الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"إبراهيم أصلان".. عامان على رحيل "الغلبان"

الروائي الكبير إبراهيم
الروائي الكبير "إبراهيم أصلان"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
* أعد الملف: محمد حافظ - حاتم السروي - رشا رمزي

* أشرف على الملف: سامح قاسم



** عامان على الرحيل
عامان مرّا على رحيل أحد أكبر القامات في فن الرواية والقصة القصيرة، إنه إبراهيم أصلان، ابن العائلة الفقيرة الذي تحدّى ظروفه وعمل على بناء نفسه من خلال المثابرة في التحصيل والقراءة والتثقيف الذاتي، هذا الكاتب الواعي الذي لم يشأ أن يضع قلمًا على ورقةٍ قبل أن يقرأ أمهات الكتب، وبالفعل قرأ واستوعب العديد من الأعمال في الأدب المصري والعربي والمترجم، وتأثر بالفن التشكيلي وكان بين الحين والآخر يعاود قراءة كتاب "نظرية التصوير" الذي ألفه "ليوناردو دافنشي"، وربما لكل هذا خرجت أعماله وكأنها تحفٌ فنية.
نحتفل اليوم بالكاتب إبراهيم أصلان بعد عامين حفلا بالأحداث الجسام التي غيرت مسار التاريخ المصري، ورسمت آفاقًا جديدة في عالم السياسة، كل ذلك وكاتبنا الكبير مستريح في خلوته الأبدية، وحق له أن يستريح وحق لنا أن نبحث عن خليفة له، يروي ظمأنا بقلمه ويعلّق على الأحداث الكبرى التي يموج بها الوطن تعليق الواعي الحكيم، تركنا "أصلان" لنعاني غياب القامات ونتساءل: إذا كانت مصر ولاّدة فكيف دبّ فيها العقم؟!، وكيف بتنا في حاجة إلى أسماء جديدة تكمل مسيرة مبدعينا العظام وتسد الفراغ الذي تركوه وتقطع الطريق على أنصاف وأرباع وأشباه الموهوبين الذين ملؤوا الدنيا جعجعةً بلا طحن؟!.
رحل "أصلان" ذو الإنتاج القليل والظهور الإعلامي الأقل، والذي كان يرى أن الاحتفالات والمهرجانات والتكريمات حقن تنفخ الأديب فيتحول في نهاية الأمر إلى بدلة في سهرة.
رحل "أصلان" الذي كان يكتب في صبر وأناة ولا يعنيه أن يخرج العمل سريعًا إلى قرّاءه المتلهفين، فكأنه يعمل بالحكمة العميقة التي تقول: "إن الناس لا يهمهم في كم من الوقت أنجزت عملك، ولكن يعنيهم أن يستفيدوا من هذا العمل"، ولعل هواية أصلان القديمة - وهي الصيد - كان لها دخل كبير في تحلّيه بالصبر، ولم يكن أصلان يؤرّقه أن يكون غزير الإنتاج، فهمّه الأول أن يكون جيد الإنتاج وأن يصل بالمتلقي إلى ما أراده وتوخّاه، ليترك بصمته الخاصة داخل وجدانات قارئيه، ورغم الشهرة التي حازها والمناصب التي أسندت إليه لم ينس أصلان حياته الحافلة في "الكيت كات" بحيّ إمبابة، التي خبر تفاصيلها وتشرّبها فنضحت على رواياته وأعماله وأصدقائه الذين أثّر فيهم وتأثر بهم، إضافة إلى عمله في مطلع حياته موزِّعًا للتلغراف، تلك المهنة التي ظل يعشقها ويقدرها ويجعل منها محورًا لبعض أعماله، بل إنه خصص لها روايته المعروفة "وردية ليل".
وبحسب الأديب شعبان يوسف، فإن أصلان تحول من عمله في البريد ليلتحق بهيئة المواصلات السلكية واللاسلكية بشارع رمسيس، وفي مقرها الرئيسي عمل في الدور الرابع بعمارة يطلق عليها العاملون في الهيئة "عمارة الأوتو"، وتعرّف هناك إلى النقابي الشهير وعضو مجلس الشعب فيما بعد "أحمد طه"، وكذلك الناقد الذي اختفى تدريجيًا محيي الدين محمد، وللأخير فضل كبير في تعريف إبراهيم أصلان على مجالات واسعة في عالم الثقافة - كما ذكر لنا أصلان نفسه في كتابه "خلوة الغلبان" - ولا يعنينا في هذه المقدمة الموجزة أن نتتبع تفاصيل السيرة الذاتية للراحل الكبير، فذلك ما سوف تقرؤونه في ثنايا هذا الملف الذي أردنا أن نضع لكم فيه صورة حية لأصلان، صورة تنبض بالحركة والحياة، فتخالون أنكم ترون الكاتب الراحل عن كثب وأنه أمامكم يقرأ ويكتب ويتكلم ويخوض المعارك.

** أصلان وأزمة "وليمة لأعشاب البحر"
فأصلان رغم تجنبه الصدامات المباشرة وجنوحه إلى السلم واحتفائه بالتفاصيل البسيطة عمّا هو يومي ومعاش في رواياته، وهو ما نحّى فكرة اعتقاله مع أقرانه ومجايليه في حقبة الستينيات، لكن حياته لم تخلُ من صراعات لعلّ أبرزها قضية رواية "وليمة لأعشاب البحر" للروائي السوري حيدر حيدر، إذ عينته وزارة الثقافة رئيسًا لتحرير سلسة أدبية نشرت ضمن ما نشرته رواية ألفها الكاتب السوري حيدر حيدر، وسمّاها "وليمة لأعشاب البحر" وقد أثارت الرواية حفيظة بعض المتدينين - أو أغلبهم حقيقةً - ومنهم الكاتب محمد عباس، الذي هاجمها في جريدة "الشعب" الصادرة عن حزب العمل الإسلامي، واتهمها بترويج الكفر والإلحاد والخروج على الثوابت العامة والأخلاق، كما خرجت أعداد من طلاب الأزهر في مظاهرات تندد بالرواية، وتطالب بمصادرتها ومعاقبة المسؤولين عن نشرها وعلى رأسهم بطبيعة الحال إبراهيم أصلان، وقامت الدنيا على ساق وأعلن كثيرون من الكتاب والأدباء مساندتهم لأصلان، لكن مجمع البحوث الإسلامية أكد رفضه التام للرواية وأنها بالفعل تحوي خروجًا على الثوابت والأخلاقيات وتروج للمروق من الدين، واستقال إبراهيم أصلان من رئاسة تحرير السلسلة.


