الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

حوارات

"البوابة نيوز" تحتفل بـ"الشمعة الثمانين" للناقد الكبير.. الدكتور صلاح فضل: أمارس النقد باستمتاع كبير.. وما زلت أتعلم حتى الآن.. وتكريمي من "الأعلى للثقافة" بادرة كريمة

الدكتور صلاح فضل
الدكتور صلاح فضل في حواره لـ«البوابة»
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الدولة تخلت عن عنايتها بالمسرح.. وبعض رجاله شجعوا «التجريبى والطليعى» على حساب «الكلاسيكى»
قررت فى بداية دراستى أن أكون ناقدًا.. واستهوانى الأدب وأنا غلام يافع
إبراهيم أنيس تنبأ أنى سأكون عالمًا جيدًا.. وخلفيتى اللغوية أفادتنى فى حياتى 
أشعر بلذة التلميذ المنبهر بأستاذه عندما أقرأ نصًا متبصرًا 

يعد الدكتور صلاح فضل رائد التحديث النقدي في مصر والعالم العربي، وانتشرت كتاباته واتسعت مجالاتها لتغطي فنون الأدب كافة، من الشعر والرواية والمسرح والقصة القصيرة والمقال، وأسهمت مشاركاته في إثراء الحركة الأدبية والنقدية، وبرزت جهوده النشطة ومتابعاته الحثيثة لإبداعات الشباب وكتاباتهم عبر مقالات عديدة؛ ولم تتوقف إسهاماته عند الأدب والنقد، بل امتدت لتكشف عن قطب ثقافي كبير يدلي بدلوه في مجريات الحياة السياسية الراهنة، ولا سيما بعد ثورة يناير، وانضمامه للجنة وضع الدستور في 2013 وإصداره كتاب "وثيقة الأزهر.. ما ظهر منها وما بطن"، الذي أثار جدلا عنيفا حوله.
"البوابة نيوز" تحتفل ببلوغ الناقد والمثقف الكبير عامه الثمانين، وتفتح معه ملفات الثقافة والنقد والحداثة، والإرهاصات الأولى للتكوين العلمي، وشروط المثقف من وجهة نظره، وتكريمه مؤخرًا في المجلس الأعلى للثقافة، وموقفه من الإبداع والموهبة، ومحاولاته الأولية قديمًا لكتابة الشعر والقصة القصيرة، وأسباب خفوت صوت النقد المسرحي في كتاباته رغم حصوله على الدكتوراه في المسرح من جامعة مدريد، مجسدًا بذلك مفارقة كبيرة، وهو الناقد الفذ الذي طالما عُني بإبراز المفارقات في النصوص الأدبية. فإلى نص الحوار..

