الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

غياب الرؤية المستقبلية في الدول العربية

جامعة الدول العربية
جامعة الدول العربية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نظرة الإنسان العربى للزمن تتسم بالتشاؤم.. والتاريخ الإسلامى بعد «الخلفاء الراشدين» يقوم على «حتمية التقدم إلى الأسوأ» «الدراسات المستقبلية فى العالم النامى» 3% من إجمالى الإنفاق مقارنة بـ97% بالدول المتقدمة
أضحت قضية التنبؤ بما سيصبح عليه مصير الإنسان والمجتمعات محور اهتمام الكثيرين، كونها ذات صلة بالزمن بأبعاده الثلاثة الماضى والحاضر والمستقبل، من هنا جاءت أهمية الدراسات المستقبلية التى تُساعد على تحديد ملامح الغد، لذا نجد أن معظم دول العالم قد اعتمدت عليها فى وضع سياساتها فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتجنب التغيرات السلبية المتوقع حدوثها لتؤثر على فعالية هذه الخطط والسياسات.
ثمة جدال كبير بين الباحثين حول تحديد الفترة الزمنية التى نشأت فيها الدراسات المستقبلية، إلا أن النصف الثانى من القرن العشرين شهد ارتفاعا فى عدد من الكتابات التى تنتمى لحقل الدراسات المستقبلية، فنجد فرانسيس بيكون يطرح فى كتابه «أطلنطا الجديدة» رؤية لمستقبل العالم من خلال تخيله لمجتمع جديد يقوم على أسس علمانية، عمادها العلم، ويهدف لتحقيق مستويات الرفاهية فى جميع نواحى الحياة، إلا أن بدايات هذا العلم ترجع إلى المجتمعات الغربية المعاصرة، والتى اهتمت بالمستقبليات على نحو متزايد وربطته بالاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة والثقافة ليعطى لها صفة الشمولية.

قسم العلماء تطور الدراسات المستقبلية إلى ثلاث مراحل هي، المرحلة الأولى اليوتوبيا: وترجع إلى رؤية أفلاطون عما يجب أن يكون عليه المجتمع بالمستقبل، والتى قدمها فى إطار المدينة الفاضلة التى تقوم على العدالة، ثم ظهرت الفكرة مرة أخرى عندما قدم القديس أوغسطين تصوره للصراع بين مدينة الله ومدينة الإنسان، وتناولها بشكل مغاير أيضًا توماس مور فى تصوره للمجتمع المثالى الذى تختفى فيه أشكال العنف والظلم.
وبرغم هذه الجهود إلا أن الحديث عن المستقبليات بشكل منهجى يرجع إلى كتابات مفكرى القرن التاسع عشر، أمثال توماس مالتوس فى نظريته عن الكثافة السكانية، والبعض يرجعها إلى أبعد من تلك الفترة وبالتحديد إلى أعمال المفكر الفرنسى المركيز دو كوندورسيه، فى مؤلفه «مخطط لصورة تاريخية لتقدم العقل البشري» الصادر عام ١٧٩٣، والذى استخدم فيه أسلوبين للتنبؤ هما التنبؤ الاستقرائى والتنبؤ الشرطي. 
والمرحلة الثانية التخطيط، بدأت مع قيام حكومة الاتحاد السوفيتي، بإنشاء لجنة لوضع خطة حكومية لتعميم الكهرباء فى مختلف أنحاء البلاد، وتزامن ذلك مع قيام مجلة الغد فى المملكة المتحدة عام ١٩٣٨، التى نادت بأهمية تدشين وزارة للمستقبل فى بريطانيا، ثم مع الرؤية التشاؤمية التى اجتاحت العالم فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، قل الاهتمام بدراسات المستقبل، إلا أن الفيلسوف الفرنسى غاستون بيرغر قاوم ذلك الوضع وأنشأ المركز الدولى للاستشراف عام ١٩٥٧ حث فيه الباحثين على رؤية الغد بشكل أكثر تفاؤلًا.
منذ ذلك الحين حدث تطور نوعى يرجع إلى ما قام به الفرنسى بيرتراند دو جوفينل، بالتعاون مع مؤسسة فورد الأمريكية، وأعد مشروع «المستقبلات الممكنة» والذى أكد فيه أن المستقبل ليس قدرا وإنما اختيار عن طريق التدخل الواعي، ومن هنا بدأ التطور الفعلى فى الدراسات المستقبلية، وصاحب ذلك إنشاء الاتحاد العالمى للدراسات المستقبلية عام ١٩٦٧، ما دفع المؤسسة العسكرية الأمريكية للاهتمام بها وتوظيفها لصالح الأمن القومى الأمريكي.

