السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

د. رفعت السعيد يكتب .. صيحات التجديد الديني 2

الدكتور رفعت السعيد
الدكتور رفعت السعيد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
التجديد الحقيقى يبدأ عبر التأكيد على جوهر الحل.. وهو «العقل»
إعلاء سلطة العقل وتأويل النص.. حال مخالفته للعقل
الإغراق في الظلامية.. إغراق في المزيد من الإيمان
الأفغاني ومحمد عبده خاضا معركة لوضع رؤية تجديدية صافية وعقلانية للإسلام
اللورد كرومر وضع المسلم أمام خيار مستحيل.. إما الإسلام أو التقدم .. وصالون الأميره نازلي.. مدرسة الاعتدال في السياسة المصرية

البعض اعتبر أن التخلف الحضاري غضب إلهي على المسلمين بسبب عدم تمسكهم بالدين
محمد عبده: لا قيد على العقل سوى القرآن والسنة الصحيحة.. وانصراف المسلمين عن أصل الدين إلى الخرافات والبدع.. سبب الداء
كرومر حلم بتطويع الإسلام والمسلمين.. ودعم تعيين محمد عبده مفتيًا للديار المصرية


يظل في تاريخ الإسلام مجددون رفعوا من شأن الدين الحنيف واستوعبوا قيمته كثورة في الفكر الإنساني.. وكانت «البوابة» قد نشرت منذ سنوات بحثًا على حلقات للمفكر الراحل د. رفعت السعيد تنتاول فيها صيحات التجديد الديني، والدور التاريخي للمجددين في الإسلام.. تحيةً لروح الراحل الكبير ولأرواح كل المجددين الذين تظل أسماؤهم محفورة بحروف من نور في سجل البشرية
كما تنبأ الإمام السيوطي في شرح حديث الرسول، «أن الله يبعث على رأس كل مائة من السنين لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها وقال ولا يشترط أن يأتي كل مائة سنة ولا أن يكون واحدًا فإنه وبعد أقل من مائة سنة بكثير أتى مجددان معًا الأفغاني ومحمد عبده، وهما لم يتعددا فحسب بل تلازما وخاضا معركتهما معا من أجل رؤية تجديدية صافية وعقلانية للإسلام، لكن الأمر لم يكن سهلا، بل شديد التعقيد، فالتجديد الفكري عامة يعني عدم الاكتفاء بالبعد الحضاري للمجتمعات الإسلامية المغرقة في ظلام العصور الوسطى وبالتالي التطلع إلى البعد الحضاري الناهض في الغرب، لكن الغرب تصادم مع شعوب هذه المنطقة بعنف استعماري يخلو من أي تعامل متحضر، وشهد القرن التاسع عشر شهوة غريبة للسيطرة الاستعمارية العسكرية والاقتصادية والسياسية، كما أن هذه السيطرة تطلعت إلى هدم الإمبراطورية العثمانية التي هي في نظر الكثيرين من المسلمين دار الخلافة الإسلامية ومقر أمير المؤمنين، وفوق هذا وذاك فإن الغرب أصبح بعد نهضته ممتلكا لقيم وأخلاقيات ومثل ومعارف وعلوم تتناقض أو تتباعد عن كل ما كان سائدا فى ديار المسلمين، بل وتصطدم بعنف مع ما يعتقد المسلمون بأنه الإطار العقائدي المتوارث رغم ما به من تشويهات وابتعاد عن صحيح الإسلام. «د.أحمد عبدالرحيم مصطفى – حركة التجديد الإسلامي في العالم العربي الحديث – ص ٤٦» وعندما وقعت محاولات المواجهة تبدت رؤيتان الأولى يبثها بعض المستشرقين الاستعماريين أو حتى ممثلي الاستعمار المسيطرين على حكم وإدارة وتوجيه البلاد والتي تكاد أن تضع المسلم أمام خيار مستحيل، إما الإسلام وإما التقدم، وإذا كان هناك تخلف فهو سمة إسلامية، وكان أبرز من قال بذلك لورد كرومر المندوب السامي بمصر ومثله في الهند. «حليم اليازجي – الأيديولوجيا الإصلاحية ومظاهرها في الفكر العربي الحديث – ص ١٠٣» أما الرؤية الثانية فكانت تقول إن الهزيمة الحضارية التى لحقت بالمسلمين كانت نتيجة رؤية وتفسيرات وفتاوى خاطئة ومرتبطة بالتمسك بقراءات انطباعية في كتب السلف، وكانت للأسف تعتبر أن منتهى الإغراق في الظلامية هو إغراق في المزيد من الإيمان، وتبدي للعقلاء ومنهم الأفغاني ومحمد عبده أنه لا مفر من التعامل مع التراث القديم رؤية انتقادية، رافضة لكل ما يجافى العقل وساعية حول قبول للمحتوى العقلى والفكرى للغرب ومحاولة التأويل لكل ما يخالف ذلك مع ربط كان بالنسبة لهم شديد الصعوبة وهو أن الحضارة الحديثة تعني الغرب والارتباط بأحدهما يعني بالضرورة الارتباط بالآخر«Zaki Badawi – TheReformers Of Egypt – London- p».