■ بداية، نود أن نتعرف على نشأتك الأولى وبدايات حياتك؟
- الظروف المحيطة ونشأتي فى المعاهد الأزهرية، والبيئة التى اهتمت بالأدب والثقافة جعلتني أقرأ وأنا ما زلت طفلا المجلات الأدبية، كالرسالة والثقافة التى كان يصدرها الأستاذ أحمد أمين، ومن ثم استهواني الأدب وأنا ما زلت غلامًا يافعًا، ولاحظت أنني أمارس نقدًا مبكرًا، وكنت شديد الحفاوة بشعر شوقي.
وأعتقد أن بعض من كنت فى كنفهم من أعمامي وجدي تنبئوا لي بأن أكون ناقدًا، وعندما دخلت دار العلوم، ومنذ السنة الأولى سئلت: ماذا تريد أن تكون، قلت: ناقد، فكان هناك تعمد مبكر وإصرار شديد على ذلك. 
■ وكيف تعاملت مع عشق اللغة وأثر النقد وأنت طالب درعمي؟
- أذكر أنني تعرضت لمحاولة لصرفي عن النقد والأدب، فعندما تخرجت وكنت الأول على الدفعة بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، كان عميد الكلية وقتها أستاذ أساتذة العلوم اللغوية الدكتور إبراهيم أنيس، فاصطفاني لكي أكون معيدًا فى الدراسات اللغوية، فقلت له: إننى بحكم الحاجة والضرورة سأتسلم عملي كمعيد لكنني أريد الأدب والنقد، وعجِب العميد من هذا الإصرار، وكان يقول لى: إن عقليتك علمية منظمة، وأنت مخدوع بالفريق الأدبي والندوات، لكنك على كل حال ستصبح عالمًا جيدًا.
■ وهل انقطعت صلتك بالدراسات اللغوية؟
- بالعكس، الطريف أنني عندما مارست النقد كان قد تطور فى المناهج العالمية كلها، بحيث أصبح يتكئ على "اللوجستيكس" وعلوم اللسانيات وعلم اللغة، فأفادتني كثيرًا الخلفية اللغوية التي تدربت عليها ومارستها، حتى وأنا أعمل بمعهد التدريب على مركز الأصوات فى كلية دار العلوم، كان لدينا معمل صوتي.
■ من الأساتذة الذين تعلمت منهم؟ 
- كل النقاد العرب والمصريين والعالميين الذين قرأت لهم، وأخص بالذكر منهم من مصر محمد مندور ومحمد غنيمي هلال، وعندما بدأت أدرس النقد العالمي كان رائد كل مدرسة أو اتجاه أدرسه أعتبره أستاذي، وما زلت أتعلم فعندما أقرأ نصًّا نقديًّا عميقًا ومتبصرًا ومبدعًا وساحرًا أستشعر لذة التلميذ الذي يبهر بأستاذه.
وعندما أكتب شيئًا وأعود لقراءته ويستثير إعجابي أشعر بالدهشة والغرابة، كيف أتيح لي أن أكتب ذلك.
على أي حال أنا أمارس النقد باستمتاع كبير؛ لأن المتعة الجمالية فى قراءة النصوص الإبداعية والمتعة العلمية في تحليلها، وفى الكشف عن خوافيها وأسرارها تتيح لي لذة لا يعرفها إلا من مارسها.
■ كيف ترى تكريمك مؤخرًا من المجلس الأعلى للثقافة وأنت عضو فيه؟
- أعتقد أنها بادرة كريمة، وربما حرضهم على ذلك ما انتهى إليهم مؤخرًا من أخبار مرضي فقالوا نودعه قبل أن يودعنا.
والحقيقة أنني فوجئت بعدد الحضور دون أن أوجه الدعوة لأحد، وأظن أن الجهد الذي بذلته فى الخمسين سنة الماضية، وهذا ليس بالزمن اليسير أتاح لي نتاجًا علميًّا يربو على الأربعين كتابًا، وكثير منها تعد مراجع أساسية تدرس في الجامعات العربية ويتم عمل طبعات متعددة لها، ابتداء من المغرب إلى صنعاء، الأمر الذي يشير إلى أن هذه السنوات لم تكن عبثًا، ويشير من ناحية أخرى إلى أن مشروع التحديث النقدي والبناء العلمي الذي استغرق حياتي كلها ترك أثره على مسيرة النقد العربي لجيلي على الأقل وللأجيال التالية. 
■ هل تعتقد أن التكريم تأخر؟
- لا، فكل شيء يأتي فى موعده، وليس لديّ أي إحساس بالمرارة، بالعكس أعتقد أنني أخذت أكثر مما أستحق، وكنت أندهش كثيرًا عندما طلب مني أن أكتب مذكراتي مثلًا، فأقول لهم: وماذا حصلت من الخبرة حتى أكتب بها مذكرات. 
وإن كان لي كتاب في السيرة نشر في دار الشروق ولم يقدر له الانتشار كثيرًا اسمه "عين النقد.. مقاطع من سيرة ذاتية"، وأنا بصدد إعادة نشره لأنه جزء من السيرة النقدية، وهناك أبحاث ومقالات ورسائل ماجستير ودكتوراه فى تونس والأردن كتبت عني، وفي كلية الألسن للأستاذين سيد قطب وعبد المعطي كتبا كتيبًا طيبًا منذ حوالي عشرين عامًا هو "صلاح فضل.. أيقونة الحداثة".
■ هل حاولت ارتياد الإبداع في الشعر أو الرواية مثلا؟
- فى الصبا المبكر حاولت كتابة الشعر والقصة القصيرة، ثم كان الوعي النقدي أسبق منهما، فانتهيت إلى أنني لا أملك الموهبة الكافية، وأن من الأفضل لي أن أظل قارئًا لإبداع الآخرين، حتى محاولاتي الأولى ليست مدونة، كانت مجرد مسودات.
لكن حدث في منتصف مسيرتي النقدية أن سألت نفسي، فى نوع من نقد الذات: أنا أقرأ لمبدعين وأستمتع بكتاباتهم، خاصة عندما يتوهجون في إمكاناتهم التعبيرية واللغوية، وأعجب بهم وأحاول أن أشرح بعض أسرار تفوقهم وبعض خبايا بلاغتهم، فإذا كنت أملك مثل هذه الطاقة في استخدام لغة راقية رائقة مبدعة في التعبير النقدي، مع المحافظة على الأساس المنهجي فلماذا لا أوظفها في الكتابات والأبحاث.
وابتداء من كتاب "شفرات النص" تحديدًا بدأت لغتي النقدية تتغير وتأخذ صبغة أكثر شفافية وأكثر حميمية، وأحسست أنني أطور لغة النقد العربي، وأبتكر أسلوبًا جديدًا يحافظ على الأساس العلمي المنهجي لكنه يضفي جماليات تعبيرية على الكتابة النقدية تتيح لمن يقرؤها أن يتلذذ بنفس القدر الذي أتلذذ به في قراءة العملية الإبداعية.
وعندما مارست ذلك بشكل منتظم في الكتابات التالية، وتحديدًا منذ الثمانينيات، أي منذ حوالي ٣٠ عاما، شعرت بأنني قد نفست عن الطاقة التعبيرية لديّ وعبرت عن مكنون قدراتي الحقيقية والمنهجية والتعبيرية معًا.

