الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

د. رفعت السعيد يكتب.. صيحات التجديد الديني "3"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الرد على الدهريين ودور جمال الدين الأفغانى
الأسباب الحقيقية لطرد «محرر العقول» من مصر بعد ثورة الأزهريين
محمد عبده يقدم منهجًا إسلاميًا ويفتح أبواب النهضة الحديثة
أفتى بجواز التعامل المصرفى وقبول سعر الفائدة واللجوء.. ولشركات التأمين وحرية المأكل والملبس فى غير ما حرم الله
يظل فى تاريخ الإسلام مجددون رفعوا من شأن الدين الحنيف واستوعبوا قيمته كثورة فى الفكر الإنسانى.. وكانت «البوابة نيوز» قد نشرت منذ سنوات بحثًا على حلقات للمفكر الراحل د. رفعت السعيد تنتاول فيها صيحات التجديد الدينى، والدور التاريخى للمجددين فى الإسلام.. تحيةً لروح الراحل الكبير ولأرواح كل المجددين الذين تظل أسماؤهم محفورة بحروف من نور فى سجل البشرية
لعل أبرز المتناقضات الفكرية عند الأفغانى قد أتت بمناسبة إصداره كتابه الشهير «الرد على الدهريين»، وقد أصدره كرد على خطاب أتاه من مولوى محمد واصل مدرس الفنون الرياضية فى مدرسة الأعزة بمدينة حيدر أباد من بلاد الهند، قال فيه: «يقرع آذاننا هذه الأيام صوت نيتشر [يقصد النشأة الطبيعية للكون] ويصل إلينا من جميع الأقطار الهندية، ولقد سألت كثيرًا: ما حقيقة النيتشرية، وهل هى طريقة تنافى أصول الدين؟ ولكن لم يفدنى أحد ولهذا ألتمس من جنابكم أن تشرحوا حقيقة النيتشرية والنيتشريين بتفصيل ينفع العلة ويشفى العلة والسلام» [عبدالقادر المغربى- جمال الدين الأفغانى- سلسلة اقرأ- صـ٧٢]، ولم يكن الأفغانى على معرفة باللغات الأجنبية، ولم يكن من ذلك الصنف الذى يقول لا أعلم، ومع ذلك ألف كتابًا شن فيه هجومًا عاصفًا عن من سمّاهم «الدهريين»، وقال: «النيتشر اسم للطبيعة، وطريقة النيتشر هى الطريقة الدهرية، ومقصد أرباب هذه الطريقة هو محو الأديان، ووضع أساس الإباحة والاشتراك فى الأموال والأبضاع بين الناس عامة.

وأينما ذهب ذاهب فى غور مقاصد الآخذين بهذه الطريقة تجلى له أنه لا نتيجة لمقدماتهم سوى فساد المدنية، وانتقاض بناء الهيئة الاجتماعية الإنسانية» [جمال الدين الافغانى- الرد على الدهريين- ترجمة محمد عبده وعارف أبو تراب- الطبعة الرابعة (١٩١٤)]. ويمضى الأفغانى «واسم الطبيعة فى اللغة الفرنساوية ناتور وفى الإنجليزية نيتشر، وتسمى هذه الطائفة عند العرب بالطبيعيين، وعند الفرنسيين نتوراليسم أو ماتيرياليسم الأولى من حيث هى طبيعية، والثانية من حيث هى مادية. وقد يُظهر الماديون أنفسهم فى أوقات بدعوى السعى فى تطهير الأذهان من الخرافات وتنوير العقول بحقائق المعلومات، وتارة أخرى يتمثلون فى صورة محبى الفقراء وحماة الضعفاء وطلاب خير للمساكين، ولكن وكيفما ظهروا كانوا صدمة على أبناء قومهم يميتون القلوب الحية بأقوالهم وينفثون السم فى الأرواح بآرائهم»، وبعدها يتوجه الأفغانى إلى نظرية داروين قائلًا: «ورأس القائلين بهذا داروين، وقد ألف كتابًا فى بيان أن الإنسان كان قردًا ثم عرض له التنقيح والتهذيب فى صورته تدريجيًا على تتالى العصور المتطاولة وبتأثير الفواعل الطبيعية الخارجية، وعلى رأى داروين هذا يمكن للبرغوت أن يصير فيلا بمرور القرون، وأن