثار وشروخ فى الذات العربية، ربما يكون أهمها فقدان الهوية، ويسعى «أمل» إلى تحقيق هدفين من خلال هذه العودة التاريخية: تذكير الناس عبر بعث الحياة فى الذاكرة التاريخية، لمواجهة حالة الشك فى الذات، والحديث عن الواقع المعاصر عبر رموز تراثية.
وظل أمل دنقل وفيا للتراث العربى الاسلامي، فقد كان يمثل عنده القلب فى رؤيته الشعرية، والمصدر الأساسى لشعره، وتعددت المصادر التراثية فى شعر أمل دنقل منها القرآن الكريم والتراث العربى والإسلامى والتراث التوراتى والإنجيلي، فى الوقت الذى استند الشعراء العربى إلى التراث البابلى والسامرى واليونانى والإغريقي.
الكتب السماوية
شكل القرآن الكريم بعدا مهما فى العالم الشعرى لأمل دنقل، وكان للكلمة القرآنية وقعها المتميز فى شعره، نجدها فى قصائد متعددة مثل قوله:
يا إرم العماد
يا إرم العماد
ردى إليه: صهوة الجواد
وكتب السحر..
وبعض الخبز فى زوادة السفر.
وفى قصيدة أخرى يمتزج فيها السياسى بالشعرى يقول أمل:
ليغفر الرصاص من ذنبك ما تأخر
ليغفر الرصاص.. يا كيسنجر.
أما فى قصيدة الخيول فيتجلى صوت الماضى والحاضر فى رؤيتين متعاكستين للخيل، يقول أمل دنقل:
اركضى أو قفى الآن.. أيتها الخيل:
لست المغيرات صبحا 
ولا العاديات – كما – قيل ضبحا
أما التراث التوراتى والإنجيلى فيظهر جليا، خاصة فى ديوان «العهد الآتي»، فقد سمى قصائده على النحو التالي: صلاة، سفر التكوين، سفر الخروج، سفر ألف دال، ويعنون بعض قصائده بمزامير.
وتعد قصيدته الأولى فى هذا الديوان من أشد قصائده تأثرا بالعهد الجديد، وهذه القصيدة بعنوان «صلاة» يخاطب فيها رجل المباحث، بصوت تمتزج فيه المرارة بالسخرية العميقة:
أبانا الذى فى المباحث، نحن رعاياك، باق
لك الجبروت. وباق لنا الملكوت. وباق لمن
تحرس الرهبوت.
الرؤية والموقف الاجتماعى
من خلال قراءة الأعمال الكاملة لأمل دنقل، نجد أن رؤيته الكونية وموقفه الاجتماعى يستند إلى الموروث الديني، ذلك الموروث الذى تشكل «النبوة» بكل أبعادها جوهره وحقيقته، وهى تعد بدورها الإطار التاريخى الحضارى للشرق، ويتصل الموقف الاجتماعى عند «أمل» بالموقف الأخلاقى اتصالا وثيقا، مما يجعل البناء القيمى عنده متماسكا وقويا، ففى قصيدته «سفر التكوين» يتجسم الصراع الأبدى بين ما «هو كائن» و«وما ينبغى أن يكون» فى رؤيتين متعاكستين للواقع الإنساني، تمثلان الانفصام الحقيقى الذى يعيشه الإنسان، على المستويين العقلى والاجتماعي، ويظهر من خلالهما البناء القيمى عنده مرتكزا على بعدين أساسيين هما: العقل، والعدالة الاجتماعية.
«قلت: فليكن العقل فى الأرض، تصغى إلى صوته المتزن.
قلت: هل يبنى الطير أعشاشه فى فم الأفعوان؟،
هل الدود يسكن فى لهب النار؟، والبوم هل
يضع الكحل فى هدب عينيه؟، وهل يبذر الملح
من يرتجى القمح حين يدور الزمن؟.
ورأيت ابن آدم وهو يجن، فيقتلع الشجر المتطاول،
يبصق فى البئر، يلقى على صفحة النهر بالزيت، يسكن فى البيت، ثم يخبئ فى أسفل الباب
نبلة الموت، يؤوى العقارب فى دفء أضلاعه، 
ويورث أبناءه دينه.. واسمه.. وقميص الفتن».