وفيما كان البعض يعتبر أو حتى يبرر التخلف الحضاري بأنه غضب إلهي على المسلمين بسبب عدم تمسكهم بالدين أو بالدقة بالفهم الخاطئ للنص الديني وتغليف الالتزام به برؤى خرافية وغير عقلانية، وأن التململ إزاء هذه الخرافات والتهويمات غير العقلانية هو مجرد نقص في الإيمان، فإن البعض الآخر كان يرى أنه لا بديل عن القبول الكامل بمعطيات الحضارة الغربية، مع وجود تفاوت في هذا القبول ومجالاته بما لا يتصادم مع التعاليم الإسلامية الواضحة النص، وبما يستلزم بالطبع قدرا ضروريا من تأويل النص لكى لا يتصادم مع العقل ومع واقع الحياة الذي يفرض نفسه.
«Nadav Safran – Egypt in search of politial community – Harvard – P٣٩» .
وفي إطار هذا الوضع البالغ التعقيد، ورؤية الرواد بضرورة النهوض الحضاري كان الأفغاني ومحمد عبده يحاولان جهدهما في تقارب حذر مع معطيات الحضارة الغربية، ومواجهة حذرة مع معطيات في هذه الحضارة قد تتصادم مع رؤى أخلاقية واجتماعية لا يمكن الانحناء أمامها، ومواجهة أخرى مع شيوخ أزهريين شديدي التشدد في رفض كل ما يحمله الهواء القادم من الغرب من سموم معادية للدين.. وحتى بعد رحلة تجديدية مجيدة رحل محمد عبده بعد أن قال على فراش الموت:
ولست أبالي أن يقال محمد أبّل أم اكتظت عليه المآتم
ولكنه دين أردت صلاحه، أحاذر أن تقضي عليه العمائم.

الغضب الإلهي
كان الكثيرون في زمان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده صامدين في رحاب التخلف والضعف، باعتبار أن ذلك غضب إلهي لا يلبث أن ينقشع بمزيد من العبادة، ذلك أن هذا التخلف لا يتسق مع الوعد الإلهي القاطع بالنصر والغلبة للمسلمين، فلا يمكن لسبحانه تعالى أن يتخلّى عن هذا الوعد»، «جمال الدين الأفغاني – خاطرات الأفغاني - أملاه على محمد باشا المخزومي - الآثار الكاملة – سيد هادي خسور شاهي – مجلد ٦ صـ٢٤»، وهنا تصدّى الأفغاني وعبده لهذه الفكرة رافضين القبول بمبدأ الرضوخ للتخلف مع مزيد من العبادة، وأيضًا لفكرة أن هذا التخلف مرتبط بالبنية الإسلامية، فأكدا «أن مأساة الإسلام المعاصر هي بكل بساطة المسلمون أنفسهم، لأنهم قد دخلت قلوبهم عقائد أخرى ساكنت عقيدة الإسلام في أفئدتهم»، «محمد عبده - الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية – صـ٣٠»، «وأنهم قد ابتعدوا عن الله فابتعدت عنهم الأمجاد، فالوعد الإلهي لم يخذل المسلمين بل هم الذين خذلوه»، «العروة الوثقى – المجلد الأول – صـ١٥٩»، وأكدا أيضًا أن السبب في تخلف المسلمين هو «البدع»، أي تلك الشوائب التي ألصقت بالدين وتراكمت على مر السنين، وما هي من الإسلام في شيء، فانحرفت بالمسلمين عن المسار الصحيح، مثل الخرافات والكرامات وتقديس الأولياء وتصديق كل ما ورد عنهم من مزاعم والتبرك بقبورهم وأضرحتهم»، «محمد عبده – الأعمال الكاملة - التصوف والصوفية – تحقيق محمد عمارة – صـ٥٥١»، وقد حاربا - الأفغانى وعبده - هذا «الانحطاط» الفكري وهمًا يرددان عشرات المرات في كتاباتهم «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، وهكذا فإذا كان انصراف المسلمين عن أصل الدين إلى الخرافات والبدع هو سبب الداء، فالشفاء منه هو العودة إلى أصل الدين، ومن ثمّ فلا بدّ «من تنقية العقيدة مما لحقها من البدع ومن انحرافات الفقهاء المتأخرين، التي خلقت حجابًا بين الأمة وبين الدين الحق»، «محمد عبده – الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية»، وهنا يبدأ التجديد الحقيقى عبر