السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"نموذج مامودو قساما" يدل على أهمية التنوع الثقافي في أوروبا

مامودو قساما والرئيس
مامودو قساما والرئيس الفرنسي ماكرون
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تشكل قصة شاب أفريقي مسلم أنقذ مؤخرًا طفلًا فرنسيًا من موت محقق نموذجًا إنسانيًا مضيئا بقدر ما هو نموذج دال على أهمية التنوع الثقافي كما يدحض نموذج الشاب "مامودو قساما" الصور النمطية السلبية عن المسلمين في أوروبا والتي تغذيها ممارسات الإرهاب الظلامي.
وبعد أن أنقذ طفلا كاد يسقط من شرفة شقة بالطابق الرابع في بناية سكنية شمال باريس استقبل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في قصر الإليزيه مامودو قساما المهاجر من مالي وقرر منحه الجنسية الفرنسية كما منحه وسام الشجاعة ووظيفة "كرجل إطفاء".
وأشادت الصحف ووسائل الإعلام الفرنسية بمامودو قساما البالغ من العمر 22 عامًا الذي تسلق واجهة البناية لإنقاذ الطفل البالغ من العمر أربعة أعوام، بينما أطلقت عليه عمدة باريس آن هيدالجو الوصف الطريف "الرجل العنكبوت" أو "سبايدر مان" وامتدحت تصرفه البطولي الذي يعيد للأذهان ما قام به مهاجر آخر من مالي يدعى الحسن باثيلي عندما قام في عام 2015 بإنقاذ زبائن متجر باريسي أثناء عملية احتجاز رهائن.
وكان مامودو قساما قد وصل إلى باريس قادمًا من مالي منذ بضعة أشهر وهو يحلم ببناء حياته في العاصمة الفرنسية فيما تحول الآن إلى رمز لقيم نبيلة بعد أن جرى تداول الفيديو الذي يصور عملية الإنقاذ عبر وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع.
ومامودو قساما الذي وصل إلى باريس في شهر سبتمبر الماضي قادمًا من مالي الواقعة غرب أفريقيا يرد بعمله البطولي والنبيل كما قال نائب رئيس بلدية العاصمة الفرنسية ايان بروسات على "هؤلاء الذين يبصقون على المهاجرين طوال اليوم".
ولعل "نموذج مامودو" يدحض التصورات السلبية والصور النمطية والسابقة التجهيز بشأن المسلمين في أوروبا بقدر ما يخدم قضايا التعايش والاندماج والتعدد والتنوع الثقافي في القارة العجوز وقد يكون الأمر الأكثر أهمية أن هذا النموذج المضيء لشاب مسلم يرد عمليًا وفي أرض الواقع على تداعيات سلبية جراء ممارسات دموية وجرائم نكراء ارتكبتها عناصر إرهابية تنسب نفسها زورا للإسلام.
وتأتي الصورة الحقيقية للمسلم في أوروبا كما تجلت في حالة "مامودو قساما" في وقت يتصاعد فيه الاهتمام الثقافي الأوروبي بقضايا تتعلق بالمسلمين في أوروبا وهو اهتمام تعبر عنه عدة كتب جديدة تدور كلها حول المسلمين في القارة العجوز.
ومن الكتب الجديدة التي صدرت في الغرب وأثارت اهتماما لافتًا في الصحافة الثقافية الغربية كتاب "الكسر" لجيليس كيبل وهو أكاديمي وعالم اجتماع فرنسي متخصص في شئون منطقة الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي وكتاب لجيمس فيرجسون بعنوان:"كل بريطانيا وطني: رحلة عبر بريطانيا المسلمة" وكذلك كتاب صدر بعنوان :"مسلمو أوروبا الغاضبون: انتفاضة الجيل الثاني" للكاتب والباحث روبرت ليكن.
وفي كتابه "الكسر" يرى جيليس كيبل أن الغاية من العمليات الإرهابية في القارة الأوروبية " خلق كسر غير قابل للجبر وجرح لا يمكن تضميده وهوة لا يمكن تجسيرها بين المسلمين وغير المسلمين في أوروبا القارة العجوز".
ويستعرض كيبل "تطورات تعميق الكسر" عبر تطور مسارات الإرهاب من أفغانستان لبلدان عربية وصولا إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، فيما يؤكد على أن جرائم الإرهاب ألحقت أضرارا فادحة بالمسلمين الذين يعيشون في أوروبا ولا علاقة لهم بأي ممارسات إرهابية.
