الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمد عبده يكتب: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية "2"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
علوم العرب واكتشافها
كان علم العرب فى أول الأمر يونانيًا، ولكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم صار عربيًا، ولم يرض العربى أن يكون تلميذاً لأرسطو وأفلاطون أو إقليدس أو بطليموس زمنًا طويلاً كما بقى الأوروبى كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ المسيحى قالوا: إن (باكون) هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية أو أقامها مقام الرواية عن الأساتذة والتمسك بآراء المصنفين، وأطلق العلم من رق التقليد. ذلك حق فى أوروبا وأما عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء العلم عليها فى أواخر القرن الثانى من الهجرة.
أول شيء تميز به فلاسفة العرب عمن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم على المشاهدات والتجربة، وألا يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية فى العلوم ما لم تؤيدها التجربة، حتى لقد نقل جوستاف لوبون عن أحد الفلاسفة الأوروبيين أن القاعدة عند العرب هى «جرب وشاهد ولاحظ تكن عارفًا» وعند الأوروبى إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ المسيحى «اقرأ فى الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالماً» فلينظر المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلبت الحال، وماذا أعقب من سوء المال.
قال (ديلامير) فى تاريخ علم الهيئة «إذا عددت فى اليونانيين اثنين أو ثلاثة من الراصدين أمكنك أن تعد فى العرب عددًا كبيرًا غير محصور» وأما فى الكيمياء فلا يمكن أن تعد مجربًا واحدًا عن اليونانيين، ولكنك تعد من المجربين مائتين عند العرب. ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم. 
وقد كانوا يعدون الهندسة والفنون والرياضة من الآلات المنطقية، يستعملونها فى الاستدلال على القضايا النظرية، وهى من أصدق الأدلة فى الإيصال إلى المجهولات كما هو معروف.
والعرب هم أول من استعمل الساعات الدقاقة للدلالة على أقسام الزمن، وهم أول من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض.
وقد اكتشفوا قوانين لثقل الأجسام جامدها ومائعها حتى وضعوا لها جداول فى غاية الدقة والصحة، كما وضعوا جداول للأرصاد الفلكية، وكانت تلك الجداول معروفة يطلع عليها الناظرون فى سمرقند وبغداد وقرطبة حتى لقد وصلوا بتلك القوانين إلى ما يقرب من اكتشاف الجاذبية.
ولا يمكننى فى مقالى هذا أن أعد ما اكتشف العرب ولا ما زادوه فى العلوم على اختلاف أنواعها فذلك يحتاج إلى سفر كبير، وقد أحصى ذلك أهل المعرفة والإنصاف من فلاسفة الأوروبيين ومؤرخيهم، وربما يتيسر لأبناء الأمة العربية أن ينشروا ذلك لإخوانهم حتى يعرفوا ما كان عليه أسلافهم، ولكننى أذكر كلمة قالها بعض حكماء الغربيين. 
«تأخذنا الدهشة أحيانًا عندما ننظر فى كتب العرب فنجد آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا فى زماننا، كالرأى الجديد فى ترقى الكائنات العضوية وتدرجها فى كمال أنواعها، فإن هذا الرأى كان مما يعلمه العرب فى مدارسهم وكانوا يذهبون به إلى أبعد مما ذهبنا، فكان عندهم علمًا يشمل الكائنات غير العضوية والمعادن. 
والأصل الذى بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقى المعادن فى أشكالها. قال الخازنى إذا سمع الشعب الجاهل ما يقال بين العلماء: أن الذهب قد تقلب فى الأشكال المختلفة حتى صار ذهباً ظن من هذا أنه مر فى صور معادن أخرى فكان رصاصًا ثم قصديرًا ثم صفرًا ثم فضة ثم صار بعد ذلك ذهبًا ولا يعلم أن الفلاسفة إذا قالوا ذلك فإنما يقصدون منه ما أرادوه من قولهم فى الإنسان أنه وصل إلى حالته الحاضرة بالتدريج ومن طريق الترقى وهم لم يعنوا بقولهم هذا أنه تقلب فى صور الأنواع المختلفة كأن كان ثورًا ثم حمارًا ثم فرسًا ثم قردًا ثم صار بعد ذلك إنسانًا».
ويقول الفيلسوف جوستاف لبون: «إن العرب أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين».