التأكيد على جوهر الحل، وهو «العقل»، وهنا طرحت قضية سلطة العقل نفسها في النظر والتعامل مع النص الديني، فقال الأفغاني: «إن الدين يجلّ عن مخالفة العقل والعلم، فإن وقعت المخالفة وجب التأويل «الخاطرات»، وقال محمد عبده إنه لا قيد على العقل سوى القرآن والسنة الصحيحة، وحتى مع هذين المصدرين فهناك التأويل للآيات القرآنية، أما السنة فتحتاج إلى فحص دقيق لتبيان ما هو صحيح وقطعي الثبوت منها «محمد عبده – الأعمال الكاملة – رسالة التوحيد – الجزء الثالث – صـ٤٩٦»، ومع هذه المنظومة الفكرية للتجديد كان اللجوء إلى الغرب محاذرًا، فالغرب هو ذات الاستعمار القاهر الباطش بالمسلمين، ومن هنا كان اللجوء إلى تقليد نمط الحضارة الغربية فى ظل هذا الضعف، مؤدِّيًا بالضرورة إلى «الاستكانة للغرب ولحكمه وسلطانه».
«Contwell. Smith – Islam in modern history – p٩٩»
ويثير ذلك كله مسألة «الوطن»، وعلاقة ذلك بالخلافة العثمانية وبما أسماه الأفغاني «الجامعة الإسلامية» «pan Islamism»، وهنا يرتبك فكر الأفغاني ارتباكًا شديدًا، فهو يؤيد استقلال مصر عن النفوذ الغربي عبر إذكاء روح الوطنية، لكنه كان - في الوقت نفسه - يرى هذا الاستقلال في إطار الخضوع للرابطة الدينية، ففي غمار دعوته المصريين وغيرهم من الشعوب الإسلامية إلى التمرد والاستقلال عن النفوذ الاستعمارى الغربي، كانت «الجامعة الإسلامية» تحلق فى مخيلته كمخرج وحيد لتوحيد المسلمين في مواجهة الغرب الاستعماري، وأحيانًا في مواجهة الاستبداد العثماني، «نصر الدين عبدالحميد نصر – مصر وحركة الجامعة الإسلامية ١٨٨٢ – ١٩١٤- صـ٣٩»، وفي هذا السياق كان محمد عبده يتجه نحو تحرير عقول المسلمين ممّا يدفعهم نحو التخلف والانحطاط، بينما استكان للاحتلال البريطاني بعض الشيء.

صالون الأميرة نازلي
وعندما عاد محمد عبده من منفاه إلى مصر، ووجد طريقة إلى صالون الأميره نازلي حيث مدرسة الاعتدال في السياسة المصرية تلك المدرسة التي تصورت أن هزيمة الثورة العرابية هي مجرد درس مرير لعاقبة تجاوز حدود الاعتدال.. وفي صالون نازلي كان تكريس الاعتدال كأساس يفرض نفسه على كل من يحاول العمل الوطني.. وهكذا قرر محمد عبده التعايش مع الاحتلال البريطاني كأمر واقع.. وتمتلئ كتابات محمد عبده بما يؤكد أن مشكلة مصر وكل العالم الإسلامي لا تكمن فقط في تلك الهيمنة الغربية.. الاستعمارية على مصر وغيرها من البلدان وإنما في عدم القدرة على مجاراة التقدم العلمي والفكري الذي أحرزه الغرب المسيحي.«Nadav Safran – lbid – p.٦٣» وهكذا اقتنع محمد عبده أو بالدقة أقنع نفسه بضرورة التعايش مع الاحتلال البريطاني، باعتباره كابوسًا لا يمكن الخلاص منه ولا جدوى من معاندته.. ومن ثم صار يتحدث عن نوع لا يمكن تصوره للاستعمار وهو الاحتلال الذي يمثل نزاهة وبعدًا أخلاقيًا، فكرومر ورجال الاحتلال يسعون عبر دوافع إنسانية وأخلاقية ومصالح اقتصادية للأخذ بيد المصريين نحو التقدم والانطلاق «محمد عبده – الأعمال الكامل – مقال الحق المر – الجزء الأول – صـ٧٨٣» وعبر هذا القبول المرير ولكن الضرورى بوجود الاحتلال بدأ محمد عبده مشروعه الاستراتيجي لتطوير التعليم في الأزهر وغيره من المدارس مبررًا القول بالاحتلال باعتباره الممكن الوحيد لتقديم الأمة والنهوض بها. «رشيد رضا – تاريخ الأستاذ الإمام – صـ٤٢٧» والحقيقة أن الموجة الجديدة التى قادها الأفغانى وعبده كانت تحاول أن تقدم نفسها على أنها محاولة من المسلمين لمواجهة الضغط الغربي