** رؤية نقدية لأدب إبراهيم أصلان
اتفق النقاد على أن السرد عند إبراهيم أصلان يتسم بالتركيز والتكثيف والإيجاز والاقتصاد في لغة الوصف، والدقة في التراكيب الدالة، لتكون الأحداث بديلًا عن جمل الوصف، وتكون انفعالات الأشخاص بديلًا عن وصفها من الخارج، وإذا اضطر الكاتب إلى أن يصف فإن الوصف يأتي لأهداف محددة.
ولا شك أن العناية بالتفاصيل في السرد، والاهتمام بالتركيز والسرعة والتقطيع في الحوار، قد أكسبوا الرواية عند إبراهيم أصلان طابعًا اختزاليًا يجعلها كأنها مجموعة من المشاهد القصيرة المتتابعة في الزمن، وإن غلب عليها مكان واحد وزاوية رؤية واحدة.
ويبدو أن عمل أصلان في هيئة البريد - لفترة من الزمن - كان له تأثيره في الاقتصاد اللغوي الغالب على أعماله، حيث يستعمل لغة تلغرافية بسيطة تقترب أحيانًا - لفرط اختزالها وتكثيفها - من التعبير الشعري، بل نراه يكتب على طريقة قصيدة التفعيلة، ليوحي بشاعرية اللغة وقدرتها على الإيجاز.
كما تميزت كتابات إبراهيم أصلان بالمحلية الشديدة، فهو يستمد شخوصه ببراعة تامة من الحي الشعبي الذي عاش فيه "الكيت كات"، إن أصلان يرسم بكتاباته أزقة وحواري الكيت كات، فتشعر وكأنك تعيش فيها وتتحرك داخلها.

** "أصلان".. الأديب الغاضب
ينتمي إبراهيم أصلان إلى جيل من الروائيين المصريين الذين نشطوا في نهاية الستينيات وبداية حقبة السبعينيات من القرن المنصرم، وهناك سمات مشتركة تجمع بين أبناء هذا الجيل الذين كان من أبرزهم: إبراهيم أصلان وعبد الحكيم قاسم وجمال الغيطاني، من هذه السمات المشتركة الصدمة التي أصابتهم بها هزيمة 67 وتأثيرها الواضح على أدبهم ذي النبرة الغاضبة.
وكان أدب هؤلاء الشبان مجدِّدًا في أسلوبه وعوالمه، تجريبيًا في بعض نواحيه، وشكّل نوعًا من الثورة على تقاليد الكتابة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، والأدب الغاضب الذي يأتي كرد فعل لتراجيديا سياسية هو أمر مألوف، وقد عُرِف في الدول الأوروبية عقب الحرب العالمية الثانية التي أنتجت بدورها مدارس غير تقليدية في الكتابة المسرحية والروائية.
وقد أنتجت الحرب العالمية الثانية جيلًا من الأدباء الغاضبين تميزت كتاباتهم بالإحباط وفقدان الثقة في مؤسسات المجتمع السياسية والدينية، ومن هؤلاء الأدباء: جون أوزبورن، كينجسلي إيميس، هارولد بنتر، صامويل بيكيت، إدوارد أولبي.
وقد تباينت أساليب كتاب الغضب المصريين في التعبير الفني عن غضبهم، فمنهم من استشرف المستقبل، ومنهم من استلهم الماضي - مثل جمال الغيطاني في رائعته "الزيني بركات" - وربما يأتي جنوح الغيطاني نحو الماضي كرد فعل مغاير لردود فعل الآخرين الذين رأوا في كثير من سمات الماضي أشباحًا للتخلف، بينما الغيطاني  تشبث بالتراث اللغوي والتاريخي.
إبراهيم أصلان - الذي قدم تناولًا جديدًا للواقع الاجتماعي وشخصياته - بقي مخلصًا للرؤية التقليدية للعالم الروائي الذي يتمسك بعناصر التشويق والمتعة فيه، على عكس الروائي "إدوارد الخراط" مثلًا، الذي يقول إنه ليس مطلوبًا من الرواية أن تكون ممتعة.
ويقول أصلان: "إذا اخترعت شخصية واخترعت لها سيكولوجيا واخترعت لها مصيرًا، فقد اخترعت جثة"، وفي هذا يختلف أصلان عن الكثيرين من الروائيين المجدِّدين في العالم، الذين يرون أن الاختراع أو الخيال الجامح هو عنصر أساسي من عناصر الإبداع، وتزخر رواياتهم بالمصائر والمسارات الغرائبية المخترعة.
وإذ نتكلم عن الرؤى النقدية لأعمال أصلان فلا يفوتنا أن نقف عند هذا الرأي الذي كتبته الناقدة الدكتورة هويدا صالح في موقع "الحوار المتمدن" وهي تتحدث عن رواية "وردية ليل" للراحل الكبير.
ترى الناقدة والروائية الدكتورة هويدا صالح أن الكتابة عند أصلان تقوم على مبدأ الاستبعاد والحذف أكثر من كونها تنهض على الفيض والإضافة، وقالت هويدا صالح: "لقد راهن إبراهيم أصلان - منذ أول مجموعة قصصية له - على لغة مكثّفة ودالة ومكتنزة بـاللا مقول، أي ما لم يقله الكاتب، ولغة أصلان لها مستويان: المستوى القريب والسطحي وهو ما يتلقاه القارئ العادي، ثم المستوى الآخر الثاوي في فراغات النصوص والمتمثل في مساحات بياض يتركها الكاتب متعمدًا لقارئه لكي يصبح شريكًا فاعلًا في إنتاج دلالات نصوص إبراهيم أصلان، وهذا التقطير والاختزال الشديد أعاده بعض النقاد إلى مهنة أصلان القديمة كعامل تليغراف استطاع أن يستفيد من بلاغة الكتابة التليغرافية في السرد الروائي، حيث الاختزال والتكثيف والحذف والاقتصاد في اللغة.