وهنا أنكر على بعض فلاسفتهم ما نقلوه عن ابن رشد من أنه ذهب فى حرية الرأى إلى نقض أصل الدين وقال: إن الروح لا بقاء لها بعد فناء الجسد وإنما الذى يبقى هو أرواح الأنواع، فإن هذا خطأ عرض لهم من سوء فهم كلامه فى بيان بقاء الأنواع دون الأشخاص فإنه قال كما قال أرسطو وغيره: إن الأشخاص توجد وتغنى، وأما الأنواع فهى بأقلية لا تزول: وهذا باب آخر لا يغاير بالمرة ما استنتجوا منه كما أخطأوا فى قولهم عنه أنه كان يعتقد بأن الله روح العالم يظهر فى صوره والكل يرجع إليه بمعنى أنه يفنى فى ذاته ولا يبقى فى العالم باق آخر. وهو يقرب من قولهم السابق.
فإن ابن رشد كان مسلمًا يعرف أن الإسلام لا ينافى العلم وإنما ينافى هذا الضرب من الوهم، الذي لم يسقط فيه أحد إلا من عثرة فى طريق العلم أو الاسترسال مع الخيال. وكثير ممن سكروا بهذا الرأى أفاقوا منه. ولكن كتب ابن رشد التى بين أيدينا تبعد بنا عن نسبة هذا الرأى إليه كما سبق بيانه، ولكنى لا أنكر نسبته لو نسب إلى ابن سبعين وهو ممن أخذ عن تلاميذ ابن رشد فإن فى كلامه ما يدل على ذلك.
ويقول فيلسوف آخر: «إن العلوم التى تلقاها العرب عن اليونانيين وغيرهم وكان ميتة بين دفات الدفاتر، مقبورة بين جدران المكاتب، أو مخزونة فى بعض الرءوس كأنها أحجار ثمينة فى بعض الخزائن، لاحظ للإنسانية منها سوى النظر إليها - صارت عند العرب حياة الآداب، وغذاء الأرواح، وروح الثروة، وقوام الصنعة، ومهمازا للقوى البشرية يسوقها إلى كمالها الذى أعدت له. وليس فى الأوروبيين من درس التاريخ وحكم العقل ثم ينكر أن الفضل - فى إخراج أوروبا من ظلمة الجهل إلى ضياء العلم، وفى تعليمها كيف تنظر وكيف تتفكر وفى معرفتها أن التجربة والمشاهدة هما الأصلان اللذان يبنى عليهما العلم - إنما هو للمسلمين وآدابهم ومعارفهم التى حملوها إليهم وأدخلوها من إسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا عليهم. وكان من حظ العلم العربى والأدب المحمدى عندما دخلا إلى إيطاليا أن البابا كان غائبًا لأن كرسيه كان قد انتقل إلى فرنسا فى أفنيون نحو سبعين سنة فدب العلم إلى شمال إيطاليا واستقر به القرار هناك، إن شوارع باريس لم تفرش بالحجارة إلا فى القرن الثانى عشر وقد رصت بالبلاط على نحو ما رصت به مدن إسبانيا».
ويقول آخر: «لا أدرى كيف أعطانا الإسلام فى مدة قرنين عددًا من الفلكيين يطول سرد أفراده وأن الكنيسة تسلطت على العالم المسيحى اثنى عشر قرنًا فى أوروبا ولم تمنحنا فلكيًا واحداً».
هذا النماء والزكاء العلمى لم يكن خاصًا بطائفة دون طائفة بل كان الناس فى التمكن من تناوله سواء، وإنما كان التفاضل بالجد والعمل، والفضل فى ذلك كله لحلم الخلفاء وأعمالهم وسماحة الدين ويسره وسهولته على أهله وأهل ذمته، قال بعض فلاسفة الغربيين قولاً يعرفه الحق وثبته المشاهدة: «إن شعوب الأرض لم ترقط فاتحًا بلغ من الحلم هذا المبلغ (يريد فاتحى الإسلام على اختلافهم) ولا دينا بلغ فى لينه ولطفه هذا الحد».