فبقدر ما أفضت جرائم الإرهابيين لإثارة شكوك وممارسات تضييق ومراقبة لمسلمين لا علاقة لهم بتلك الجرائم كانت تساعد أيضًا لفيفا من الساسة الشعبويين في القارة الأوروبية لتوجيه اصبع الاتهام نحو كل المهاجرين للقارة العجوز بل وللإسلام ذاته كدين وهو ما يلاحظه أيضًا الكاتب الصحفي كريستوفر دي بيلاجيو الذي يؤكد أن ممارسات جماعات إرهابية ظلامية كعصبة "داعش" الدموية أتاحت ذريعة لبعض الساسة من رموز التيار الشعبوي اليميني المتطرف للطعن في الإسلام ذاته مع أن الإسلام بريء من تلك الجرائم الإرهابية.
والتأثير السلبي لجرائم الإرهاب التي تقترفها عناصر ظلامية دموية على صورة المسلمين ككل في الذهنية الأوروبية يتجلى في استطلاعات للرأي رصدها كريستوفر دي بيلاجيو الذي أشار أيضًا لاعتداءات تعرض لها مسلمون أبرياء في شوارع مدن أوروبية. 
والكاتب الصحفي البريطاني كريستوفر دي بيلاجيو المعروف باهتماماته الثقافية وطروحاته المعمقة في دوريات وإصدارات صحفية أوروبية وأمريكية رفيعة المستوى ينحت تعبير :"الأوروبيون الجدد" فيما يتحدث بصورة مستفيضة عن "الجرائم البشعة التي ارتكبها إرهابيون في أنحاء أوروبا" معددًا هذه الجرائم الإرهابية التي تضمنت تفجيرات وهجمات دهس بالسيارات والشاحنات وطعن بالأسلحة البيضاء وخاصة في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا.
ورغم أصوات تتعالى مطالبها بضرورة فرض نمط واحد للثقافة الأوروبية على المهاجرين في بلدان أوروبية كفرنسا وبريطانيا فإن كريستوفر دي بيلاجيو يلاحظ في المقابل وجود تيار أوروبي وازن يؤيد سياسات التعدد والتنوع الثقافي التي تثري أي مجتمع إنساني.
وهذا الموضوع يشكل جوهر الكتاب الذي صدر لجيمس فيرجسون بعنوان: "كل بريطانيا وطني: رحلة عبر بريطانيا المسلمة" ويرصد فيه أحوال المسلمين بمنظور ثقافي تاريخي وخاصة على صعيد سياسات التنوع الثقافي في بريطانيا مع مقارنات مع المشهد في فرنسا.
ويلاحظ جيمس فيرجسون أن السياسات التي تشجع التنوع الثقافي تراجعت في السنوات الأخيرة جراء ضربات الإرهاب في بريطانيا مع أن عدد المسلمين هناك قد تضاعف منذ عام 2000 وتجاوز عددهم الثلاثة ملايين مع كثافة سكانية تتركز في بعض البلدات والمدن مثل برادفورد التي يقترب عدد السكان المسلمين فيها من نصف مجموع سكانها ومن ثم فمن الطبيعي مثلا أن تكون الاحتفالات بشهر رمضان ظاهرة بوضوح في برادفورد التي تضم الكثير من المسلمين.
ومن هنا، فمن المثير للأسف حقًا أن تفضي ممارسات الإرهابيين المنسوبين ظلما للإسلام إلي انعكاسات سلبية على المسلمين في بريطانيا بقدر ما تشير هذه الانعكاسات السلبية إلى مدى الضرر الفادح الناجم عن جرائم الإرهابيين والتي تستغلها عناصر شعبوية يمينية متطرفة ورافضة لسياسات التنوع الثقافي.
ويحذر الكاتب البريطاني كريستوفر دي بيلاجيو من أن تحميل المسلمين في بلد أوروبي كبريطانيا أوزار الإرهابيين يفضي لفرض عزلة على هؤلاء المسلمين الأبرياء وابتعادهم عن المشاركة في أوجه الحياة العامة وتلك العزلة توفر أيضًا تربة مواتية لظهور عناصر متطرفة وإرهابية.
ويبدي كريستوفر دي بيلاجيو اهتمامًا كبيرًا بانعكاسات الانتكاسات التي تعرض لها تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق وسوريا معتبرًا أن هزيمة هذا التنظيم التكفيري الظلامي في المشرق العربي تنطوي على إمكانية عودة الجانب الأكبر من نحو ستة آلاف أوروبي كانوا يقاتلون ضمن صفوف العناصر الداعشية إلى بلدانهم في أوروبا بما تشكله هذه العودة من مخاطر.