** شهادات المبدعين والنقاد حول "أصلان" - الأديب والإنسان

 * "أصلان.. السعيد في الحياة والأدب"

تحت هذا العنوان آثر الكاتب والشاعر صبحي موسى أن تأتي شهادته عن الراحل الكبير - والتي خص بها "البوابة نيوز" بمناسبة مرور عام على رحيله - فيقول: "قد تتفق أو تختلف مع الراحل إبراهيم أصلان في الكثير من الأمور، لكنك لا تملك سوى أن تحبّه، وأن تنحاز إلى ضعفه الجميل، واقتصاده الأبدي في كل شيء، بدءًا من الكلام ووصولًا إلى الكتابة وإبداء الرأي، الكثيرون يتصورن أنه ملك الحذف، لكنني أتصور أنه ملك الفراغات المفتوحة للآخرين، الجمل نفسها مفتوحة على الخيال، المجاز لديه في الصورة والقدرة على فتح مخيّلة القارئ على ما لم يرد في ذهنه، أصلان ملك القصة القصيرة بعد يوسف إدريس، لم يكن من مدرسة "إدريس"، لكنه جاء من عباءة تشيكوف وهمنجواي، وفتن بأعمال كتاب أمريكا اللاتينية، وتخيل إلى حدٍّ كبير قدرته على إنتاج واقعية سحرية، لكن هذا لم يتحقق إلا في أعماله الأخيرة، أعماله التي دمجت ما بين الصحافة والقصة، كان يعتبرها مقالات ونشر أغلبها في جريدتي الحياة والأهرام، لكنها كانت التطور الأفضل والأجمل في أعماله، ففكّت إلى درجة كبيرة عقدة الابتسار في قصصه، وجعلت روح التواصل لديه أعلى وأكبر مع القارئ، الأمر الذي ظل أصلان يؤمن به هو فكرة البناء، في يوم قدمت له مقالًا انتقدت فيه روائيًا لم يستطع أن يُحكِم بناء روايته، كان ذلك اليوم هو أكثر الأيام التي فتح فيها قلبه لي وتحدث، تحدث عن البناء، عن ضرورة وجود إطار كلي للعمل، عن أهمية حضور هذا الإطار، وأهمية أن تكون لدى الكاتب قدرة تشييد بناء محكم لعمله، كان أصلان مؤمنًا بالتخطيط المسبق، مؤمنًا بالحذف والتنضيد والتجويد، كان قاسيًا مع عمله - وأحيانًا مع نفسه - فلم يكن يرتضي بشيء إلا الوصول إلى أعلى درجة تطابق مع المثال الذي في مخيلته، من تكثيف وإيجاز وصورة بديلة عن البلاغة والمجاز، وكان الحوار لديه أشبه بطلقات نارية كما في أدب الكتاب الروس أو الذين من أمريكا اللاتينية، الحوار المتمّم للحالة الشعرية في القص وإيقاعها البسيط المنتظم بتواتر مدهش، كل هذا جعل أصلان يهتم بنصه أكثر مما يهتم بقارئه، وجعل كتابته في كثير من الأحيان موجهة لكاتب يتمتع بذائقة قادرة على قراءة اللوحات التشكيلية، وليس بانتظار الحكمة أو المثل، قارئ يمكنه أن يشارك كاتبه في عمله وليس مستلبا في انتظار أن يقول له الكاتب كل شيء.
في حوارات أصلان يمكنك أن تجد روح نجيب محفوظ واقتصاده واهتمامه بكل مفردة وما تدلي به من رسائل، كأن يقول كل شيء في جملة أو كلمة، وفي الحياة لم يكن أصلان يقدم تنظيرات كبرى، ولم يكن مؤمنًا بشهوة الكلام، كان ينصت ثم ينصت ثم يعلق: لا يا شيخ؟!، بجد؟!، هكذا كان مندهشًا دائمًا، ولا يعشق تحية الصباح التي نعرفها جميعًا، لكنه يستعملها على نحو: إيه الأخبار؟، تضحك وتسأله: أخبار ماذا؟، وتجده بنفس الجدية يقول: الدنيا، رغم أنه هو الذي لديه أخبار الدنيا، فلا كبيرة ولا صغيرة إلا ويعرفها.
قد يكون أصلان من أكثر أبناء جيله قلة في الإنتاج، لكنه كان الأكثر تحققًا بينهم، الأكثر مكانة والأكثر حظًا، حين حدثت أزمة وليمة لأعشاب البحر قامت الدنيا ولم تقعد تضامنًا معه، ولم يستطع التيار الديني أن يفعل شيئًا لأن الوزارة في ذلك الوقت كانت مع أصلان برجالها ومريديها فضلًا عن محبيه، لكن بعدها بشهور حدثت أزمة الروايات الثلاث في هيئة قصور الثقافة، وبدلًا من أن يُحمل محمد البساطي – رئيس تحرير السلسلة التي نشرت الروايات الثلاث - على الأكتاف كـ "أصلان"، أطيح به وبرئيس الهيئة ومدير عام النشر، ولم يتضامن معه كاتب واحد، هكذا كان أصلان، أول أبناء جيله في التقديرية، وأولهم في الترجمة بعد مستجاب، وأولهم في الفوز بـ "العويس"، وفي الوقت الذي كان أغلبهم يعملون في الصحافة بينما يعمل هو في مكتب بريد، شاء حظه السعيد أن يكون مسؤولًا عن الثقافة في مكتب جريدة الحياة في القاهرة، وبدلًا من أن يسعى لديهم لينشر قصصه في جرائدهم كانوا هم الذين يسعون إليه لنشر قصصهم وما يكتب عنهم في الحياة، أصلان السعيد في الحياة والأدب، كان الأكثر حظًا في الكتابة رغم قلة إنتاجه، كان الأجمل والأهدأ والأبسط، رغم معماره الهشّ ونفسه القصير وحذفه الدائم وحواراته التي تجيء على حدّ السكين".


 "أسلوبه مكثف كالتلغراف.. بسيط كالشعب الذي يخاطبه"

ويقول الناقد الدكتور مدحت الجيار: "إبراهيم أصلان أحد كتاب ما أسميناه "جيل الستينيات" الذي أسس اتجاهًا عربيًا في السرد ومصريًا في معالجة القضايا الوطنية، وإبراهيم أصلان أيضًا رجل عصامي قرأ وتثقف بنفسه - بالتوازي مع التعليم المتوسط الذي حصل عليه - ورغم أنه ينبع من القرية المصرية إلا أنه عاش وتوفي في المدينة، وعاش معظم حياته في حي شعبي هو "إمبابة"، في هذا الحي ومنه كتب أول مجموعة قصصية بعنوان "بحيرة المساء"، ومنه أيضًا كتب روايته الشهيرة "مالك الحزين"، وينتقل إبراهيم أصلان إلى وسط المدينة ليعمل في مكاتب البريد والتلغراف المصرية والتي كتب من خلالها روايته الشهيرة "وردية ليل"، وحين تفرّعت أعماله القصصية الأخرى مثل "يوسف والرداء"، والمقالات المنتظمة في جريدة الحياة، دخل إبراهيم أصلان مرحلة أعلى وأكبر في الانتشار.
أكسبه ذلك القدرة على أن يقول ما يريد في أضيق حيّز من الجمل والصفحات، ما جعل أسلوبه في الكتابة مكثفًا مثل التلغراف وبسيطًا كالشعب الذي يخاطبه.
وحين دخل إبراهيم أصلان عالم السينما تحولت كتاباته إلى مشاهد وسيناريوهات يمكن أن تدخل إلى السينما ببساطة، وهذا يعني أن كتابته لا تنفصل عن حياته.
أما حياته التي عاشها وسط أصدقائه وأحبابه فلم تكن مجرد جلسات لتضييع الوقت، وإنما للحوار حول الكتابة وصناعة العمل الأدبي، ومن هنا تعددت صداقات إبراهيم أصلان، وفي الجلسة الواحدة قد نجد خيري شلبي ومحمد البساطي ويوسف أبو ريّه والمخرجان مجدي أحمد علي وداود عبد السيد، وغيرهم من الكتاب والشعراء والفنانين، وهذا يعني أن الرجل عاش مهنته وسط الحياة، هذه الحياة التي تسللت إلى كتاباته فعرفت به، حتى إننا يمكن أن نقرأ كتابًا دون غلاف فنقول هذا الكلام لإبراهيم أصلان".

