الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مصابيح في دائرة الظل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا غرو فى أن الثقافة الأوروبية بعلومها وفلسفاتها ونظمها السياسة والاقتصادية قد سحرت عيون النازحين إليها من رجالات المستنيرين العرب وتملكت أذهانهم، فعاد بعضهم ساخط على الشرق وكافر به، وعاد البعض الآخر وغايته هى الاقتداء بالثقافة الغربية والسير فى ركابها، والقليل من هؤلاء عاد وفى يده غربال سكب فيه كل معارفه التى ابتضعها من هناك ليستخلص منها ما يعينه على تجديد ثقافة أمته وإصلاح ما فسد فيها وإحياء ما بلى من مشخصات هويته. ولعل ميخائيل نعيمة أحد هولاء.
هو المفكر والأديب المسرحى والروائى والشاعر والناقد والصحفى اللبناني، ولد فى بلدة بسكنتا الواقعة بجبل صنين بلبنان (1889-1988م) وتعلم فى مدرسة القرية ثم التحق بالمدرسة الروسية حتى أتم دراسته الأولية عام 1902م، ومنها إلى مدرسة دار المعلمين إحدى جمعيات الإمبراطورية الروسية فى فلسطين لإتمام دراسته الثانوية. ثم انتقل إلى أوكرانيا 1906م لإتمام دراسته الجامعية، وتعلم هناك اللغة الروسية وآدابها، كما تعرف هناك على فلسفة دوستويفسكى (1821-1881م) وتولستوى (1828-1910 م) وآرائهما الإصلاحية التى سكباها فى مؤلفاتهما وأحاديثهما عن دور الأدب والفن فى توعية الرأى العام والارتقاء بأخلاقه ومعالجة مشكلاته وتبنى قضاياه المصيرية الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. ثم رحل إلى أمريكا عام 1911م لدراسة الفلسفة والآداب والحقوق فى جامعة سياتل بواشنطن فألم باللغة الإنجليزية، وتعرف هناك على معظم إبداعات الفلاسفة والأدباء الأوروبيين، واستهوته دراسة ثقافات الشعوب والشرائع المقارنة وكتب الفقه الإسلامى وتفاسير القرآن والحديث، وكتابات النهضويين والتنويريين الأوروبيين، وذلك خلال الساعات الطوال التى كان يقضيها فى المكتبات والمنتديات الأدبية والحلقات الفنية، ذلك فضلًا عن انضمامه للرابطة القلمية التى أسسها الأدباء العرب فى المهجر، واتصاله كذلك بالجمعيات الثيوصوفية التى قومت العديد من أفكاره الموروثة ورغّبته فى دراسة الأساطير والدين الطبيعى ووحدة الأديان، وكان يكتب خلال هذه الفترة فى العديد من المجلات منها مجلة الفنون الأمريكية ومجلة السائح. حصل على الجنسية الأمريكية، والتحق بجيشها أثناء الحرب العالمية الأولى 1918 وسافر إلى فرنسا ضمن قوات التحالف. ثم عاد إلى لبنان 1932، ولقبه قرائه (ناسك الشخروب) نسبة إلى المكان الذى كان يتأمل فيه مستلهمًا معظم آرائه ونقداته وإبداعاته الفنية، الواقع بجبل فى قريته.
ويمكننا إيجاز فلسفة نعيمة فى عدة أنساق مترابطة تعكس تأثره بأفكار الأدباء الروس والفلسفة الثيوصوفية وعلمانية فلاسفة عصر التنوير، بالإضافة إلى تعلقه بروحانية الفكر الشرقى وأخلاقياته وانتمائه الحضارى والوطني. فنجده ينظر إلى الدين فى جوهره الروحى ومقاصده الأخلاقية بمنأى عن كل أشكال التعصب والطائفية ومتاجرة رجالات الكنيسة بالصليب والخلاص وخداعهم للجمهور وتحالفهم مع الحكام، ومن أقوله عن المسيحية الحقة «إن المصباح الوحيد الذى أهتدى بنوره هو الإنجيل، وقد ضايقنى أن تحجب الكنيسة نور ذلك المصباح بغيوم كثيفة من الطقوس والتقاليد.. ها هى الكنيسة ورجال الكنيسة يتحالفون مع المال والسلطة، يخدمون الله بألسنتهم وشفاهم لا غير».