ينقلب الفيل برغوثًا»، ثم ينحنى ليهاجم السوسياليست [الاشتراكيين] فيقول: وهى طائفة تسعى لتقرير الاشتراك فى المشتهيات ومحو حدود الامتياز حتى لا يعلو أحد على أحد، ثم هو يهاجم الثورة الفرنسية والأضاليل التى بثها الدهريان ووليتر [فولتير] وروسو، والتى أضرمت نار الثورة الفرنسية وفرقت أهواء الأمة وأفسدت أخلاق الكثيرين»، ثم يكون الموقف النقيض فى كتاب «خاطرات جمال الدين»، ويبدأه قائلًا: «وإذا سلمت فى كتابة خاطراتى هذه من خطر الطاغية وطواغيته فستصادف من أهل الجمود عنتًا وقلبًا للحقائق»، ويقول: «سئلت عن قول المعرى والذى حارت البرية فيه «حيوان مستحدث من جماد»، وهل كان يقصد ما عناه داروين بنظرية النشوء والارتقاء؟ ولا أغالى ولا أبالغ إذا قلت ليس على سطح الأرض شيء جديد بالجوهر ومقصد أبى العلاء هو نظرية النشوء والارتقاء، وقد اهتدى داروين بما قاله علماء العرب قبله إذ قال أبو بكر بن بشرون فى رسالته لأبى السمع: «إن التراب يستحيل نباتًا والنبات يستحيل حيوانًا، وإن أرفع المواليد هو الإنسان آخر الاستحالات».. فالسابق فى هذا القول علماء العرب وليس داروين مع الاعتراف بفضل الرجل وثباته على تبعاته وخدمته للتاريخ الطبيعى، وإن خالفته وخالفت أنصاره فى مسألة نسمة الحياة» [الخاطرات] وقد امتدح الأفغانى شبلى شميل بسبب كتابه «شرح رسائل بوخنر على نظرية النشوء والارتقاء»، وامتدح «جرأته على بث ما يعتقده من الحكمة وعدم تهيبه من سخط الجموع» [جمال الدين الأفغانى- خاطرات جمال الدين الحسينى- أملاه على محمد باشا المخزومى- بيروت (١٩٣١)]. كما أنه امتدح الثورة الفرنسية متحدثًا عن أمجادها وأثنى على الاشتراكية، مؤكدًا أن أول من نادى بها هم الخلفاء الراشدين، وأنها تعطى حقًا مطلوبًا للشعب العامل.


دور بارز
رغم هذه المتناقضات التى امتلأت بها كتابات ومواقف جمال الدين الأفغاني، فإن أحدًا لا يمكنه أن ينكر دوره البارز - سواء فى مجال السياسة التحررية أو فى مجال التجديد الدينى - وهكذا وصفه أحمد أمين فى كلمة ألقاها أمام قبره، فى احتفال أقيم لإحياء ذكراه، فقال إنه «محيى النفوس، ومحرر العقول، ومحرك القلوب، وباعث الشعوب، ومزلزل العروش، ومن كانت السلاطين تغار من عظمته، وتخشى من لسانه وسطوته، والدول ذات البنود تخاف من حركته، والممالك الواسعة الحرية تضيق نفسًا بحريته»، وكم من مواقف اتخذها الأفغانى كانت مثار إلهام لشعوب بأكملها، ففى حضرة السلطان عبدالحميد، أقوى أقوياء زمانه وخاقان البرين والبحرين، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، أخرج مسبحته من جيبه وبدأ يعبث بحبّاتها بين أصابعه، وفى هدوء انحنى رئيس الديوان على الأفغانى هامسًا بأن يعيد الأفغانى مسبحته إلى جيبه، إلا أن الأفغانى ردّ بصوت عالٍ: «إن حضرة السلطان يلعب بحياة ثلاثين مليونًا من بنى آدم، أفلا يلعب جمال الدين بثلاثين حبة من الكهرمان؟!»، وعندما جلس إلى الخديو توفيق لم يناور بالألفاظ، بل قال مباشرة: «إن قبلتم نصح المخلص، وأسرعتم فى اشتراك الأمة فى حكم البلاد عن طريق الشورى، فتأمرون بإجراء انتخاب جمعية لنواب الأمة تسنّ القوانين لتنفّذ باسمكم وبإرادتكم، يكون ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم»، [الأعمال الكاملة- صـ٤٧٥]. 