هذا الانفصام فى الواقع الإنساني، يعمق أزمة العقل، وعندما يناضل «العقل» محاولا جسر الهوة فى الواقع الإنساني، يأتى دور «الاستبداد» الذى يحرص على تثبيت الواقع الإنسانى بصورة انفصامية، فينفى «العقل»، ويسحب عنه الشرعية، ويدرج فى عداد الذين يكرهون الوطن، فتعيش الذات محنتها الكونية عبر عزلتها، واغترابها عن مجتمعها:
«أصبح العقل مغتربا يتسول يقذفه صبية
بالحجارة، يوقفه الجند عند الحدود، وتسحب
منه الحكومات جنسية الوطن.. وتدرجه فى 
قوائم من يكرهون الوطن.
أزمة الذات
فى إطار الرؤية الشعرية لأمل دنقل، تجسمت أزمة «الذات» فى مستويين للخطاب الشعري، جاءا منسجمين مع واقع «الأزمة» والبحث عن «نموذج» للواقع التاريخى الذى تعيشه الأمة العربية، هما: جلد الذات، والانقطاع التاريخي.
وجاءت قصيدة «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»، لتعبر عن أسئلة المرحلة ما بعد الهزيمة، ولتكشف «الذات القومية» التى واجهت الهزيمة الكاملة، وتعريها تماما، كضرورة حتمية لمواجهة المرحلة القادمة، ومثل كل من «البكاء» و«السؤال» أهم عناوين حالة الانكسار بعد الهزيمة: 
«أيتها العرافة المقدسة»..
جئت إليك.. مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف فى معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء..
عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء
عن ساعدى المقطوع.. وهو ما يزال ممسكا بالراية
المنكسة
عن صور الأطفال فى الخوذات.. ملقاة على الصحراء.
كما تكشف لنا قصيدة «خطاب غير تاريخى على قبر صلاح الدين» التناقض بين زمنين: زمن تاريخي، وزمن غير تاريخي، ويستدعى الشاعر فى هذه القصيدة شخصية «صلاح الدين» التى تمثل الزمن التاريخي، حيث الوقت الحاضر لم يعد الزمن تاريخيا، ولم يعد الخطاب تاريخيا أيضا، وهذا التقاطع بين الزمنين داخل النص، يكثف الشعور بالانشطار الذى يعانى منه الواقع العربى فى بؤرة الوعى الشعري:
«ها أنت تسترخى أخيرا..
يا صلاح الدين.
يا أيها البطل البدائى الذى تراقص الموتى
على إيقاعه المجنون.
يا قارب الفلين
للعرب الغرقى الذين شتّتتهم سفن القراصنة
وأدركتهم لعنة الفراعنة.
وسنة.. بعد سنة..
صارت لهم حطين..
تميمة الطفل، وإكسير الغد العنين».
ويقوم أمل دنقل بتكثيف فكرة الانقطاع فى السياق التاريخي، من خلال استدعاء الرموز التاريخية التى تم اغتيالها والتى شاعت فى أعماله الشعرية فى مواطن عدة، تلك الفترات التاريخية التى كانت تمثل فكرة العدالة والرفض الاجتماعى الذى تعيشه الذات العربية ففى قصيدة «من أوراق أبى نواس»، يظهر الحسين قتيلا فى كربلاء ولم يرو أحد ظمأه بجرعة ماء:
«كنت فى كربلاء
قال لى الشيخ إن الحسين
مات من أجل جرعة ماء
وتساءلت كيف السيوف استباحت بنى الأكرمين؟ 
فأجاب الذى بصرته السماء
إنه الذهب المتلألئ فى كل عين»

من خلال قراءة الأعمال الكاملة لأمل دنقل، نجد أن رؤيته الكونية وموقفه الاجتماعى يستند إلى الموروث الديني، ذلك الموروث الذى تشكل «النبوة» بكل أبعادها جوهره وحقيقته

رسائل «أمل» لعبلة الروينى

قدمت رسالتا ن من أمل دنقل لعبلة الروينى فى فترة خلاف بينهما قبل الزواج، وإذ تدل الرسائل على موهبة وإبداع أمل دنقل النثرية، وكأنه يزن الكلمات وينحتها بيده
قصائد عبر عنها بالنثر.. وزنها بكلماته ونحتها بيده
لم تعترف يوما الثقافة العربية بـ«الرسائل»، بين الأدباء أو المثقفين أو غيرهم، كشكل أدبى أو عمل كتابى يجب قراءته ونقده وتحليله، كما هو متعارف عليه فى الثقافة الغربية، وكأن ثقافتنا هى ثقافة «للستر والحجب»، حيث ظلت الثقافة العربية أسيرة للأشكال التقليدية والنظرة التقليدية لمفهوم الكتابة «رواية، وقصة، وقصيدة» ولا تعطى فرصة لأعمال أخرى مثل الرسائل وتعتبرها هامشية.