وبتأثير من صوفية وحدة الوجود وفلسفة سبينوزا (1632-1677م) لا يفرق بين وجود العالم ووجود الله (الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة)، وأن لا سبيل لمعرفة الله بمعزل عن الوجود الإنساني، ولا يُعرف الله حق معرفته إلا بحب الله. وبتلك الروح الصوفية رفض الفلسفات المادية والإلحادية، ويقول: «لا ما أفلس الدين ولا أفلس من الدين حتى الذين يتهمون الدين بالإفلاس، بل كل ما هنالك أن شعورهم بالله لا يزال فى شكل دخان يضيق عليهم أنفاسهم، فيتعذر عليهم معه أن يفهموا كيف أن الشرائع الدينية تداس وتمتهن ويبقى مع ذلك الدين حيًا قويًا». 
وينتقل نعيمة من حديثه عن الدين الحق إلى المجتمع المثالى مؤكدًا أن الأخلاق وحدها هى التى يمكن أن تصنع الخلاص والسعادة على الأرض، أما الفساد والعنف والشر والكراهية وغير ذلك من الرذائل فجميعها من طقوس عبادة الهمجية.
وعن السياسة يرى نعيمة أن كثرة القوانين والمحاكم والسجون تنبأ عن فشل الحاكم ورجالات الدولة فى تربية وتعليم الشعب وتنشئته على حب الوطن والحرية الواعية والعدالة الناجزة. وذهب إلى أن الميتافيزيقا تحدثنا عن مكائد الشياطين، الذين يريدون الزج بنا فى آتون الجحيم غير أن الحقيقة أن استبداد الساسة وجشع أصحاب الأموال وتجار السلاح هم الذين يصنعون جهنم على الأرض، ويطعنون الإنسانية بخنجر مسموم لا يسلم منه أحد. 
وكان لميخائيل نعيمة إسهامات كبيرة فى تيسير اللغة العربية فى ميدان الخطابة والقصص والمقال الصحفي، ذلك فضلًا عن تحديث أساليب التقريظ والنقد. وقد وجه معارفه العلمية وملكاته الإبداعية الأدبية لخدمة قضايا مجتمعه، إذ رفض نظرية الفن للفن ووجه الأدب وجهة إصلاحية لمناقشة قضايا المجتمع ومعالجة أدرانه وهموم المهمشين وأزمات المثقفين وعذابات المضطهدين، وتوعية الجمهور بالقدر الذى يجعله مدركًا لحقوقه وواجباته تجاه وطنه وقوميته والأغيار، الذين يحيطون به ويشاركونه العيش؛ وقد وضح منهجه هذا فى كتابه (الغربال) الذى صرح فيه بأن الكاتب هو رسول أمته ومعلمها وهاديها ومرشدها ومحاميها والمدافع الأول عن حقوقها، والمعبر الفصيح الصادق عن رغباتها، والبطل المغوار الذى يقودها إلى طريق السعادة حيث الحرية والعدالة والأمن والسلام والتسامح والمدنية والعمران. 
وقد عبرت كتابات ميخائيل نعيمة عن مدى أصالته وإخلاصه لعروبته وانتمائه لثقافته التى نشأ فيها، فموسوعيته وإلمامه بالثقافات الغربية لم تجعل منه بوقًا من أبواقها ولا مروجًا لنظرياتها المناهضة لتراثه رغم تأثره بآدابها ومناهجها النقدية وأساليبها العلمية وفلسفاتها المختلفة، أى هو أنموذج للمفكر المستنير، والمصلح المجدد الذى عكف طيلة حياته لخدمة مجتمعه، والفنان الذى آمن بأن هناك ثوابت ومتحولات ضابطة لمشخصات الهوية تمنعها من الخلط بين الحرية والإباحية، بين التدين والتعصب، بين النقد والقدح، والتجديد والتبديد، والتأثر والتبعية. 
وإذا كانت الحكومة اللبنانية قد منحته وسام الاستحقاق عام 1987م اعترافًا منها بفضله وإجلالًا لمكانته بين النهضويين العرب، فإننا اليوم نقدمه لبعض شبيبتنا، الذين استنكروا لمشخصاتهم وجحدوا هويتهم واستغربوا ورفعوا شعار الفن للفن غير عابئين بمآلات التقليد وتبعاته وآثاره على المجتمع وأعرافه وتقاليده التى تشكل بنية ثقافته، وذلك تارة باسم الحرية وأخرى باسم ما بعد الحداثة، تلك الألفاظ التى يرددوها والشعارات، التى يتبنونها دون إدراك معانيها أو استيعاب مراميها. 
ولسير الأعلام بقية