ولاريب أن نموذج "مامودو قساما" يتحدى بقوة وصدق صحة الأقاويل التي تربط ما بين الحضور المتزايد للمسلمين في أوروبا والتنظيمات الإرهابية التي تقترف جرائم دموية في بلدان أوروبية كما أن هذا النموذج يثبت خطأ التيار الشعبوي اليميني المتطرف في دعوته الرافضة للتنوع الثقافي.
وفي الكتاب الذي صدر بعنوان: "مسلمو أوروبا الغاضبون: انتفاضة الجيل الثاني" للكاتب والباحث الأمريكي روبرت ليكن نداء تحذير من خطورة إقصاء المسلمين في أوروبا والغرب عموما لافتا للحاجة لهؤلاء المسلمين في مواجهة تنظيمات إرهابية دموية كتنظيم داعش.
وفي كتاب جيمس فيرجسون "كل بريطانيا وطني" دفاع عقلاني عن احترام المشاعر الدينية للمسلمين في أوروبا وقيمهم كشرط جوهري لضمان التماسك المجتمعي في البلدان التي يعيش فيها هؤلاء المسلمون ومن ثم فلا يجوز "أن يزداد عدد المسلمين في أوروبا وأن يزداد عداء أوروبا للمسلمين".
ومثل هذه الكتب والطروحات والمعالجات الثقافية للتيار العقلاني الغربي تؤكد أن "الغرب ليس واحدًا ولا يمكن وضعه ككل في سلة واحدة" لأن هناك تيارات أخرى تختلف مع التيار الاستعلائي والإقصائي اليميني المتطرف.
وهذا التيار العقلاني في الثقافة الغربية يخدم حوار الثقافات المنشود بدلا من أفكار صراع الحضارات وتحويل التاريخ إلى قروح وجراح وجدران كراهية متبادلة تثير المزيد من الشكوك والمخاوف التي تقوض جسور الحوار بين الثقافات.
وإذا كان من المفترض والمأمول أن يرتكز أي حوار بين العالم الإسلامي والغرب على مبدأ الخصوصية الثقافية وأن يكون جزءا من الحوار المنشود بين الثقافات فمن دواعي الأسف أن هناك تيارا بأكمله في الغرب الأوروبي والأمريكي هو التيار اليميني العنصري الإقصائي المتطرف يجد في الهجمات الإرهابية التي تدمي قلوب كل الأسوياء في العالم فرصة سانحة لمزيد من "شيطنة المسلمين الذين يعيشون في هذه الدول".
ولاريب أن ظاهرة "الاسلاموفوبيا" أو كراهية المسلمين والخوف المرضي منهم شهدت مدا عاليا في الغرب مع تصاعد الهجمات الإرهابية الأمر الذي يستدعي في المقابل جهدا ثقافيا عربيا-إسلاميا للتعامل مع هذا المشهد وصياغة أفكار مشتركة تعزز الجهود الرامية إلى تأكيد حقيقة أنه ليس هناك تعارض بين الإسلام ومؤسسات الدولة الحديثة ونبذ الصورة السلبية للإسلام والمجتمعات الإسلامية خارجها.
وفيما تشكل "لغة ومفردات جماعات التطرف والإرهاب وخطابها التكفيري الاستئصالي" عقبة لا يجوز التقليل من خطورتها على صورة المسلمين وتصورات الغرب عنهم ، فغني عن القول أن نموذجا مضيئا كنموذج الشاب "مامودو قساما" يرد عمليا على ظاهرة "الإسلاموفوبيا" التي تجتاح بعض الدول في أوروبا والغرب جراء المفاهيم المغلوطة عن الإسلام والتي تغذيها ممارسات إرهابية ناجمة عن أفكار متطرفة تجافي جوهر الإسلام.
فتحية لشاب أفريقي أسهم بعمل بطولي نبيل في إعلاء أهمية التنوع الثقافي و التسامح ومد الجسور الثقافية للحوار من أجل عالم أفضل بعيدا عن "ثقافة التربص" وإيقاعات اللغة المتكبرة وأفكار صراع الحضارات والدعوات المسعورة هنا وهناك على ضفاف الدم وتضاريس الكراهية والأفكار الظلامية والاستعلائية والاستئصالية!