وكان الأفغانى يصرخ بالمساواة، فسأله ناصر الدين خسرو، شاه إيران: «أيصح أن أكون - يا حضرة السيد - وأنا ملك ملوك الفرس، كأحد أفراد الفلاحين؟»، فرد جمال الدين الأفغاني: «اعلم يا حضرة الشاه، أن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك، ستكون- بالحكم الدستورى- أعظم وأثبت ممّا هى الآن، ولا شك يا عظمة السلطان أنك رأيت وقرأت عن أمة استطاعت أن تعيش دون أن يكون على رأسها ملك، ولكن هل رأيت ملكًا عاش دون أمة ورعيّة؟!»، [عبدالرحمن الرافعى- جمال الدين الأفغانى باعث نهضة الشرق- صـ٢١٢]، ويمضى الأفغانى محرّضًا: «أنت أيها الفلاح المسكين، تشق قلب الأرض لتستنبت منها ما يسدّ الرمق ويقيم أود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك؟!، لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟!»، وأيضًا القول: «لو أن كل واحد من هذه الشعوب بصق بصقة واحدة، وبصقوها معًا، لتكوَّن منها بحر هائل أغرق كل الطغاة»، ثم يـأتى إلى ميدان التجديد فى الدين، فيعلن - فى شجاعته نادرة فى زمانه - «إن الدين يجل عن معارضة العلم، فإن وقعت المعارضة وجب تأويل النص»، ويصيح على صفحات العروة الوثقى: «لقد فسد الإسلام بالجهل بتعاليمه الصحيحة عبر الأجيال، ولا بدّ من ثورة لإصلاحه وإلا واجه المسلمون الهلاك، إن أخطاء القرون الماضية ومساوئها إنما حصلت نتيجة سوء فهم جوهر العقيدة كما احتواها القرآن والسنة، فالإسلام - فى جوهره - دين عقلانى يدعو إلى تحرير العقول من الخرافات، ويفتح الباب واسعًا أمام العلم، وعلى المسلمين - إذا أرادوا الخروج من كهوف التخلف والانحطاط - أن يأخذوا من أوروبا ما ينفعهم من العلوم الحديثة»، وأيضًا قوله: «إن التعاليم الأصلية للإسلام تعطى للمسلمين حق الثورة ضد حكامهم الطغاة»، ثم ها هو يتحدّى الجميع قائلًا: «إن الشرائع تتغير بتغيّر الأمم»، [الدكتور محمد كامل ضاهر- الصراع بين التيارين الدينى والعلمانى- صـ١٥٤]، وبطبيعة الحال هاج عليه شيوخ الأزهر وحرضوا تلاميذهم ضده، فهاجموا مجالسه واعتدوا عليها، فاتّخذ لنفسه سكنًا سريًّا فى «دار الفوال» بخان أبى طاقية، ومع ذلك لحق به طلاب الأزهر، وفيما هو يخرج من بيته - فى نفر من تلاميذه - اعتدوا عليهم بالعصيّ وآذوهم إيذاء شديدًا، ووصل الأمر بالأفغانى إلى أن بدأ فى تشكيل جمعية سرية، كان من أهدافها اغتيال الخديو إسماعيل باشا، وهو أمر أكده الشيخ محمد عبده» [Engish Occupation of Egypt – p.٤٨٩ Blunt – Secert History of]. 
وأخيرًا يصدر بيان رسمى يقول: «إن جمال الدين الأفغانى كان رئيس جمعية سرية من الشبان ذوى الطيش، مجتمعة على فساد الدين والدنيا، وقد تقرّر طرده من مصر»، وفيما يتجه الأفغانى إلى السويس ليبحر من هناك - ومعه تابعه عارف أبو تراب، حاملًا صرّة ملابسه - تقدم إليه القنصل البريطانى عارضًا مساعدة مادية، فقال الأفغانى مترفّعًا: «كلاّ يا حضرة القنصل، إن الأسد لا يعدم فريسة». 

وطأة الطغيان
ونأتى إلى محمد عبده تلميذ الأفغانى المخلص لنجد ثمة فارقين، أولهما أن عبده كان أكثر وضوحًا فى تجديده، لكنه كان أقل شجاعة فى مواجهة الحكام، وإذ يستشعر محمد عبده وطأة الطغيان كان يراسل أستاذه برسائل مليئة بالألغاز ودون أن يوقعها، فيرد الأفغانى «تكتب لى ولا توقع وتُعقـَّد الألغاز. وما الكلاب قلت أو كثرت» [محمد رشيد رضا- تاريخ الأستاذ الإمام- الجزء الأول- صـ١٤٢]، ويعود محمد عبده ليقترح على أستاذه «أرى أن نهجر السياسة ونذهب إلى مجهل من مجاهل الأرض، لا يعرفنا فيه أحد، ثم نختار من أهله عشرة غلمان من الأذكياء نربيهم على منهجنا، فإذا أتيح لكل منهم تربية عشرة آخرين لا تمضى بضع سنين إلا ولدينا مائة قائد من قواد الجهاد فى سبيل الإصلاح»، ويرد الأفغانى مستنكرًا «إنما أنت مثبط، نحن قد شرعنا فى العمل ولا بد من المضى فيه ما دمنا نرى منفذًا» [عباس العقاد- المرجع السابق- صـ١٠٦].