المرحلة الثالثة النماذج العالمية، والتى اتسمت بالتركيز على مستقبل المجتمع الدولي، والموضوعات المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل والإرهاب والتدخل الإنساني، وكان من أهم الأفكار التى طُرحت فى هذا الصدد، هى تلك التى خرجت عن «نادى روما» وربطت بين تنامى ظاهرة الاعتماد المتبادل عالميًا وما تفرضه من ضرورة تطوير منهجيات الدراسات المستقبلية لمعرفة تداعيات هذه الظاهرة.
ومن أبرز رواد هذه المرحلة هو العالم الأمريكى بكمنستر فولر الذى قدم نموذجه The Game Of The World ثم طوره فيما بعد ليصبح Great Logistic Game، وكان هدفه من تسميتها لعبة، هو فكرة المشاركة الجماعية من جانب أفراد المجتمع بجوار النخبة فى إطار التعامل مع المشكلات التى يواجهها العالم. 
وتنبع أهمية الدراسات المستقبلية من حتميتها للدول المتقدمة والنامية على حد سواء، رغم أن ٩٧٪ من إجمالى الإنفاق على الدراسات المستقبلية يكون من جانب الدول المتقدمة بينما ٣٪ من جانب الدول النامية، ويأتى هذا الاهتمام بها فى العالم الصناعى المتقدم لكونها تعمل على رسم خريطة كلية للمستقبل عن طريق استقراء الاتجاهات الممتدة عبر الأجيال والمحتمل حدوثها مستقبلًا، إلى جانب مساعدتها فى توفير قاعدة معرفية يمكن من خلالها تحديد الخيارات المناسبة عند المفاضلة بين عدد من البدائل.
فى السياق ذاته، تساعد على التخفيف من حدة الأزمات عن طريق التنبؤ بها والاستعداد لمواجهتها قبل أن تتحول إلى كوارث، وتلعب دورًا هامًا فى مجال التخطيط الاستراتيجى عن طريق توفير الصور المستقبلية، لخدمة الأغراض العسكرية وإدارة الصراعات المسلحة أو حتى للأغراض المدنية عن طريق إدارة المؤسسات والشركات الكبرى متعددة الجنسيات.
كما تُحسن من قدرة صانع القرار على التأثير فى المستقبل من خلال اقتراح مجموعة من الوسائل لحل المشكلات وزيادة درجة حرية الاختيار والوصول للأهداف، والتنبؤ بالآثار المستقبلية لهذه السياسات، وتعمل على زيادة المشاركة الديمقراطية فى صنع المستقبل، باعتبار أنها تتم فى إطار فريق عمل يجمع متخصصين فى مجالات شتى.
وترجع بداية الاهتمام بالدراسات المستقبلية فى الوطن العربي، إلى السبعينيات من القرن العشرين، وكانت الإسهامات فى تلك الفترة محدودة ومتقطعة، ثم بدأت تتزايد أهميتها مع حلول الثمانينيات والتسعينيات، وذلك بسبب الحاجة إلى التعرف على مستقبل عملية التنمية فى ضوء العوامل الإقليمية والدولية، والتى شكلت قضية ملحة فى مستقبل المنطقة كالصراع العربى الإسرائيلي، وتزايد حدة التوترات الإثنية والمخاطر المستقبلية المترتبة عليها.
وظهرت فى هذا الوقت مشاريع مستقبلية ذات انعكاسات هامة على الدول العربية، كمشروع القرن الأمريكى الجديد عام ٢٠٠٢، والذى هدف إلى إعادة رسم الخريطة الإقليمية، وتأسيس نظام إقليمى جديد بديل للنظام العربي، إلى جانب خطة مايكل لادين عن تغيير الشرق الأوسط من الداخل فى عشر سنوات، وتقارير مؤسسة «هيريتاج» عن إعادة هيكلة الشرق الأوسط، وما طرحته إسرائيل من خطط مستقبلية مثل إسرائيل ٢٠٢٠ وإسرائيل ٢٠٢٥ وغيرها.