 *"أحد أهم المعبّرين عن حيوية الاختلاف"

ويقول الناقد الدكتور يسري عبد الله: "إبراهيم أصلان أحد أهم المعبرين عن حيوية الاختلاف في المشهد السردي المعاصر، غايته البساطة الآسرة، النافذة إلى جوهر العالم والأشياء، والمتماسة مع متلقيها في امتلاكها قوة الحضور داخل سيكولوجيته، ولعل أول شيء يمكنك أن تتماس معه في إبداع إبراهيم أصلان، عنايته الفائقة بالتفاصيل، وقدرته على صبغها بطابع إنساني محض، طارحا من خلالها الهامشي والمعيش، قابضًا على جمر الكتابة المتّقد، ومنطلقا من المكان المحلي متمثلا في المدينة الشعبية: إمبابة، الوراق، الكيت كات، إلى أفق أكثر رحابة، يتسم بغناه الإنساني وقدرته البديعة على رصد التفاصيل الدقيقة والصغيرة، بدءًا من مجموعته القصصية الأولى "بحيرة المساء" والصادرة عام 1971، قدم إبراهيم أصلان في نصوصه السردية إمكانية ضافية لتقديم عمل سينمائي جيد، وهذا ما تحقق بالفعل في روايته البديعة "مالك الحزين" التي تحولت إلى فيلم "الكيت كات" برؤية إخراجية لـ "داود عبد السيد"، وقد حوت الرواية توظيفا لآليات السيناريو والتقطيع المشهدي، فضلا عن الاتكاء على عدد من الحكايات البسيطة التي تصنع في مجموعها كلا متراكبا، ينحاز إلى إنسانية الإنسان ولا شيء سواها، وهذا ما نراه أيضا في روايته "عصافير النيل" التي أخرجها للسينما مجدي أحمد علي، والتي تعد تعبيرا جماليا عن جدل الحياة والموت، عبر عيني راويها الرئيسي المشغول بتحولات الزمن وتغيراته، هذا التحول الذي يضمر داخله تحولا آخر خاصا بالبشر، أولئك الذين كتبهم أصلان وعبر عنهم دون أن يصبحوا أبواقا، أو مجرد ممثلين لوجهة نظر الكاتب، بل كانت لهم حركتهم الديناميكية في المكان والزمان السرديين، وبما يمكننا من القول إن أصلان كان قابضا على ذلك المنطق الديمقراطي للسرد، في احتفائه بالتنوع، وتعدد زوايا النظر تجاه العالم والأشياء، وخاصة مع توظيفه للمكان، وإجادته للعب التقني معه، فحوّله إلى فضاء نفسي يسع أحلام الشخوص وهواجسهم، في ظل عالم مملوء بالأسئلة ورافض لكل الأجوبة الجاهزة، سؤاله الأساسي الحرية، تلك التي ظل أصلان باحثا عنها، ساعيا إلى تلمّس جوهرها الثري، لا عبر خطاب أدبي محمّل بعبارات تقريرية مباشرة وزاعقة، ولكن عبر مسٍّ شفيف، أداته التقنية الاقتصاد والتكثيف اللغوي على مستويي الأسلوب  والحدث السردي، فضلا - وهذا هو الأهم - عن إعادة إنتاج العالم عبر النظر إليه من خلال رؤية جديدة تجاه الحياة بصخبها وعنفها وتغيّرها المستمر.
يتجه أصلان دوما إلى أنسنة الأشياء والأمكنة، فيجعل من شارع "فضل الله عثمان" مثلا، كيانا إنسانيا حاويا لبشر متنوعين، ففي عمله الإبداعي "حكايات من فضل الله عثمان" يتعامل إبراهيم أصلان مع الحكاية الحياتية بوصفها مادة خاما يعيد تشكيلها وتطويعها، مضيفا إليها من نفسه الخاص، بدءا من اختياره الدال لها وانحيازه إلى دقائقها الصغيرة وعنايته بدلالاتها الكلية، وصولا إلى تصويرها بوصفها مادة متعينة يمكن تلمسها وتنسم رائحتها، ولعل هذا – وباختصار - هو مناط الجدارة في أعمال إبراهيم أصلان الإبداعية جميعها، حيث يجعل المتلقي أمام حالة مدهشة من الاكتشاف المادي، والكشف الروحي في آن.
هناك أيضا نزوع إلى السخرية في نصوص أصلان، تتجاوز المعنى الظاهري إلى دلالة أكثر عمقا، ربما تصبح وجها آخر من وجوه المغالبة لقسوة الحياة، في محاولة لاستنطاقها من جديد وجعلها أكثر بهجة.


* "صوت من أعذب الأصوات"
ويقول الناقد الدكتور حسين حمودة: "إبراهيم أصلان صاحب صوت من أعذب أصوات القصاصين المصريين، وهناك عناصر كثيرة غذت هذه العذوبة، من هذه العناصر إبراهيم أصلان نفسه، ونظرته الحانية إلى البشر الضعفاء البسطاء الذين مثّلوا لبّ تجربته في الكتابة، ومن هذه العناصر أيضاً عمل أصلان على أصلان، بمعنى حرصه على أن يثقّف نفسه بنفسه، وعلى أن يلتمس الإبداع الرهيف في مجالاته المتعددة، ومنها السينما - وقد أعجب كما أشار لي إعجابًا خاصًا بتجربة "أنتونيوني" المخرج الإيطالي - بالإضافة إلى الفن التشكيلي والموسيقى، كما أن من هذه العناصر إحساس أصلان المرهف وربما الحاد بالمسؤولية عمّا يكتب، حيث كان صاحب وسواس شهير يظل يتصارع معه لمدة طويلة قبل أن يقدم على نشر أي نص من نصوصه".
وأضاف حمودة: "نجح إبراهيم أصلان في أن يكون كاتبًا محليًا جدًا، مغرقًا في التفاصيل والهموم الصغيرة التي تخصّ أماكن وشخصيات محددة، وأن يجسد في الوقت نفسه تجارب إنسانية تخصّ البشر جميعًا".
وأشار حمودة إلى أن كتابة أصلان انطوت على قيم كبرى عديدة، على رأسها قيمة الاختزال الذي كان مكونًا أساسيًا من مكونات تصور أصلان حول الأدب، فلم يكن فقط مجرد مستثمر لفكرة جبل الجليد المغمور التي تجعل الكتابة تخفي الكثير مما لا يظهر على السطح، ولكنه أيضًا كان صاحب تجربة خاصة في فهم الاختزال: كيف يمكن للنصوص المتقشفة العارية أن تتنامى وأن تمتد بعد عبارتها الأخيرة، وأن تظل أصداؤها تتردد داخل من قرأها، واختزال أصلان لم يقتصر على استبعاد التفاصيل الزائدة فحسب، وإنما راهن على استدعاء تفاصيل أكثر تترامى خارج الكتابة نفسها، إبراهيم أصلان - في النهاية - هو إبراهيم أصلان، لا يمكن للكلمات أن تحيط به ولا بكتابته.


