الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: رجل الدين في الأدب.. "يوسف إدريس" يقارن بين العصاة والكفار

مصطفى بيومي ويوسف
مصطفى بيومي ويوسف ادريس
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الشيخ عبدالعال، إمام مسجد الشبوكشى فى قصة «أكان لابد يا «لى لى» أن تضيئى النور»، مجموعة «بيت من لحم». المسجد فى حى «الباطنية»، الذى كان لفترة طويلة معقلًا ووكرًا لتجارة المخدرات، بكل ما يترتب عليها ويقترن بها من سلوكيات تنأى عن الالتزام بالمستقر الراسخ من مبادئ الدين القويم.

الأتقياء من سكان الحى قليلون، والأغلبية الساحقة من العصاة، الذين يضيقون بالوعظ والتوجيه، وتضجرهم النصائح التقليدية التى تحض على مكارم الأخلاق: «يرغبون الله حقًا وفى أعماقهم مؤمنون.. ولكن الحياة، حياتهم، لا تحتمل الله الكامل.. إما أن يقبلهم هكذا.. وهكذا يعبدونه.. وإما فلا.. لهم دينهم حقًا.. الصلاة فيه ركعتا جمعة كل أسبوع، والنهار صيام فى رمضان هذا صحيح.. لكن المهم أن من الإفطار إلى السحور حشيش.. وأيمان بالله ما هو حرام.. ادينى آية نزلت تحرمه.. الزكاة معظم أغنيائهم يخرجونها فعلا، بل إن أحدهم كان عينيًا كما أمر الدين، ومن «بضاعته» كان يزكى.. والحج تاج على رءوس كبار المعلمين وعلى الأقل يتيح القسم ساعة الصفقات بشباك الرسول».
عصاة وليسوا كفارًا، والقانون العفوى الفطرى الذى يحكمهم يمزج بين الدنيا كما يعيشونها والدين كما يفهمونه، حيث لا ينبغى له أن يتعارض مع مصالحهم وأنشطتهم وأمزجتهم. ليسوا كفارًا بالمعنى التقليدى الشائع للكلمة، فهم لا يعادون الدين ولا يتخذون منه موقفًا سلبيًا واعيًا، لكن الأمر عندهم بسيط يخلو من التعقيد، ولا انشغال بالدين الصحيح النقى، كما يفهمه المتخصصون المحترفون.
النجاح النسبى الذى يحققه الشيخ المثالى عبدالعال، وثيق الصلة بحلاوة صوته وبراعة أدائه الفنى، دون نظر إلى جوهر ومضمون العقيدة الدينية الصحيحة: «قرأت لهم مرة فأعجبهم صوتى واستعادونى.. وأحسست فجأة أنى دخلت قلوبهم.. وأن المغلوقين يفتحون الأبواب.. ولم يعودوا يريدون منى إلا الصوت والتلاوة.. رفضوا الواعظ والمبشر والإمام ولم يعد أمامى إلا صوتى يجذبهم لما أريد.. الله المجرد صعب.. ولتكن البداية على هدى آية من آياته».
الصوت الجميل العذب بمثابة الإبداع الفنى المتوهج الذى يروق لأصحاب الأمزجة والقدرة على التذوق، لكن هؤلاء أنفسهم لا يبدون اهتمامًا بمضمون الخطاب وتعاليم الدين وثوابت العقيدة، وكل ما يتضمنه النص القرآنى. لا يمكن إدراك طبيعة وخطورة المعركة التى يخوضها الشيخ عبدالعال بمعزل عن الوعى بخصوصية وتفرد شخصيته، التى تنأى به عن مشابهة العاديين والتقليديين من الوعاظ والأئمة، الأقرب إلى الموظفين الملتزمين بأداء المتاح لهم من الواجب، دون إفراط فى الحماس: «من صغرى أحببت الله.. وبإرادتى ربطت وجودى بدينه.. أكاد أبسم إشفاقًا ممن يتصورون أنى دخلته لأصبح فقيهًا ومقرئًا ما دام قد وهبنى الله هذا الصوت.. أعرف أنه جميل وأنى كى أداريه لا أكشف للناس كل جماله.. ولكن ما لهذا اخترت الأزهر.. وما لهذا حفظت القرآن صغيرًا.. ومن ابتدائى مدارس حولت إلى ابتدائى أزهرى.. السبب أعمق.. السبب إلهى.. السبب موقفى من كون ليس فيه ما يستحق الحياة سواه».