.. ورغم هذا الفارق الواضح فى المواقف فإن الأفغانى لم يجد أفضل ولا أكثر علمًا ولا قدرة على التأثير فى حركة المجتمع من محمد عبده وطوال سيره بخطوات واهنة فى طريقة إلى الإبعاد، كان يحيط به بعض من الأتباع، وكان يوصيهم بصوت مرتفع «حسبكم محمد عبده، حسبكم محمد عبده من ولى أمين». لكن محمد عبده كان يتطلع مثل أستاذه إلى التغيير من أعلى وعبر تأثير فى النخبة إلى درجة أن الأفغانى راهن على توفيق عندما كان وليًّا للعهد، ولما تولى توفيق موقع الخديو قال للأفغانى فى تملق، «أنت أملى فى هذا البلد.. يا سيد». ولكن الخديو ما لبث أن انقلب على الأفغانى وطرده من مصر. كذلك علق محمد عبده آماله على رياض باشا الذى توسم فيه بعضًا من التفهم. لكن لحركة الجموع الشعبية رأيا آخر، فما إن تحرك العرابيون بمساندة عارمة من الجماهير حتى كانت أول المطالب التى صاح بها عرابى فى ميدان عابدين محددًا مطالب قواته «إقالة الوزارة المستبدة»، وأطيح برياض ويكتب عبده شعرًا لأستاذه مهاجمًا العرابيين وداعمًا لرياض.
قامت عصابات جند فى مدينتنا.. لعزل خير رئيس كنت راجيه
قاموا عليه لأمر كان سيدهم.. يخفيه فى نفسه والله مبديه
كان الرئيس حليف العدل منقبه.. وسيد القوم يهوى الجور يأتيه
جروا مدافعهم، صفوا عساكرهم.. نادوا بأجمعهم سل ما ترجيه
فنال ما نال وانفضت جموعهم.. أما النظام فقد دكت مبانيه [محمد رشيد رضا- تاريخ الأستاذ الإمام- الجزء الأول- صـ١٢٥].
وباختصار فإن محمد عبده كان يعتقد من فرط إعجابه برياض باشا أن الخديو هو الذى حرّك العرابيين فى مسرحية تستهدف عزل رياض باشا. ويكتب محمد عبده للأفغانى، «إن أنصار السوء وأعوان الشر قد سعوا بالوقيعة، حتى غيروا قلب دولة رياض باشا عليك وعلى تلاميذك الصادقين، لكن لم نلبث أن وصلنا إليه، وكشفنا له ما غمض من الحقيقة حتى زال لبس المبطلين» [المرجع السابق- صـ١٤٢] والحقيقة أن محمد عبده كان ضد الثورة العرابية فى بدايتها، وهكذا اعترف عبده لألفريد بلنت قائلًا: «لقد انتقدت الحكومة بشدة، لكننى كنت ضد الثورة، كنت أعتقد أنه يكفى جدًّا أن نحصل على دستور خلال خمس سنوات، وكنت أعارض أسلوب طرد رياض باشا ومظاهرة عابدين، وكان سليمان باشا أباظة والشريعى باشا يؤيداننى ضد الثورة، لكننا كنا جميعًا نطالب بالدستور» [Blunt – lbid-p.٤٩٣]. وحتى بعد اشتعال الثورة وانضمام جماهير غفيرة إليها، وتحولها من تحرك عسكرى إلى ثورة شعبية حقًّا أبدى محمد عبده مخاوفه من حركة الجموع الشعبية وحرّض الأعيان والفئات الوسطى من الانصياع لحركة الجماهير.. حرضهم علنًا، كما سنرى.