الاستعماري.. ذلك التغول الاستعماري الغربي إلى كشف الغطاء عن الهوان والضعف والتخلف الذي يعيشه المسلمون ومن ثم يتعين التوحد والسعي نحو المعرفة والعلم الذي يقود المسلمين نحو مواجهة الاستعمار، دون أن يتجه تفكيرهما إلى مواجهة الأيديولوجية المتأسلمة التى خلقت فكرًا أو بالدقة فهمًا للإسلام يتناقض مع جوهره الأصيل، وهو فهم يقوم على أساس الخرافة واللا عقل، ويستند إلى تهويمات سلفية تختار من كتب التراث الأكثر تطرفًا والأشد بعدًا عن العقل والمنطق، وهكذا يمكن القول إن هذا الثنائى الأفغانى وعبده كان يرى أن الحل هو وحدة المسلمين ضد التسلط الاستعمارى الغربي، دون أن يتحدثا عن التجديد في فهم الدين ورفض الجهالة والظلامية وسوء التعامل مع كتب التراث «عبدالله العروي – مفهوم العقل – صـ٢٣» والحقيقة أن ثمة اختلافا تبدي ظاهرًا بين موقف الأفغاني وتلميذه محمد عبده. اتفق الاثنان على ضرورة إعلاء سلطة العقل وتأويل النص في حال مخالفته للعقل.. لكن الأفغاني كان يقف عاجزًا أمام النص والاجتهاد عنده يجب ألا يتجاوز حدود «الاهتداء بالقرآن والحديث الصحيح.
 ولهذا كان الأفغانى إذ يتحدث عن المجتهد فإنه يصفه بذلك الذي يهتدي بالقرآن والحديث الموثوق به.. ومن هنا فإنه قرر أن المجتهد هو ذلك العارف بسيره السلف وبالإجماع» «خاطرات جمال الدين» ويهتدي بالقرآن والحديث الصحيح مع مراعاة حاجات الزمان.. وإذا كان محمد عبده قد تجاوز أستاذه الأفغاني من حيث ضرورة الاعتماد على العقل فإنه قد حرص على التحذير من «الغلو» في استخدام العقل والشطط في التأويل، مؤكدًا أن العقل وحده لا يمكنه فهم الإلوهية فهمًا صحيحًا.. وأن هناك أمورًا كونية وقيمًا عامة يعتمدها الوحي والشرع ولا مجال لأن يدركها العقل «محمد عبده - رسالة التوحيد – صـ٤١٢».. وكان محمد عبده أكثر ارتماءً باتجاه قبول الأمر الواقع «فما دامت مصر غير قادرة على طرد الاحتلال البريطاني فلتحاول السعي للاستفادة من وجودهم» «Resental – islam in the modern National state – p.٤٩».
وهكذا تحول محمد عبده كما قال كرومر «المعتمد البريطانى في مصر» من معارض للهيمنة الغربية إلى حليف موضوعي للاحتلال «Cromer Modern Egypt – p١٨٠» وربما كان كرومر يحلم بتطويع الإسلام والمسلمين بحيث لا يكونون أعداءً للوجود البريطاني.. ولعل هذا هو السبب في دعم كرومر لمحمد عبده وتعيينه مفتيًا للديار المصرية.

مناقشات فلسفية
وكما كان فكر محمد عبده مترددًا وربما مرتبكًا في البداية، كذلك كان الأفغاني ولعلنا نغفر لهما ذلك بسبب صعوبة المرتقى.. وربما كان السبب هو ما قاله الدكتور عاطف العراقي «كان الأفغاني يدخل نفسه في مناقشات حول موضوعات علمية وفلسفية وهو غير مؤهل للبحث فيها» «د. عاطف العراقي – العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر – صـ١٣١» ويؤكد أن هذا هو السر «فيما أورده من تأويلات مسرفة وقد لا نجد لها أساسًا، وبسبب تعميمات أعتقد أن أكثرها لا يعتبر صحيحًا»، ويقول عنه باحث آخر: «هو سياسي حاول أن يتلاعب بالجميع فتلاعب به الجميع، دعا إلى الماسونية وأنشأ لها في مصر محفلًا ضم إليه ٣٠٠ من أكابر الشخصيات في مصر ثم انقض على الماسونية بهجوم شديد، وهو يدعو لجامعة إسلامية ولهوية إسلامية ويتكلم في نفس الوقت عند الاقتداء بالغرب وتعلم علومه. ويقول بإنشاء جامعة مثل جامعة كمبردج فتأتي جامعة على كره ذات النمط الإسلامي المتشدد أحيانًا «Louis gardet – Les Hommes de lisLam – p.٣٥٥».