تشجيع العلم والعلماء
إن الخلفاء الذين يقال عنهم إنهم رؤساء دين وحكام سياسة معا كانوا هم بأنفسهم المتعلمين للعلوم الداعين إلى تعلمها، كانوا العالمين العاملين. كان خليفة كالمأمون يضطهد أحيانا أعداء الفلسفة، وقد عرف التاريخ كثيرين من أرباب الشهرة الذين يقضوا فى سجنه الشهور أو السنين، لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنا منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده، هل رأيت فى غير الإسلام رئيسًا دينيًا يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة؟ لعلك لا تجده أبدًا.
كان أهل العلم والأدب عامة يجدون من الاحترام عند الخلفاء والأمراء والخاصة ما يليق بهم كيفما كانت حالهم، وأضرب المثل بالشيخ أبى العلاء المعري، لشهرته بين الناس بما يشبه الزندقة.
يذكر على بن يوسف القفطى أن صالح بن مرداس - صاحب حلب - خرج إلى المعرة وقد عصى أهلها عليه، فنازلها وشرع فى حصارها ورماها بالمنجنيق، فلما أحس أهلها بالغلب، سعوا إلى أبى العلاء بن سليمان وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم، فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه، ثم قال: ألك حاجة؟ قال: الأمير - أطال الله بقاءه - كالسيف القاطع لأن مسه، وخشن حده، وكالنهار البالغ، قاظ وسطه وطالب برده (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فقال له صالح: قد وهبتها لك، ثم قال: أنشدنا شيئا من شعرك لنرويه، فأنشده على البديهة أبياتا فيه، فترحل صالح. فانظر كيف وهب الأمير بلدا عصى أهله لفيلسوف معروف بما هو عنه معروف. ولو ذكرت ما نال العلماء والفلاسفة عند الأمراء والخلفاء لطال بى المقال أكثر مما طال، وفيما سبق كفاية لمكتف.
إزالة شبهتين
قد يتوهم قوم أن الاضطهاد قد يظهر فى مقت العامة وخلقهم ما يخلقون من المفتريات على أهل العلم والفكر الحر، وهم بعضهم فى آذان بعض، وتغامزهم على أهل الفضل، ولمزهم إياهم بالألقاب، بل واحتقارهم فى بعض الأحيان. وهذا النوع منه عند المسلمين بلا نكير. وهو خطأ ظاهر لأن هذا النوع - ممن يكره أهل العلم - لا تخلو منه أرض ولا تطهر منه بلاد مهما بلغ أهلها من الحرية، ومهما بلغ ذوق العلم من نفوس أهلها، فإن القائمين على عقيدة الكاثوليك إلى اليوم فى أرض فرنسا نفسها يمقتون الفلاسفة الذين يظهرون بمعاداة للكنيسة، ويكتبون ما يوهن قواعدها وقد يختلق عليهم أحزاب الكاثوليك ما لم يقولوه، ويريون أن النظر فى كتبهم لا يجوز فى شريعة الدين، ونحن لا نرتاب فى أن نحو هذا كان عند المسلمين أيام كانت سوق الفلسفة رائجة عندهم، ولكنه ليس من الاضطهاد فى شيء، وإنما هى نفرة الإنسان مما لا يعرف، مع ترك صاحبه وشأنه يمضى فى سبيله إلى حيث يشاء.
يقول آخرون: إن التاريخ يروى لنا أن بعض أرباب الأفكار قد أخذه السيف لغلوه فى فكره، فلم يترك له من الحرية ما يتمتع به إلى منتهى ما يبلغ به، وليس يصح أو ينكر ما صنع الخليفة المنصور وغيره بالزنادقة.
وأقول: إن كثيرًا من الغلو إذا انتشر بين العامة أفسد نظامهم واضطرب أمنها، كما كان من آراء الحلاج وأمثاله (١) فتضطر السياسة للدخول فى الأمر لحفظ أمن العامة، فتأخذ صاحب الفكر، لا لأنه تفكر ولكن لأنه لم يرد أن يقصر حق الحرية على شخصه، بل أراد أن يقيد غيره بما رآه من الحرية لنفسه، مع أن غيره فى غنى عما يراه هو حقًا له، وتخشى الفتنة إذا استمر مدعى الحرية فى غلوائه، فلهذا يرى حفاظ النظام أن أمثال هؤلاء يجب أن ينقى منهم المجتمع، صونًا له عما يزعزع أركانه. ونحن نرى الفلسفة اليوم تضطهد الدين هذا الضرب من الاضطهاد. ألم تقض الحكومة الفرنسية على الراهبين والراهبات أن تكون جمعياتهم ومدارسهم تحت سيطرة الحكومة؟ وألا ينشأ شيء منها إلا بإذن من الحكومة، ومن لم يخضع لذلك تنحل جمعيته وتقفل مدارسه بقوة السلاح، وقد ينفى من البلاد كما نفى كثيرون فى سنين سابقة ولكن هل يسمى هذا اضطهادًا؟ كلا، إنما الاضطهاد حق الاضطهاد هو اضطهاد محكمة التفتيش واضطهاد رؤساء الإصلاح بعدها فى أول نشأتهم.