* بين "بحيرة المساء" و"غرفتان وصالة".. رحلة حافلة بالإبداع
بين العمل الأول الأخير لـ "أصلان" رحلة أدبية حافلة بالقليل من الأعمال والكثير من المضامين، كان العمل الأول مجموعة قصصية، أما الأخير فنحار في تصنيفه ويغلب على الظن أن أصلان جمع فيه بين الرواية والقصة وسيرته الذاتية، كأنما كان يعرف أنه سيودّعنا فوضع بين أيدينا عصارة إنتاجه الأدبي وأصدر عملًا فيه القصة التي عشقها والرواية التي تجلّى فيها وتميّز، والسيرة الذاتية التي يقبل عليها الإنسان بعد إحساسه أنه تقريبًا أكمل مشواره ولم يعد لديه الكثير ليعيشه أو الكثير ليقدمه.
تكلم أصلان في عمله الأول "بحيرة المساء" عن الواقع المؤلم، وعاد بشكل دائري في عمله ليتكلم عن نفس الواقع الذي يبدو أنه لم - وربما لن - يتغيّر، لكن الذي قد يبدو طريفًا أنه تكلم في العمل الأول عن واقع مؤلم لرجال ونساء هم في مقتبل أعمارهم أو في وسطها، وفي عمله الأخير تكلم عن الواقع الأليم لرجل جاوز عتبات الشيخوخة، وكعادته التي لم يتخلّ عنها جاءت أعماله لتبدو بسيطة لأول وهلة، ولكن بين السطور تتبدى الأزمات الوجودية والرؤى العميقة ليحقق بذلك قول القائل: "وتحسب أنك جرمٌ صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبرُ". 
هكذا هي رواياته وهذا هو طبعه الأصيل الذي لم يتخلّ عنه من أول أعماله إلى آخرها، وفيما يلي عرض لمجموعته الأولى بحيرة المساء، وعمله الأخير الذي أراد أن يساعدنا في تصنيفه فسمّاه "متتالية عائلية"، ونحن لا يعنينا غير أنه أدب، وليس أي أدب، إنه أدبٌ لـ "إبراهيم أصلان".

* "بحيرة المساء"
تبدو كتابة أصلان للوهلة الأولى بسيطة للغاية، غير أنها تحتاج إلى القارئ المتأمل الذي يعي إشارات الكاتب وما تضمره الكلمات المكتنزة التي تحمل دلالات تحتاج عينًا فاحصة تستنبط كيف يوظّف الكاتب أدواته من أجل خدمة قضيته الرئيسية التي يتناولها في أغلب أعماله، ألا وهي تجسيد الواقع المُعاش بصورته القاتمة دون تزويق، فأصلان كاتب واقعي بامتياز.
يبدو هذا من مجموعته القصصية الأولى "بحيرة المساء"، التي نقدم لها فيما يلي عرضًا بسيطًا كونها أول إبداعات إبراهيم أصلان والمدخل الذي تعرفنا منه على كاتبنا الراحل.

* قصة الرغبة في البكاء
تدور أحداث القصة حول صديق قديم يرافق صديقه المتزوج الذي يشعر بحزن عظيم إثر تلقّيه بعض التحليلات حول مرضه، لم تذكر القصة طبيعة المرض الذي أصيب به الزوج، إلا أنّه ربما يكون مرضًا جنسيًّا أو مرضًا آخر أثّر على قدرته الجنسية، ما كان صادمًا له للغاية، يقول: "الشيء الوحيد الذي يؤلمني هو أنني لم أكن أتوقع، لم أكن أتوقع أبدًا"، لتأتي بعد ذلك زوجة الرجل المريض وتجلس معهما. المرأة في تلك القصة أداة وتقنية يستخدمها أصلان لإبراز قسوة المجتمع والواقع الذي ينبذ العاجز ولا يتيح له التنفس بأي حال من الأحوال ولا الفرصة في حق من حقوقه. 
يقدّم أصلان المرأة – الزوجة – في هذه القصة رابطًا إياها بالأرض الخارجية التابعة للمنزل، والتي لم تُبنَ بعد، وقد كان السؤال عن موعد بناء الأرض والبناء بالزوجة محرجًا للزوج وزوجته بنفس الوقع، يقول الصديق: "كنت أقول له إنكما ما زلتما صغيرين، التفت هو ناحيتي فوقعت السيجارة من يده وشعرت بها تصب عينيها في عينيّ مباشرة"، وعن موعد بناء الأرض يسأل: "متى ستبني هذه الأرض؟، قال: أيّ أرض؟، قالت هي: أنا لا أطيق التفكير في هذا الموضوع"، فيلحظ المتلقي كيف أنّ البنائين مرفوضان من ناحية الزوجة، فبناء الأرض يسدّ الهواء، كما أنّ خصوبة الأرض أخذت تتناقص، ومن ثمّ تتماهى مع الزوجة التي تتبدد الخصوبة من جسدها تدريجيًا بسبب زوجها المريض، بل غدا أكثر إيلامًا لا سيّما بعد رؤيتها لمصدر خصوبة جديد أمامها أكثر ملائمة وهو صديق زوجها.