اقتراح متواضع
وفيما كانت الجماهير المصرية تغلى ثورية تحت قيادة أحمد عرابى، تقدم محمد عبده باقتراح شديد التواضع وأقل من أن يوصف بأنه معتدل، ونقرأ، «علينا أن نهتم بالتعليم والتربية بعض سنين، وأن نحمل الحكومة على العدل بما نستطيع وأن نبدأ بترغيبها فى استشارة الأهالى فى بعض مجالس خاصة بالمديريات والمحافظات، ويكون ذلك كله تمهيدًا لما يراد من تقييد الحكومة، وليس من المصلحة أن نفاجئ البلاد بأمر قبل أن تستعد له، فيكون ذلك من قبيل تسليم المال للناشئ الصغير قبل سن الرشد، فيفسد المال، ويفضى إلى التهلكة» [٤٩٣صBlunt – lbid ] كل ذلك وعرابى يخوض ثورة عارمة تحركت فيها كل فئات الشعب، وكان النديم على رأس الدعاة الذين جابوا أرجاء القطر لجمع التوكيلات لرجال العسكرية وعلى رأسهم أحمد عرابى فى «أن أكون نائبا عنكم فى كل ما يتعلق بأحوال بلادكم» ويطاح بحكومة رياض باشا الذى نال إعجاب وتأييد محمد عبده، وامتلأت الشوارع بالهتاف لعرابى الذى تولى الوزارة ووزعوا الشربات والحلوى، ومنحوا عرابى مديحًا تجلى فى العديد من القصائد منها: 
وقولوا يا عرابى مر بأمر - تراه فأنت ذو الأمر المجاب 
ودم لوزارة لسواك تأبى - وإن وصلت إليك بلا طلاب 
وقولوا يا عرابى دم رئيسا- لحزب النصر محفوظ الجناب [سليم خليل نقاش- مصر للمصرين- الجزء ٤-صـ٩٠]
جموع الشعب تحركت ففزع كبار الملاك وغضبوا، والغريب أن يغضب معهم محمد عبده ويحذر كبار القوم من المشاركة فى الثورة قائلًا، «من المعهود فى سير الأمم وسنن الاجتماع أن القيام على الحكومة الاستبدادية، وتغيير سلطتها وإلزامها بالمساواة بين الرعية، إنما يكون من الطبقة الوسطى والدنيا إذا ما شاع فيهم التعليم الصحيح والتربية النافعة وصار لهم رأى عام. وإنما لم يعهد فى أمة من الأمم أن الخواص والأغنياء ورجال الحكومة يطالبون بمساواة أنفسهم بسائر الناس، وبإزالة امتيازاتهم، واستئثارهم بالجاه والوظائف بمشاركة الطبقات الدنيا لهم فى ذلك. فكيف حصل فى هذه المرة من أهل هذا المجتمع؟ هل تغيرت سنة الله فى الخلق؟ أم بلغت فيكم الفضيلة حدا لم يبلغه أحد من العالمين؟ أم أنكم تسيرون إلى حيث لا تدرون» [راجع النص الكامل فى: د. رفعت السعيد- الأساس الاجتماعى للثورة العرابية- صـ١١٢]. وهنا يتعين علينا أن نوضح أمرا هاما نحاول أن ننصف به الأفغانى ومحمد عبده، فهما لم يكونا رجلى سياسة، ولم يكونا ملمين بواقع التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية، ولا بالتناقضات بين مكونات الهيكل الارستقراطى فى المجتمع. بدليل أن محمد عبده ألقى بكل طموحاته وآماله فى ساحة رياض باشا «خير رئيس كنت راجيه» كما أسماه فى قصيدته عقب حشد العسكريين تحت قيادة عرابى فى ميدان عابدين مطالبين بإسقاط وزارة رياض باشا المستبدة. 
لكن محمد عبده كرجل دين اهتم بمستقبل مصر، وشعبها أفزعه تخلف شيوخ الأزهر على زمانه، إلى درجة أنه أسماه «البيمارستان» و«الإسطبل». مؤكدًا أن هؤلاء الشيوخ يسيئون إلى الإسلام والمسلمين والى مستقبل الوطن. 
ولكنه دين أردت صلاحه - أحاذر أن تقضى عليه العمائم 
وفى مجال التجديد فى فهم الدين أبدع محمد عبده وقدم نهجا إسلاميا قادرا على أن يجعل من المسلم العاقل أداة للتقدم بوطنه مصر، وفتح أمام المصريين سبل بناء مصر حديثة ومتقدمة، وفيما كان يمارس دوره كمفتى للديار المصرية نجح فى إصدار مئات الفتاوى التى خلصت المصريين من قيود متأسلمة أوشكت أن تخنق إمكانية تحديث الاقتصاد فأفتى بجواز التعامل المصرفى على أساس قبول سعر الفائدة وبجواز اللجوء إلى شركات التأمين وبحرية المأكل والملبس فى غير ما حرم الله.. وباختصار فتح أمام مصر أبواب النهضة الحديثة.