السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مصابيح في دائرة الظل (6) عبدالحميد حمدي وصحافة الرأي الحر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لما كان النقد والحوار والمحاجة من آليات الإبداع والإصلاح انتهج التنويريون المحدثون في الثقافتين الغربية والعربية هذا المنحى ولاسيما في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، وكان مقصدهم من ذلك هو غربلة كل المعارف الوافدة سواء من الموروث أو من الغرب، وانتقاء منها النافع الذي يتفق مع العقل والعلم واحتياجات الواقع من جهة، والثوابت العقدية والمقاصد الشرعية من جهة ثانية.
ويُعد مفكرنا من أوائل المستنيرين الذين اتهموا من قبل الرجعيين بالإلحاد ووصفهم الوهابيون وأنصارهم في مصر بالعمالة والعمل على تزييف الهوية الإسلامية. 
هو عبدالحميد أفندى حمدي، أديب وناقد اجتماعي وسياسي ليبرالي ورائد من رواد صحافة الرأي المصرية (١٨٨٥-١٩٥٠م)، وُلد في دمياط في كنف أسرة برجوازية وطنية، ثم انتقل إلى القاهرة، وأضحى من شبيبة كتاب الجريدة وله عشرات المقالات في مجلة الثبات، ثم السياسة اليومية والسياسة الأسبوعية، والرسالة، والأخبار، ورأس تحرير العديد من الصحف والمجلات نذكر منها الطلبة، والسفور، والنهضة المصرية بالاشتراك مع إدوار بايار، والتجارب، وأخبار الحرب والعالم. 
وقد اشتهر بين رصفائه بثقافته الموسوعية وإلمامه بالثقافتين العربية والغربية، وقد مكنته إجادته للغتين الإنجليزية والفرنسية من ترجمة الكثير من الروايات العالمية وتلخيص أشهر النظريات الاجتماعية والسياسية التى ظهرت فى النصف الأول من القرن العشرين. 
وقد وصفه معظم معاصريه بأنه الناقد الواعي المجادل.. ولعل أشهر مساجلاته هي تلك التي جرت بينه وبين محمد رشيد رضا (١٨٦٥-١٩٣٥م) الذي كان يروج في الفترة ما بين الحربين إلى الفكر الوهابي بكل ما فيه من تقليد وجمود، ولا سيما حيال المرأة وحجابها، وقد انقلب بتلك الآراء على مدرسة الإمام محمد عبده وتلاميذه - تلك التي كان ينتمي إليها - إلى درجة وصفهم بالمروق والكفر في العقيدة، الأمر الذي دفع عبدالحميد أفندي حمدي إلى التصدي له على صفحات مجلة السفور منذ عددها الأول في ٢١ مايو ١٩١٥، مبينًا أن وجهته الليبرالية المدافعة عن حرية الفكر والاعتقاد والمرأة ليست بدعة ولا ضربًا من ضروب المروق، بل هي امتداد لمشروع التجديد وتحرير الفكر من قيد التقليد وفتح باب الاجتهاد وحرية المرأة وكرامتها وغير ذلك من دروب الإصلاح والاستنارة، وهو الدرب الذي استنه الأستاذ الإمام محمد عبده، كما بين أن حملة الرجعيين على مجلة السفور لا مبرر لها إلا الجهل بحقيقة مراميها والتشكيك في وجهة كتابها. 
وأكد أن السفور الذي يدعو له لا ينبغي حصره في قضية سفور المرأة وحجابها ولا وصفه بأنه دعوة للتبرج أو مخالفة لما ثبت من الشرع، بل إنه يريد تمزيق كل حجب الزيف والخداع والفساد والغش والرياء والتملق في شتى ميادين حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. 
وقد رمز في هذا السياق إلى حال الأمة المتردي بالمرأة التي أرادوا سجنها واغتصاب حقوقها وإذلالها وإهدار كرامتها باسم الدين تارة أو العادات والتقاليد تارة أخرى، متوهمين أن المظهر يمكنه ستر المخبر المريض، وكأنه أراد إعادة قراءة كتاب (كارليل) فلسفة الملابس الخادعة التي تظهر المدلس الجاهل في عباءة العالم الأريب، والمرأة اللعوب في حجاب العفة والحياء. 