يطرح أصلان في القصة الواقع بتناقضاته المؤلمة، فالمرأة والأرض يشتركان في كونهما مكان البذر، إلا أنّ الزارع لا يجيد الحرث، فانقلبت عليه الموازين، فالأرض صارت قبيحة المنظر، والمجتمع يدينه وربما يتهمه بارتكاب عادات جنسية سيئة في الماضي بما يقضي على حياته الزوجية، قال: "ألا تصدق أنني لم أفعل هذا الشيء أبدًا؟، أرجو أن تصدقني ولا تفعل مثلهم!"، ثم الزوجة التي تكتم أغلب مشاعرها ولا يظهر ردّ فعلها إلا عبر فلتات اللسان وتطلّعها إلى ذكر أكثر خصوبة، وفي تلك الحالة لا يمكن أن يلومها المجتمع أو القانون، فلم تكن المرأة هنا الأرض، الأم التي تحتضن الإنسان وتبثّ فيه الأمل وتصبر على علاجه، وإنما هي الواقعية والعملية البحتة حتى في أشد المواقف إيلامًا وتحرّجًا للإنسان، ومن ثمّ تظهر الغربة المتأصلة في نفسية ذلك الزوج بفعل مرضه الداخلي، ما أفقده ثقته في نفسه ورجولته أمام زوجته والمجتمع، لأنه لا يمكن أن يثبت "كفاءته" كزوج، ومن هنا يظهر أصلان الواقع ليس في مجرد كونه ظالمًا وسريعًا في إلقاء التهم وإنما في عدم الرحمة بالمريض والمتألم، بل إنه يستمر في جلده حتى يفقد الأعصاب.

* قصة "وقت للكلام" والمرأة العربة
تبرز قصة "وقت للكلام" الحياة الواقعية ذات الإيقاع السريع التي يحلّ فيها ما هو فعّال مكان ما فقد أهليته، فتسير الحياة كعربة مسرعة وما على المرء إلا أن يتخيّر أيها أكثر ملائمة له حتى ولو خلّف الكثير وراءه، تدور أحداث القصة عن فتاة في مقتبل العمر تتناقش مع شابٍ حول أمر فتاها الذي انقلب حاله وصار يلزم الصمت، ثم ينتهي اللقاء بينهما برحيل كل منهما في عربة مختلفة، يقدّم أصلان من خلال القصة نموذجًا مختلفًا لا ليطرح شكلًا جديدًا للمرأة الشابة العاملة وإنما هو أسلوب أصلان في تصوير الواقع المعاصر، فيجسد الإيقاع السريع في الشابة الصغيرة ووقع تفكيرها وتخلّيها عما هو رتيب أو فاقد لحيويته، وهي بذلك تشبه العربة في سرعتها وعدم انتظارها للمتردد أو المتلكئ.
يضع أصلان أنموذج تلك الفتاة وفتاها الصامت في مقابلة مع أنموذج العجوزين اللذين دخلا المقهى واحدًا تلو الآخر لتبدو الحياة العصرية بالنظر إلى هذين العجوزين واهية منبوذة، وسرعان ما تتقزّم أمام الأنموذج القديم للحب والوفاء بين الرجل والمرأة اللذين يشتركان في الطباع ويدور بينهما حديث صامت لا يحتاجان فيه إلى الكلام، بينما في الأنموذج العصري هناك اختلافات بين كل طرف وآخر، تقول الفتاة: "بمجرد أن نجلس كان يقول لي: إن المنظر بالخارج يشبه السينما الصامتة، ويطلب مني أن نقوم، مع أنني أحب هذا المكان، أحبه جدًا"، فما كان من ذلك الفتى إلا أنّه التجأ إلى الانعزال والصمت هو الآخر. 
لم يظهر ذلك الفتى ظهورًا حقيقيًّا، وإنما كان موضوع حديث الشخوص، فكانت السمة الرئيسية الملاصقة للفتى هي الغربة، سواء الاختفاء الحقيقي من مسرح الأحداث، أو الغربة المعنوية تجاه المجتمع، وقد كانت المرأة إحدى السبل في تدعيم ذلك الشعور لديه، لم تعد المرأة سكنًا ومقر الطمأنينة ومكنون الرومانسية، إذ فقدت احتوائها الرجل – الإنسان، لذا فكانت المرأة هنا تقنية جديدة لدى أصلان في إظهار دور الواقع المعاصر بما فيه واقعية المشاعر ودورها في زيادة فجوة التواصل بين البشر بل وزيادة غربتهم في الحياة ذاتها، إنّ الحياة المعاصرة أشبه بالعربة لا في طيشها وإنما في سرعتها وعدم الانتظار، إذ فُقدت معاني الصبر والعواطف الرقيقة، فإما أن يجاريها الإنسان وإما يدهس تحت إطاراتها، وإلا فيعتزل الطريق بأكمله ويظل منزويًا في جانب الطريق ويصبح غريبًا. 

* قصة "التحرّر من العطش"
تعدّ قصة "التحرر من العطش" أكثر قصة صادمة للمتلقي في مجموعة "بحيرة المساء" بأكملها، بسبب نهايتها التي تخالف أفق توقع المتلقي، يقول: "وفي أقل من دقيقة واحدة كان قد تحرر من ثيابه كلها، كانت تتطلّع إلى المرآة المستطيلة التي تعلو المكتب القديم، استرخى وراءها على الكنبة وأراح ظهره على المسند الطري، عاريًا كما ولدته أمه"، فذلك الشاب - الذي يبدو وديعًا هادئًا منذ بداية النص حتى قرب نهايته إلى حد الانطواء وعدم الخروج من البيت وعدم النوم بصورة مقلقة بل ومستنكرة، وخجله والبعد عن صخب المدن - ينقلب في النهاية ويظهر منه رد فعل أبعد ما يكون عن ذهن القارئ.
عند استقراء المتلقي دور الفتاة في القصة، يمكن أن يستنبط كيفية توظيف المرأة ضمن العناصر والأدوات التي يستخدمها أصلان لخدمة فكرته الأساسية بلا تنميق أو مزايدة، الفتاة في هذه القصة تجسيد واضح للواقع المعاصر بمعنى الكلمة، كما لو كانت نافذة المجتمع التي يطلّ منها الشاب ليعرف مدى غربته، بل وتجسيدا حيا يسير على قدمين لرأي المجتمع في الحياة العصرية والانسياق في تيارها والنظر لمن يخرج عنها بالشذوذ، فالفتاة تمثل الحياة العصرية بنمطيّتها وقولبتها للآخرين، فيسير فيها الجميع كالقطعان، ورغم الحداثة والإيقاع السريع إلا أنه قد خلّف أناسًا لا يعبؤون إلا بالمظاهر والتقليد الأعمى، فالفتاة حتى في ملبسها نمطية ولا تفرق عن بقية الفتيات، يقول: "كانت ترتدي فانلة رقيقة من القطن الأبيض وشعرها أسود وملموم على رأسها"، إنها ليست نمطية المرأة وإنما نمطية الحياة حتى عندما أخذت الفتاة تقصّ على الشاب قصة الرجل الذي خلع ملابسه وأقام نفسه في حفرة وصار يحذّر أهل قريته من الخطر، فنُعِت بالمجنون وظل هكذا حتى مات من الخوف.
إن تفسير المشهد الأخير من القصة - حينما تجرّد الشاب من ملابسه - يبدو غريبًا ولكنه عميق الدلالة، لرُبما أراد إثبات مخالفته للواقع، فبما أن تواريه عن المجتمع لا يروق الآخرين، فالتجأ إلى تلك الطريقة الفجة الأشبه بالصراخ في وجه المجتمع دون صوت، يقول: "وعندما استدارت اهتزّت مكانها ووضعت يدها على فمها الذي ظلّ مفتوحًا، وأمّا هو فلم تصدر عنه أية حركة، بل ظل عاريًا وصامتًا كما هو، وعيناه خاليتان من كل تعبير"، وربما كان تحررًا من العطش إلى ما يريد أمام الفتاة، لا سيما وأنه كان في أول القصة عاري الرجلين، فكان قاب قوسين من ذلك المجنون في القصة، ولكن أراد حافزًا ليأخذ في التنفيذ، فكانت الفتاة في هذا النص داعمة لشعور الغربة الذي يسيطر على الشاب لتنقلب في النهاية عليه وتتحرك برد فعل المجتمع برفض هذا الشاب ونبذه من الجماعة لينظر له كمجنون.

