الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمود صلاح يكتب: رئيس التحرير.. زبال

محمود صلاح يكتب:
محمود صلاح يكتب: رئيس التحرير.. زبال
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ارتديت ملابس عمال النظافة دون أن يكشف رجال الأمن شخصيتى
الكاتب الصحفى محمود صلاح، واحد من أهم الصحفيين الذين دخلوا عالم الصحافة فى منتصف السبعينيات، وأصبح فى غضون سنوات قليلة اسمًا لامعًا فى عالم صاحبة الجلالة، وأصبح واحدًا من أهم الصحفيين المتخصصين فى القطاع الأمنى والقضائى أو قل «الحوادث»، وهو صاحب فكرة تأسيس جريدة أخبار الحوادث، كأول جريدة متخصصة فى هذا النوع من الأخبار. ورغم حبه وعشقه للجريدة التى كان صاحب فكرتها ووضع بروفاتها، وتولى العمل فيها لسنوات، أصبح رئيسًا لتحرير مجلة «آخر ساعة» أحد أهم إصدارات مؤسسة أخبار اليوم. وشهدت المجلة على أيدى «ملك صحافة الحوادث» كما يطلق عليه جيله من الصحفيين، نقلة نوعية، بطابع خبراته فى القطاع القضائي، وبعدها بسنوات انتقل صلاح، إلى «أخبار الحوادث» عشقه الرئيسي، والأهم فى تاريخه الصحفى. «صلاح» تلميذ نجيب لجيل قديم من الصحافة المصرية، تتلمذ على أيدى مصطفى أمين، وتربى على صحافة جلال الحمامصي، وصحفى أخبار اليوم. «البوابة» تستضيف على صفحاتها قلم «محمود صلاح» ليقدم للأجيال تجارب الصحافة التى تتلمذ عيلها هو وجيله، وليقدم للشباب الدروس التى تعلمها عبر أكثر من 40 عامًا من الصحافة، لتتعلم هذه الأجيال أخلاقيات مهنية تكاد تندثر.

ما أكثر وأغرب الوظائف التى عملت فيها طوال حياتى! اشتغلت صحفيًا، لأنى درست الصحافة، واشتغلت «بوسطجى» ـ وحتى اليوم آخذ مرتبى كل شهر، وأقوم بتوصيله إلى البيت، حيث يتم توزيعه على البقال والجزار والكهرباء وفاتورة التليفون ومصاريف العيال! وفى الصحافة اشتغلت شغلانة صعبة اسمها «محمود المطيع»، وطوال سنوات ظللت أؤديها بأمانة وأقول لمصطفى أمين ومن بعده عهدى فضلى، رئيس مجلس إدارة «أخبار اليوم»، كلهم ظللت أقول لهم «حاضر» «ونعم»، حتى داسوا قلبى وأجريت له عمليتى قلب مفتوح، وما زلت أقول نعم، فى طاعة بعد كده؟! وفى عملى الصحفى اشتغلت «مرمطون صحافة» طوال ٣٤ سنة، محرر صغير يجوب أنحاء مصر من مطروح حتى الوادى الجديد، ويحاول أن ينقل بأمانة شكل الحياة على أرض مصر وأحوال الناس، واشتغلت «حرامى كده وكده» عندما سرق اللص الراحل حسن العسال لوحة «أزهار الخشخاش» للفنان العالمى «فان جوخ». أردت أن أثبت للقراء أن متحف محمد محمود خليل الذى سرقت منه اللوحة بدون أجهزة إنذار، فوضعت خطة للتسلل إلى المتحف ليلا، ونفذتها، ودخلت وخرجت بدون أن يشعر بى الحراس، وكان يمكن أن أسرق أى لوحة بسهولة تامة، وبعد نشر التحقيق الصحفى تم تزويد كل المتاحف بأجهزة إنذار! واشتغلت «صياد» ـ شكلا وليس موضوعا. وارتديت ملابس