ويطرح فى هذا الصدد الباحث محمد إبراهيم منصور، فى دراسته المعنونة «الدراسات المستقبلية: ماهيتها وأهمية توطينها عربيًا» المنشورة بمجلة المستقبل العربي، رؤيته بأن أى محاولات لحل تلك القضايا العربية الكبرى ستظل خارج إطار التفعيل، ومنها على سبيل المثال الأوضاع القائمة فى ضوء موجة «الربيع العربي» والتى نتج عنها سقوط نظم سلطوية عتيدة، وخلفت فى بعض حالاتها نظمًا جديدة لا تمتلك رؤية لإدارة المرحلة الانتقالية بها، وقد أرجع الكاتب السبب الرئيسى لذلك إلى غياب الدراسة العلمية لاحتمالاتها المستقبلية، وكانت رؤية مصر ٢٠٣٠ هى الدراسة الوحيدة التى خرجت عن تلك القاعدة.
بصفة عامة يمكن القول بأن مجال البحوث السياسية والاستراتيجية فى الأقطار العربية، يُعانى من غياب الرؤية المستقبلية، وإن تمت مثل هذه الدراسات فإنها لا تخرج عن النطاق الأكاديمي، ولا تتطور لتُصبح جزءا من طريقة الفكر الاجتماعى أو حتى الممارسة الفعلية من جانب الحكومات أو الأفراد.
وهناك مجموعة من العوامل تقف وراء غياب الدراسات العلمية المستقبلية فى العالم العربي، تبدأ من غياب ثقافة تنظيم الحياة، وفق خطط مدروسة، تأخذ فى الاعتبار الإمكانات المتوفرة والممكنة فى كل مجال من مجالات الحياة، وهو ما يتضح فى حالة رب الأسرة ذى الدخل المحدود، والذى يُنجب عشرة أطفال بدون أى تخطيط منه لكيفية توفير احتياجاتهم فى كل مرحلة من مراحل نموهم، ومن الجدير بالذكر أن انعدام تلك الثقافة على مستوى الأسرة إنما ينعكس على مستوى الدولة.
ويُعد انتشار أفكار «التواكلية» والقدرية القائمة على التفسير الخاطئ للدين، إلى جانب النظرة العربية المتوارثة عن الزمن من أهم هذه الأسباب أيضًا، فنظرة الإنسان العربى للزمن فى معظمها تتسم بالتشاؤم، وهو ما استنتجه العلماء، أمثال الدكتور فهمى جدعان، الذى يرى أن التاريخ الإسلامى بعد عصر الخلفاء الراشدين كان يقوم على «حتمية التقدم إلى الأسوأ» ويشير الكاتب حسين علاوى خليفة نقلًا عن الدكتور فؤاد زكريا، إلى أن هذا الموقف من الزمن ما زال كما هو بالثقافة العربية الحالية.
من ناحية أخرى، فإن الأوضاع الاجتماعية والسياسية فى العالم العربي، بما تُسببه من انكفاء المواطنين على الذات وعدم الاطلاع على التجارب المعاصرة، تؤدى فى نهاية المطاف إلى حالة خوف من المستقبل.
لذا فإن أى محاولات للنهوض بحال الدراسات المستقبلية فى العالم العربى إنما ينبنى على مكافحة أسباب العزوف المذكورة أعلاه، وقُدمت بالفعل العديد من الاقتراحات لتحقيق ذلك، كان من أبرزها ما عرضه الدكتور نادر فرجاني، فى الندوة التى عقدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتونس ٢٠١٤ عن الدراسات المستقبلية فى الوطن العربي، حيث نادى بأن النهضة الإنسانية فى المجتمعات العربية باعتبارها المسار المستقبلى العربي، يجب أن تتأسس على ثلاث ركائز أساسية وهى ضمان الحرية والحكم الديمقراطى الصالح، وإقامة مجتمع المعرفة، وإحداث إصلاح جذرى فى البنى المجتمعية وتحقيق التنمية الإنسانية المستقلة.