وأخيرًا، يتجلى إبداع أصلان في استخدامه المرأة ضمن منظومته الكبيرة شديدة الترابط من أجل خدمة التيمة الرئيسية، ولا يعدّ استخدام أصلان للمرأة بهذه الصورة استهجانًا لها أو تجسيدًا لرؤيته الذاتية، وإنما هو يتعامل معها كعنصر من عناصر منظومته المركبة، ولا شك فهو إبداع ورؤية فريدة من الكاتب الكبير بإسناد تلك الوظيفة الجديدة للمرأة في عالمه الـ "أصلاني".


* "حجرتان وصالة "
يصعب تصنيف العمل الأدبي الأخير الذي وضعه الكاتب الراحل إبراهيم أصلان بعنوان "حجرتان وصالة"، ولعل هذه الصعوبة هي التي دفعت أصلان إلى تسهيل مهمة النقّاد بإضافة عبارة "متتالية عائلية" إلى عنوان الكتاب كمحاولة مبتكَرة لتصنيفه.
ينقسم الكتاب إلى فصول عديدة يروي كل واحد منها مشهدا حياتيًا عاديًا لمسن يدعى "الأستاذ خليل"، يعيش مع زوجته "إحسان" في شقة تتكون من حجرتين وصالة، بعدما مرّ عليهما عمرٌ طويل أنجبا فيه ولدَين وأشرفا على تربيتهما وتعليمهما، قبل أن يرحل الولدان إثر زواجهما فيفرغ بيت خليل وإحسان من الحياة. وتصبح حينئذ التفاصيل الصغيرة للغاية شغلهما الشاغل، وتنحصر حواراتهما القليلة والقصيرة في أمور المنزل اليومية.
لكن سرعان ما تتوفّى "إحسان" فينتقل "خليل" للعيش في شقّته القديمة التي تتألف بدورها من حجرتين وصالة، ومع أن ولديه وجيرانه وعددا ضئيلا من أصدقائه القدامى لم يتخلّوا عنه، لكنه لم يلبث أن يواجه برودة العزلة وألمها، ويبدأ في اجترار الذكريات والأحزان - وحده أو مع أصدقائه الذين شاخوا ويعانون الفراغ مثله - ويشكل خروج أصلان عن الأنواع الأدبية التقليدية إبداعا يفتح فيه لنا أفقا جديدا للكتابة، وهو ما أنجزه في هذا الكتاب على أكمل وجه.


* بين الرواية والقصة والسيرة الذاتية
ويمكن قراءة هذا النصٌ الذي لا يتجاوز ١٢٠ صفحة كرواية، نظرًا إلى سرد الكاتب فيه قصّة واحدة، هي قصّة خليل قبل وفاة زوجته وبعدها، لكن استقلالية فصول الكتاب الثمانية والعشرين عن بعضها البعض، وحَمْل كل منها عنوانا مختلفا، وانعدام أي تتابع أو ترابط جلي بين الأحداث المسرودة فيها، يجعل من الكتاب أيضا كناية عن مجموعة قصص قصيرة جدا يُمكن قراءتها دون الترتيب الذي تحضر فيه.
وفي حال أضفنا القرابة الشديدة بين شخصية خليل وأصلان - الاثنين اشتغلا في مركز البريد قبل أن يتوقفا عن العمل لأسباب صحية، وعاشا معظم سني عمريهما في حي إمبابة - لتبيّن لنا أيضا بُعد السيرة الذاتية الذي يتحلى به هذا النص.
وفي الحقيقة، ينتمي كتاب أصلان إلى جميع هذه الأنواع الأدبية، وفي الوقت نفسه لا ينتمي إلى أي منها، والتصنيف هو مسألة لا تعني الكاتب بقدر ما تعني الناقد الذي يبحث دائما عن زاوية سهلة للإمساك بالعمل الأدبي الذي يقرأه ويتحدّث عنه. أكثر من ذلك، يشكل خروج الكاتب عن الأنواع الأدبية التقليدية إبداعا يفتح فيه لنا أفقا جديدا للكتابة، وهو ما أنجزه أصلان في هذا الكتاب على أكمل وجه.
فقد ابتكر الكاتب في هذا النص الشكل الأنسب والأكثر فعاليّة لمعالجة موضوعه الرئيسي، أي الشيخوخة التي لا مفرّ منها، وفي هذا السياق جاءت فصول كتابه على شكل لقطات يومية تعكس استقلاليتها حالة تصدّع الزمن والضياع التي يعيشها الإنسان في نهاية عمره.
جهد أصلان لا يقتصر على تجسيد واقع الشيخوخة الحزين وعوارضها، فنصّه ينمّ عن رقّة وإنسانية كبيرتين وعن مهارات تقنية وكتابية مختلفة.