وبرغم حديثه عن جامعة كمبردج فإنه يعترض على إصرار محمد علي على فتح مدارس علمانية حديثة، وعلى البعوث التي أرسلها للدراسة في الخارج، ويتساءل في مرارة عما استفادته مصر من مثل هذه البعوث «الأعمال الكاملة – المرجع السابق - صـ٤٧٥» ثم يعود الأفغاني ليناقض نفسه فيقول: «الدول المسيحية تغلبت على الحكومات الإسلامية بالعلم مصدر القوة، وينهزم المسلمون بالجهل مصدر الضعف» ويؤكد أن سبب ضعف الخلافة العثمانية أنها «لم تقرن فتوحاتها الحربية بالعلم، فلا يتسنى للسيف المجرد أن يتحكم بأمة تدافع عنها مدافع العلم، فلا يمكنك أن تحكم العلم بالجهل» «المرجع السابق» وقد استخدم الأفغاني في دعوته بمصر وسائل فيها قدر من الغوغائية، ونقرأ وصفًا لإحدى جلساته التى كان يعقدها في قهوة متاتيا بالعتبة «اعتلى السيد جمال الدين منبر الخطابة وافتتح كلامه بقوله: اللهم إنك قلت وقولك الحق.. يا أيها السادة اعلموا أن المدنية الإنسانية الفاضلة، وأن الصراط المستقيم للسعادة، لا يتحققان بغير القرآن، ويمضي السيد جمال الدين في خطاب مؤثر وعندما انتهى من خطابه وجد أن أعضاء المجلس قد أغشى عليهم من التأثر، ووجد الباقين على وشك أن يفقدوا رشدهم فبكي السيد وأخذ يردد: أي وحقك اللهم لقد نسيناك فأنسيتنا أنفسنا وظل يردد هذا القول حتى سقط مغشيًا عليه، وهكذا ظل الحاضرون ثلاث ساعات بين بكاء وأنين وإغماء ثم تقدم حسن بك عطا صهر خديو مصر إلى السيد وقام برش ماء معطر على وجهه فأفاق» «سعيد الأفغانى – نابغة الشرق جمال الدين الأفغاني صـ٣٣ – نقلًا عن كتاب كفتار خوش يا رقلي تأليف الشيخ محمد محلاتي القروى الفاسي».. هكذا تبدي الأفغاني لتلاميذه مستخدمًا أقصى أدوات التأثير الصوتي والكلامي، أو هكذا حاول تلاميذه أن يصوروه أمام عامة المصريين الممتلئين دهشة إزاء هذا الشيخ الذي يقول كلامًا جديدًا تمامًا ويقدمه مغلفًا دومًا بمسحه دينية، وتصرفات صوفية أو شبه صوفية.. وإن كان الأفغاني  قد قال فيما بعد: «أنا لا أفهم قول الصوفية الفناء في الله، وإنما يكون الفناء في خلق الله عن طريق تعليمهم وتنبيههم إلى وسائل سعادتهم وما فيه خيرهم» «عباس العقاد – محمد عبده – سلسلة أعلام العرب – صـ١٢٤».
إنها مسحة نقشبندية تلك التي تدعو إلى الفناء في خلق الله وليس في الله ذاته..  ويحاول د. عاطف العراقي تفسير هذه الظاهرة الأفغانية قائلًا: «لقد أتى الأفغاني إلى مصر، كما ذهب إلى كل مكان مرتديًا ثيابًا دينية ومتحصنا بالدعوة بعبارات دينية عالية النبرة بما يدفع البعض إلى اتهامه بأن عباراته الدينية كانت مجرد ثياب اتخذها ليسهل تأثيره على الآخرين خلال عمله السياسي» «د. عاطف العراقي – المرجع السابق»، ولعل ما شجع على هذا الاعتقاد كما يقول د. العراقي «كثرة المتناقضات في أقواله ومواقفه».
ونمضي مع متناقضات الأفغاني.