الدعوة إلى الدين ليست عملًا يمتهنه الشيخ عبدالعال، بل إنها رسالة روحية سامية، والإيمان العميق المخلص بالله هو مفتاح شخصية الشاب المتخرج حديثًا من الأزهر.
لا يبغى من وظيفته أجرًا ماديًا يكفل له الرزق وتلبية الاحتياجات المادية الضرورية، ذلك أن الطموح الأساس والأسمى هو الدعوة ونشر النور الإلهى الذى يغمر قلبه ويوجه خطاه.
هل يستطيع الشاب ذو النزعة المثالية أن يظفر بالنجاح المشبع الذى يضفى على حياته معنى يبحث عنه ويراهن عليه؟! يأبى القدر إلا أن يقذف به فى التجربة الصعبة المحاطة بوفرة من العقبات والعراقيل، ويتصدى الشيخ الشاب بإرادته الحديدية لمواجهة التحديات.
يغادر عزلته، ويندمج مع الناس ليفهم ويستوعب أفكارهم ورؤاهم واحتياجاتهم: «إلى القهاوى أجلس، إلى الداعين أزور، لا أدير الوجه لما يحملون أو يدخنون أو يفعلون، بقلبى معهم أرى وأسمع.. وأقترب».
المزيد من الاقتراب يعنى تحديات جديدة، فالشكاوى التى يسمعها الشيخ عبدالعال أقرب إلى الاعترافات المشينة، والأسئلة التى تُطرح عليه لا تنتظر إجابة بقدر ما هى تجسيد لطبيعة الخطايا والآثام المهيمنة على الأغلب الأعم من سكان الحى. للنساء حكايات محملة بالفتنة والإثارة والشهوة، ووفق تعبير الشيخ نفسه:
«هؤلاء أناس انفرد بهم الشيطان طويلًا وكثيرًا.
ولم يعودوا يعرفون طريقًا آخر إلا طريق الضلال.
الشيطان».
ينفرد الشيطان بأبناء الحى ويحقق انتصارات مدوية فى ساحة لا ينافسه فيها واعظ يبشر بالخير ومكارم الأخلاق، فهل يملك الشيخ الشاب أن يواجه الشيطان ويتغلب عليه؟! لا شك أن الهزيمة التى طالته رهينة بتوهم القدرة على مواجهة تفوق طاقة العاديين من البشر. الغرور، حسن النية نبيل الدوافع، يفضى به إلى هزيمة متوقعة مستحقة، والفاتنة خارقة الجمال «لى لى» هى الشيطان البشرى الذى يعصف بعبدالعال.
الفتاة الشيطانية الجميلة نصف مصرية نصف إنجليزية، وسحرها الأخاذ صاعق تصعب مقاومته. فتنتها الطاغية تطيح بإرادة عبدالعال، فهو إنسان غير معصوم، لا ينتمى بالضرورة إلى عالم الملائكة، وإذا به يتحول من هجوم الواثق القوى إلى دفاع المضطر الضعيف: «أنا الذى جاء يطرد من هنا الشيطان وتضاءلت طموحاته حتى أصبحت مجرد أن يبعد فقط عن نفسه الشيطان، وعن أوكاره وتنكراته؟ أجد نفسى هذ الفجر فى الشرك.. تمامًا فى الشرك.. أنا الذى أردت هزيمته فى الناس أجرى خوفًا من أن يهزمنى فى نفسى».

لا مفاجأة فى انتصار الشيطان على الإنسان، ولا غرابة فى انهيار مقاومة الشيخ عبدالعال، ذلك أن المعركة العنيفة لا تكافؤ فيها أو ندية.
الشيطان قوة قاهرة جبارة، أسلحته ثقيلة مدمرة، حافلة بالإغراءات عصية المواجهة. الإنسان السوى العادى يقنع بالدفاع وتجنب الهزيمة الساحقة، أما الطموح إلى الحرب والانتصار فينم عن مبالغة فى توهم قوة لا وجود لها.
ليلة هزيمته، يحقق الشيخ المثالى الشاب نجاحًا غير مسبوق، فهو يغزو بأدعيته الصادقة الحارة عديدًا من أبناء الحى، الذين تعرضت قلوبهم لهجومه العذب الدافئ المشحون بالجمال والجلال والرقة: «كلمة.. ولكنها أيقظت الحى كله.. حتى من لم تفلح فى إيقاظه أيقظه من استيقظ، فى أسرتهم وفى أماكن نومهم راحوا يستمعون، ثم وكأنما أصبحت للكلمة قوة جذب.
استخرجتهم من رقداتهم، وغادروا بيوتهم بشعور غريب، يشيع فى صدورهم لأول مرة، شعور طازج محير لم يألفوه أبدًا، شعور وكأنهم أصبحوا قرباء جدًا من الله وأن الله غير غاضب وأنه رحيم أليف.. شعور يملؤهم على الفور بالسعادة إذ فى أعقابه يحسون أنهم وكأنهم اكتشفوها للتو يحبون الله وأن الله يحبهم وأنه جد قريب، لم يبق بينهم وبينه سوى خطوة».
الدعاء الصادق الحار، وليد الصراع العنيف الذى يكابده الشيخ، يقتحم النائمين فيتجهون إلى المسجد، ولم يكن الشيخ عبدالعال نفسه يعرف أنه سيضعف وينهار بعد نجاحه فى التأثير عليهم واستقطابهم.
يتوافدون على المسجد، ويفر منهم إلى المرأة التى تسكنه وتسيطر عليه، إلى «لى لى» ذات الجمال الشيطانى والإغراء الذى لا يُقاوم. يتركهم ساجدين ويعلن هزيمته: «استقبلت القبلة ونويت.. فتحت عينى.. كانت «لى لى» منتصف القبلة نائمة، عارية، مبعثرة، مفتحة، يتموج شعرها على جسدها وينحسر.
عفوك يا إلهى.. فلقد أخفيت الحقيقة.. الشيطان انتصر؟!».
هزيمة الشيخ عبدالعال لا تستوجب إدانته والإسراف فى التحامل عليه، فالشيطان بأسلحته التدميرية وقوته الخارقة خصم عنيد تستحيل مقاومته، ولا يتسنى الصمود أمامه إلا لقلة استثنائية نادرة من البشر. الشيخ نفسه يسهم فى الهزيمة بغروره غير المقصود، ومثاليته المفرطة، وطموحه المستحيل فى تجاوز قوانين البشر والقواعد التى تحكمهم.
قصة إدريس لا تبايع الشيطان، ولا تدعو إلى اليأس، لكنها تجسد من خلال شخصيته الشيخ عبدالعال حقيقة لا ينبغى إغفالها أو إهمالها: للإنسان حدوده التى لا يستطيع أن يتخطاها، ورجل الدين ليس إلا إنسانًا محكومًا بالقواعد التى تحكم غيره.