وأعتقد أن عبقرية قلم عبدالحميد حمدي تتجلي بوضوح في مناقشته الفلسفية الهادئة لقضية سفور المرأة وحجابها التي طرحت على مائدة التثاقف والتناظر منذ مائة عام، ولا ريب في أن دفوعه وحججه التي ساقها تكشف عن أصالة نهجه الفلسفي واعتدال وجهته العقدية وقوة أسانيده العلمية.
فقد ذهب إلى أن ادعاء الرجعيين بأن دعوتهم للنقاب ضد سفور المرأة ذود عن الدين والأعراف والتقاليد زعم يحتاج إلى مراجعة، فالحجاب المادي الذي يشيرون إليه (النقاب) غير متفق عليه بين الفقهاء وغير معروف للعوام، فالقفطان الذي يغطي كل الجسد لم تلبسه المصريات إلا في أقاصي الصعيد، أما نساء الوجه البحري فترتدين الجلاليب والطرح، ونساء المدن يرتدين الملاية والبرقع، كما أن الخمار الذى ورد في النص صفاته غير معروفة، وكل هذه الأزياء لا تعبر عن الصورة المتوهمة للحجاب الشرعي الذي أباح ظهور الوجه والكفين من جسد المرأة.
وإذا قيل إنهم ينادون بالحجاب الوهابي درءًا للمفاسد الخلقية وصونًا للعفة والحياء فإن هذا القول أيضًا تكذبه شكايتهم من انحلال أخلاقيات النسوة المنتقبات، وإذا قيل إن حجاب المرأة المصرية هو الأصل الذي نشأت عليه وأن غالبية النسوة في مصر محجبات فإن مثل ذلك القول يبطل دعوتهم لشيء غير موجود (السفور). 
أما إذا كانت دعوتهم للحجاب بمعنى الفصل والعزل وسجن المرأة في بيتها، فإن مثل ذلك المقصد لا يوجبه الشرع ولم تحث عليه الأعراف، فالمرأة المصرية على وجه الخصوص ما زالت تجوب الأسواق في المدن وتشارك زوجها في أعمال الحقل في القرى شأنها في ذلك شأن المرأة في صدر الإسلام التى كانت تتعلم وتعلم وتعمل جنبًا إلى جنب الرجال، ولم ينهها الشرع عن ذلك.
وانتهى إلى أن الحصن الحقيقي للمرأة في تعليمها وحسن تربيتها وتعويدها على خوض ميدان العمل والمشاركة الإيجابية للمجتمع، فالعفة والحياء والفضيلة وغير ذلك من القيم التى نريدها لجمال المرأة وكمالها لا يمكن حصره في تلك الخرق التي تتسربل بها النساء.. فما فائدة سلامة المظهر إذا ما فسد المخبر؟ 
وحسبنا أن نشير إلى أن أصالة هذا المفكر لا تكمن في آرائه حيال هذه القضية بل تكمن في لغة مثاقفته ومصاولته للخصوم، وتأكيده على حرية الرأى بمنأى عن القدح والسب والشتم، فهو مؤمن كل الإيمان بأنه لا يقدم فصل الخطاب أو الحكم الذي لا يُرد، بل نجده في المقالات التي عالج فيها هذه القضية يؤكد أن الحقيقة تكمن في الحوار العلمي بين المثقفين والعارفين بمقاصد الشريعة وطبائع المجتمع وحاجاته، وأن هدفه من طرح هذه القضية هو الإصلاح وليس الفوضى، أو إنكار ما يثبت صحته شرعًا. 
وأعتقد أن عبدالحميد حمدي يستحق عن جدارة وسام أدب الاختلاف، وإذا كان منا من يعشق التقليد فينبغي عليه أن يحتذي أدب هذا الرجل في المثقفات عوضًا عن تلك البذاءات التي نعيشها في عصر انحطاط الفكر. 
ولسير الأعلام بقية