ماذا يقول القائلون؟ إن التعليم عند المسلمين كان غريبًا أمره، يكاد يكون خفيًا سره، مسجد أو مدرسة تابعة لمسجد، يجلس فيها للتدريس الفقيه والمتكلم والمحدث والنحوى والمتأدب والفيلسوف والفلكى والمهندس، ينتقل الطالب من بين يدى الفقيه ليجلس بين يدى الفيلسوف، ومن مجلس الحديث إلى مجلس الأدب، وإذا وقعت مذاكرة بينهم فى مسألة من المسائل أخذت الحرية مأخذها فى الإقناع والإلزام، وسقطت قيمة الغلو فى التعبير، وأخذ التسامح بينهم مأخذه. كان عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة وأشدهم صلابة فى أصول مذهبه، ومع ذلك هو من مشايخ الإمام البخارى صاحب الصحيح، وكانت له منزلة عند المنصور تعلو كل ذى منزلة عنده، حتى قال له يومًا وهو خارج من بين يديه «رميت لكل الناس حبًا فلقطوا إلا إياك يا عمرو بن عبيد» فانظر كيف كان لإمام من أئمة السنة أن يصل سنده فى الحديث برئيس من رؤساء المعتزلة ولا يرى فى ذلك بأسًا؟
إذا عد عاد بعض رجال العلم الذين أخذتهم القسوة فى الإسلام وقتلتهم حماقة الملوك بإغراء الفقهاء وأهل الغلو فى الدين، فما عليه إلا أن ينظر فى أحوالهم فيقف لأول وهلة على أن الذى أثار أولئك عليهم ليس مجرد العصبية للدين، وأن الغيرة عليه ليست هى الباعث لهم على الوشاية بهم، وطلب تنكيلهم، وإنما تجد الحسد هو العامل الأول فى ذلك كله والدين آلة له. ولهذا لا ترى مثل ذلك الأذى يقع إلا على قاضى قضاة كابن رشد (ورجوع الحاكم إلى العفو عنه وإنزاله منزلته دليل على ذلك) أو وزير، أو جليس خليفة أو سلطان، أو ذى نفوذ عظيم بين العامة. وهذا كما يقع فى من الفقهاء مثلاً لإيذاء الفلاسفة، يقع من الفقهاء بعضهم مع بعض، لإهلاك بعض بعضًا، كما يشهد به العيان، ويحكى لنا التاريخ، فليس هذا كذلك معدودًا من معنى اضطهاد الدين للفلسفة، لأن التحاسد أكثر ما يقع بين من لا دين لهم على الحقيقة وأن لبسوا لباسه. وإنما ذلك الاضطهاد هو الذى يحمل عليه محض الاختلاف فى العقيدة أو ظن المخالفة للدين فى شيء من العلم أو العمل لضيق الدين عن أن يسع المخالف بجانبه وهذا لم يقع فى الإسلام، اللهم إلا أن يكون حادث لم يصل إلينا. هذه طبيعة الدين الإسلامى عرضت عليك فى أهم عناصرها ومقومات مزاجها. وهذا كان أثرها فى العالم الشرقى والغربية وهذه سعة فضل الدين وقوته على احتمال مخالفيه وتيسيره لأولئك المخالفين أن يحتموا به متى رضوا بأن يستظلوا بظله، هل فى هذا خفاء على ناظر؟ وهل يرضى لبيب لنفسه أن ينكر الضوء الباهر؟ أفلا يبسم الإسلام عجبًا وهو فى أشد الكرب لعقوق أبنائه، من أديب لم يكن يعده من أعدائه، إن لم يحسبه فى أحبائه، عندما يراه يسدد سهمه إليه، ويجور، كما يجور الجائرون فى حكمه عليه؟؟.
من كتاب «الإسلام بين العلم والمدنية» للإمام محمد عبده