■ هل يمكن القول: إن جوهر النقد عندك هو استكناه الشعرية العربية؟
- في هذا الصدد خضت مغامرات نقدية عديدة، مثلا مغامرتي في الاستبصار والتذوق والتحليل والمقاربة والغزل والمداعبة لنصوص شعرية عظمى، ابتداء من النصوص التراثية الهائلة عند المتنبي والمعري، والنصوص الأندلسية الفائقة، والنصوص العباسية الرائعة فى كتاب "شعرية التوهج الحسي" ففيه دراسات شعرية بالغة الخطورة والجدة والإمتاع، ثم توقفي عند الكوكبة العظمى من الشعراء المعاصرين، ابتداء من شوقي، لي كتاب عنه "فصول عن شوقي أمير الشعراء" جمعت فيه أبحاثًا سابقة لي عنه. كما توقفت عند نزار قباني والسياب والبياتي ومحمد الماغوط، فكل كتابة منهم لم تكن نمطية أو مجرد بروتوكول نقدي جامد، بالعكس كانت شعرية، وكل منهم كتاب مفتوح يحتاج لمقاربة جديدة وتذوق مختلف لا يسعى لإرغام النص على الخضوع الذليل لنظرية نقدية جامدة، إنما تتجاوز النظرية النقدية وتبرهن عليها حينًا، وتسخر منها حينًا آخر؛ فلا أضغط على عصفور الإبداع الأدبي لكي أحبسه في قفص النقد، بل أترك العصفور يطير بجناحيه يحلق كيفما شاء، وعليّ أن أصعد لمشاهدته ومتابعته والافتتان برشاقته وهو يطير.
■ ما أحب كتاباتك إلى نفسك؟
- هذا أشبه بمن يسأل الأب عن أحب أولاده إليه، فالحكيم العربي قديمًا قال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يشفى، والغائب حتى يحضر، وللأسف لا أستطيع أن أعتبر كتبي بأن بعضها صغير، وبعضها مريض، وبعضها غائب، حتى ألجأ إلى مثل هذا التعليل، أعتقد أن كل كتاب له ظروفه وملابساته والجهد الذي بذل فيه والتأثير الذي أحدثه، بعض الكتب كان حظها عظيمًا يكافئ المجهود الذي بذل فيه مثل كتاب «البنيوية»، وكتاب «الواقعية»، و«علم الأسلوب»، و«بلاغة الخطاب»، وبعض الكتب الأخرى لم تلق من الشيوع ما يكافئ المجهود الذي بذل فيها، مثل كتاباتي في الأدب المقارن، ولي فيه كتابان استغرقا سنوات طويلة هما "تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي" و"ملحمة المغازي"، فهذه الكتب أعتبرها من الكتب المظاليم.
■ كثر في كتاباتك نقد الشعر والرواية، وخفَتَ صوت النقد المسرحي.. فما السبب؟
- للأسف رسالة الدكتوراه التى أعددتها في جامعة مدريد كانت فى المسرح، لذلك أنا تخصصي الأساسي في المسرح، وكتابي "ظواهر المسرح الأسباني" له ظروف خاصة، لأنه كان فى الأصل مقدمات لمسرحيات مترجمة ثم أعدت صياغتها وأخرجتها في كتاب مستقل، وهو كتاب متخصص لا يهم إلا من عُني بالمسرح، وبالمسرح الأسباني على وجه الخصوص، وكنت أنتقي من المسرح الأسباني ما يلائم الحياة المصرية لكي أترجمه، وكل مسرحية كنت أقصد بها إلى إحداث تيار في الأدب العربي ينتهي إلى ازدهار المسرح.
وكنت شديد الحفاوة بمسرح صلاح عبد الصبور و"شوقي" وعزيز أباظة وعبدالرحمن الشرقاوي وألفريد فرج، لكن عندما بدأت كتابة الدراسات التطبيقية النقدية كان قد خفت إلى حد كبير صوت المسرح وقلّت العروض الباهرة، وللأسف ودعني أسجل هذا للتاريخ. إن بعض رجال المسرح في مصر عنوا منذ سنوات طويلة "حوالي ١٥ أو ٢٠ سنة" بتشجيع التيارات التجريبية والطليعية، وأهملوا المسرح الكلاسيكي العتيق، ومسرح الجمهور، وكانت النتيجة أنهم أوهمونا أن النص لم يعد له أهمية في الكتابة المسرحية، وأن المهم هو اللعب في الإخراج والديكور والعروض.
وتخلت الدولة إلى حد كبير عن عنايتها التى كانت مكثفة بالمسرح فى الستينيات والسبعينيات، وخفت صوت المسرح في الحياة الثقافية المصرية والعربية، باستثناء محاولات في إمارة الشارقة بالإمارات العربية، لكن في الحياة الثقافية المصرية لم يكن هناك عروض لافتة وإنما أطفئت مسارح القاهرة خلال عقود الثمانينيات والتسعينيات وحتى الآن، الأمر الذي جعل متابعاتي النقدية التي تعتمد على الفورية وملاحقة ما يحدث الآن.