واحتفاء بذكرى ميلاد أمل دنقل، ولأن تجربته الإبداعية فى الإطار الشعرى لم تكن عادية، بل فاقت العديد من الأشكال الموجودة فى عصره، فماذا عن تجربته النثرية، التى تؤكد الرسائل التى بين أيدينا أهميتها، وتجاوزها لأشكال أخرى من الرسائل، والتى نشرها للمرة الأولى الكاتب محمد شعير على موقع «منشور» فى سبتمبر ٢٠١٧، حيث قدم رسالتين من أمل دنقل لعبلة الروينى فى فترة خلاف بينهما قبل الزواج، وإذ تدل الرسائل على موهبة وإبداع أمل دنقل النثرية، وكأنه يزن الكلمات وينحتها بيده، فكل كلمة إنما تمس مشاعرك وتدخل إلى قلبك وتشعر بأنك كنت تريد أن تكتب هذه الكتابة فى لحظة ما، نثر ملتبس بالشعر، أو إن شئت فقل إن رسالة ما هى إلا قصيدة عبر عنها بالنثر.
يقول أمل دنقل فى رسالته الأولى: «لست من هواة كتابة الخطابات، لكننى كلما تحدثت إليك نشأ سوء تفاهم، ربما بسبب لهجتى الحادة فى الكلام، وربما بسبب تسرعك فى فهم ما أعنيه. على كل حال، أود فى البداية أن أخبرك أننى كنت أَمْس على وشك أن أقطع علاقتنا.. كنت مصممًا على ذلك حتى اللحظة الأخيرة فى المترو، عندما اكتشفت أنك تبكين.. لقد هزتنى دمعتك اليتيمة هزة عنيفة.. على عكس ما تعتقدين، فإن الضعف فى الحب وفى المشاعر يؤثر فىّ تأثيرًا عميقًا.. فى هذه اللحظة فقط ندمت على المشاجرة التى حدثت بيننا». 
يعترف أمل فى أول مقطع من رسالته مجموعة من الاعترافات، أولها أنه ليس من هواة كتابة الخطابات، إلا أن لغة الرسالة ومستوى الخطاب وبنية الجملة إنما تؤكد على مهارات متفردة فى كتابة الرسائل.
والاعتراف الثانى هو سوء التفاهم الذى ينشأ دوما بينهما حين الحديث، ويقدم مبررات هذا أو أسبابه ويقتصرها على لهجته الحادة، فهو لا يلقى اللوم على الآخر فى العلاقة، بل يعترف بتحمله السبب الرئيس فى نشأة سوء التفاهم، وإن كان بسبب لهجته الحادة فهو صاحب هذه اللهجة، ثم يقدم احتمالية أن تكون هى السبب «وربما بسبب تسرعك فى فهم ما أعنيه»، لم يحمل الطرف الآخر أخطاءه أو يقر بأن الآخر هو الخطاء بل يضعه فى منطقة الاحتمال، ما يدل على أننا أمام شخص نبيل على المستوى الأخلاقي، حكيم، لديه القدرة على الحكم على الآخرين وعلى نفسه أو لا، يستطيع ميزان الأمور بميزان العقل.
لا ينكر خطأه وندمه عن موقف عابر حدث، فهو يملك القدرة على الاعتزار والاعتراف بالخطأ تلك القدرة التى عز امتلاكها لدى الكثيرين سواء فى عصر أمل أو عصرنا الحالى «فإن الضعف فى الحب وفى المشاعر يؤثر فىّ تأثيرًا عميقًا.. فى هذه اللحظة فقط ندمت على المشاجرة التى حدثت بيننا» هكذا يقدم لنا أمل دنقل فى رسائله نموذجا لمبدع على قدر التجربة الإبداعية وقدر هموم عصره وهمومه الشخصية، قادر على المواجهة والتغيير، ليس هذا فقط بل يملك مقومات التغيير ولو على مستوى الذات.
يقول أمل دنقل فى رسالته الأولى: «لست من هواة كتابة الخطابات، لكننى كلما تحدثت إليك نشأ سوء تفاهم، ربما بسبب لهجتى الحادة فى الكلام، وربما بسبب تسرعك فى فهم ما أعنيه