الصيادين، وذهبت مع ضباط مكافحة المخدرات للقبض على عصابة تجار مخدرات فى البحر الأحمر، وهناك تعطل لنش الضباط فى عرض البحر، وتعرضنا للموت غرقا! واشتغلت كمان «ضابط بوليس»، عندما لاحظت أن بعض محلات الملابس فى العتبة والعباسية، تبيع ملابس ضباط الشرطة الرسمية، لكل من هب ودب، بلا ضوابط ولا يحزنون، وصورتنى عدسة الزميل المصور مكرم جاد الكريم، وأنا أدخل أحد هذه المحلات، وأخرج منها بعد دقائق، مرتديا ملابس ضابط شرطة برتبة رائد! ووقفت فى أكثر مناطق العاصمة ازدحاما وأهمية، أمام دار القضاء العالى مرتديا زى الضابط، أحرر مخالفات وهمية للسيارات واستوقفت المارة، والكاميرا تصورنى من بعيد، ولم يسألنى شخص واحد «إنت ضابط ولا لأ؟!»، وبعد نشر التحقيق الصحفى أصدرت وزارة الداخلية تعليمات مشددة. تقضى بعدم بيع ملابس الضباط، إلا بضوابط محددة ومعلومة، خاصة بعد أن استخدم أحد الارهابيين ملابس ضابط شرطة فى رحلة هروبه! تشتغل إيه تانى يا محمود.. تشتغل إيه؟! لم يبق لى سوى أن أعمل فى وظيفة «زبال» أو «عامل نظافة» كما يجب أن نقول، فمن من المصريين لم يشاهد هؤلاء فى ملابسهم الصفراء والخضراء. فى كل شوارع القاهرة طوال النهار وفى يد كل واحد منهم مقشة طويلة، لا ينظفون بقدر ما يتسولون، خاصة فوق الكبارى وفى قطاعات الشوارع المزدحمة، حيث تتوقف طوابير السيارات أمام الإشارات الحمراء، «وربنا يكرمك ياباشا!، وربنا يخلى لك الهانم!، وكل سنة وأنت طيب يابيه!، وكافة أسطوانات التسول إياها، ومازال الناس يعطونهم «حسنة»، ربما تكون سببا فى دخولهم الجنة! لكننا فى الحقيقة نساعد بهذه «الحسنة» على تفاقم الظاهرة المؤسفة. فى العام الماضى ألقى رجال الشرطة القبض على أكثر من٢٠ شخصا. معظمهم يعمل موظفا فى الحكومة، لكنهم يستأجرون ملابس عمال النظافة، البذلة الصفراء والمقشة، ويعملون فى التسول «بعد الظهر» أو «أوفرتايم» بعد الوظيفة، وتبين أن الواحد منهم كان يحصل على ما بين ٥٠ و١٥٠ جنيها يوميا من التسول بملابس عمال النظافة! وأنا مثلى مثل أغلب الناس محتاج للدعم، فلماذا لا أعملها، ولكن ليس من أجل التسول، إنما من أجل دخول عالم عمال النظافة فى قاع المدينة، استأجرت بذلة زبال من سيدة تدعى «أصيلة» متخصصة فى بيع ملابس للممثلين والكومبارس فى التليفزيون والسينما، إيجار البذلة ٢٥ جنيها فى اليوم الواحد! أما المقشة.. فقد استلفناها من «زبال صديقى»، حضرت إلى مكتبى فى «أخبار اليوم» فى الصباح بملابسى العادية، ارتديت ملابس عمال النظافة وحملت المقشة، وغادرت الدار، دون أن يكتشف رجال الأمن شخصيتى! مشيت فى الشارع.. وما أدراك بشوارع القاهرة! لا.. أنت تعرف.. وكلنا نعرف! أى شارع، وأؤكد: أى شارع أصبح مثل السيرك أو المولد، الحابل اختلط بالنابل فى شوارعنا. ناس أشكال وألوان وسيارات فى كل فرع، وميكروباصات، وعربات كارو، وباعة جائلون ومتسولون. اخترت أقرب شارع. ويفترض أن يكون من الشوارع النظيفة، لأنه أمام ما يطلق عليه «ميناء القاهرة البرى». مشروع أنفقت عليه الملايين ليكون الموقف الرئيسى للأتوبيسات التى تربط القاهرة بكل المحافظات. لم يسألنى أحد وأنا أرتدى ملابس عمال النظافة: أنت مين؟ ومشيت أتظاهر ممسكا بالمقشة، أننى أكنس الشارع، ووقفت أمام صندوق قمامة وحيد خلف «جريدة الأهرام»، وليس بجواره ـ أو فى الشارع كله ـ عامل نظافة يوحد الله، ووجدت نفسى: 
• أقوم بإخراج القمامة من الصندوق وألقى بها فى الشارع، ولا أحد يسألنى: إنت بتعمل إيه يا جدع؟! وبدأت عملى الحقيقى.. تركت النظافة وأخذت أستوقف المارة لأتسول منهم، وجدت عاملا أمامى، فممدت يدى نحوه فى إستعطاف. * سيجارة الله يكرمك يا أخ؟! الشاب شكله متواضع الحال، لكنه بشهامة أولاد البلد، وقف وأعطانى سيجارة من علبة سجائره، وقال لى: «إدعى بقى لأمى ربنا يشفيها»، مددت يدى نحو السماء متضرعا، «قادر يا كريم تشفى الحاجة!»، ومن بعيد أقبلت امرأة فى جلباب، شكلها يحتاج إلى إعانة ودعم، لله يا ست.. ربع جنيه أجيب فطار، تتوقف أمامى، وضعت يدها فى صدرها، وأخرجت بعض الأوراق المالية فئة الجنيه المصرى الواحد، وأخذت تبحث بينها عن ربع جنيه، فلم تجد سوى ورقة بخمسين قرشا، أعطتها لى وانصرفت سريعا. فى جلبابها البلدى والشبشب البسيط الذى كانت تجر قدميها داخله! الملحوظة الأولى.. لا أحد فى الشارع يسأل عن أحد! لا أحد يراقب، وفى إمكانى وأنا أرتدى زى عامل النظافة أن أقترب من أى مبنى أو سيارة، فى إمكانى أنه أخذ صندوق القمامةـ على عجلاته ـ وأعود به إلى مكتبى أو إلى بيتى! الملحوظة الثانية.. 
لا يوجد مراقبون يراقبون عمال النظافة. وقفت أمام بوابة موقف سيارات الترجمان «ميناء القاهرة البرى»، وبدأت فى مد يدى متسولا من كل داخل وخارج، البعض كان يعطينى والبعض كان يكتفى بالانطلاق، وكأنه لم يسمعنى، أو حتى يشاهدنى أصلا! وعثرت لنفسى بعد دقائق على وظيفة أخرى! قررت أن أشتغل «مناديا» بملابس عامل النظافة، وكلما شاهدت أحدا يفتح باب سيارته.. كنت أسرع ناحيته.. أضرب تعظيم سلام.. «واتفضل يا باشا.. هات ورا.. تمام يا باشا! وآخذ حسنتى.. جنيهًا.. نصف جنيه.. كله ماشى وكله رزق!. * للأسف المغامرة تنتهى كما انتهت معظم مغامراتى الصحفية.. أخذت على قفايا! فجأة وأنا مندمج فى الدور، وقائدو السيارات بدأوا فى إحاطتى بنوبة كرم مصرية، فجأة ودون مقدمات، أحسست بضربة كف قوية على قفايا! والتفت لأجد رجلا يمسك بتلابيبى. وكان يرتدى النصف الأعلى فقط من ملابس عامل نظافةـ بتعمل إيه فى الحتة يا ابن الـ (........). * باسترزق ياباـ هنا؟ * وفيها إيه؟ ـ فيها كثير.. الشارع ده بتاعى يا روح أمك.. غور دلوقت.. لا ما يبان لكش صاحب! كان لابد أن.. أغور! أعود إلى مكتبى.. لأكتب لك هذه القصة. حلوة؟!