* الإنسان والوجود
وفي السياق نفسه، جاءت لغة أصلان بسيطة لا تغرق في البلاغة والمحسّنات اللفظية، وأقرب إلى العامّية دون ابتذال، وقادرة أكثر من غيرها - بفضل بساطة أسلوبها وانعدام التكلف فيها - على استحضار مناخ عالم الشيخوخة برتابته وفقدانه وهج الأمل في الغد والطموح.
وفي النتيجة، يتمكن أصلان من إشعارنا - من خلال وسائل شكلية وسردية مختلفة - بملل يجعلنا في أوّل الأمر نحكم سلبا على الكتاب قبل أن يتبيّن لنا أن الأمر مقصود، وغايته إيصال حالة الوحدة إلينا والفراغ الذي يتخبّط فيهما خليل داخل شقّته، حالة تجعله يتوهّم أشياء لا صحة لها تضفي نوعا من الطرافة على النص، كتوهّمه بأن إحدى ساقيه أكثر طولا من الأخرى، أو تساؤله - لدى ملاحظة الفارق المتزايد في الطول بينه وبين ابنه - إن كانت قامته هي التي تقصر أم أن قامة ابنه هي التي تكبر، أو محاولته الاستفسار من صديقه الصيدلي عن جدوى الأشعّة المقطعية لمعالجة الشعور الغريب الذي يشعر به في رأسه ويجعله يفقد أحيانا توازنه.
لكن جهد أصلان لا يقتصر على تجسيد واقع الشيخوخة الحزين وعوارضها، فنصّه ينم عن رقّة وإنسانية كبيرتين تتجليان في علاقة الألفة التي تجمع خليل بزوجته أو بمحيطه، كما ينمّ عن مهارات تقنية وكتابية مختلفة، كرسْم الكاتب البارع لشخصيّاته التي يستقيها من حي إمبابة الذي عاش فيه، وتصويره أزقّة هذا الحيّ وشوارعه بدقّة تجعلنا نتعرّف جيدا إليه ونتنقّل داخله.
ولا يهمل أصلان سلوكيات أبناء مجتمعه ونفسيّاتهم وعاداتهم التي نستشفّها من تصرّفات ومواقف شخصياته، بدءا من خليل المرهَف وزوجته ذات الشخصية القوية الساخرة، مرورا بأصدقائه وأقاربه وجيرانه، وانتهاء بالبوّاب الخمول الذي يمضي وقته نائما ويتجنّب أي اتّصال بسكان العمارة التي يعمل فيها.
وليست مصادفة أن تنتهي هذه "المتتالية" بقصّة تحمل عنوان "أوّل النهار"، وقبلها "آخر الليل"، فأصلان أراد بذلك الشهادة على إمكانية تجدّد الحياة - حتى على عتبة الموت - وبالتالي التعبير عن تفاؤل مؤثّر بالعالم والإنسان.


* إبراهيم أصلان.. مدرسة السرد
"الأمانة تقتضي أن نكف عن كتابة القصة التقليدية‏،‏ فالقصة صار من واجبها أن تكون وسيلة اكتشاف للواقع البشري‏،‏ والرائد هو الذي يدخل منطقة مجهولة لا يمكن أن يسير فيها على هدي لأنه لم يعرفها بعد‏،‏ بل سيعرفها بعد أن ينتهي من عملية الاكتشاف‏،‏ هكذا كاتب القصة بالمعنى الحديث، لا يكتب لأنه يعرف، بل يكتب ليعرف ويكتشف‏،‏ هذا فارق كبير بين القصة الحديثة والتقليدية‏،‏ إنه فارق في الوظيفة والغاية‏،‏ وهو الاختلاف الذي يترتب عليه‏‏ - عادة - اختلاف في الأسلوب والمنهج".
بهذه الفقرة - التي كتبها الكاتب الروائي الكبير إبراهيم أصلان ضمن مقال طويل بجريدة الأهرام عام 2009 - نجح في تلخيص مدرسته الخاصة في الكتابة الأدبية، وبالذات في كتابة القصة التي أدخل عليها العديد من الأشكال والأساليب الفنية في كتابة وعرض القصة القصيرة، حيث تنوعت أعماله بين الواقعية الشديدة وبين الأسلوب الأدبي السهل، وتميزت بأنها قريبة من المجتمع ومشكلاته.
ولد إبراهيم أصلان بمحافظة الغربية ونشأ وتربى في القاهرة، وتحديدا في حي إمبابة والكيت كات، وقد ظل لهذين المكانين الحضور الأكبر والطاغي في كل أعمال الكاتب بداية من مجموعته القصصية الأولى "بحيرة المساء" مرورًا بعمله وروايته الأشهر "مالك الحزين"، وحتى كتابه "حكايات فضل الله عثمان" وروايته "عصافير النيل" وكان يقطن في الكيت كات حتى وقت قريب ثم انتقل إلى الوراق، أما قبل وفاته فقد كان يقيم في منطقة المقطم.
لم يتلق أصلان تعليمًا منتظما منذ الصغر، فقد التحق بالكتاب ثم تنقل بين عدة مدارس حتى استقر في مدرسة لتعليم فنون السجاد، لكنه تركها إلى الدراسة بمدرسة صناعية. 
التحق إبراهيم أصلان في بداية حياته بهيئة البريد وعمل لفترة كـ "بوسطجي"، ثم في إحدى المكاتب المخصصة للبريد، وهي التجربة التي ألهمته مجموعته القصصية "وردية ليل"، ربطته علاقة جيدة بالأديب الراحل يحيى حقي ولازمه حتى فترات حياته الأخيرة، ونشر الكثير من الأعمال في مجله "المجلة" التي كان حقي رئيس تحريرها في ذلك الوقت.
بدأ الكتابة والنشر منذ العام 1965، وفي العام 1969 أصدرت عنه المجلة الطليعية "جاليري 68" عددًا خاصًا تضمن نماذج من قصصه ودراسات حول هذه القصص، ولاقت أعماله القصصية ترحيبا كبيرا عندما نشرت في أواخر الستينيات، وكانت أولها مجموعة "بحيرة المساء"، وتوالت الأعمال بعد ذلك إلا أنها كانت شديدة الندرة، حتى كانت روايته "مالك الحزين" وهي أولى رواياته التي أدرجت ضمن أفضل مئة رواية في الأدب العربي وحققت له شهرة أكبر بين الجمهور العادي وليس النخبة فقط.
التحق في أوائل التسعينيات كرئيس للقسم الأدبي بجريدة الحياة اللندنية، إلى جانب رئاسته لتحرير إحدى السلاسل الأدبية بالهيئة العامة لقصور الثقافة، إلا أنه استقال منها على إثر ضجة رواية وليمة لأعشاب البحر للروائي السوري حيدر حيدر.
ابتكر لغة جديدة في كتاباته الروائية، تمزج بين اللغة العامية الفصيحة وبين اللغة العامية الشعبية، حيث يعد من أبرز كتاب الرواية في جيل الستينيات، وتميز أسلوبه في الكتابة بالواقعية، وهو ما ميّز اختياره لشخصيات رواياته من قلب الواقع، فكان يختار نماذج بشرية لها حضور كبير في التجربة الشعبية والواقعية، وقد وصفه البعض بأنه هرم أدبي كبير باعتباره يمثل حالة فريدة ونادرة على المستويات الإنسانية والأدبية والإبداعية، وأول من أسس لكتابة جديدة في الرواية العربية، واعتبر الجميع أن رحيل أصلان يعد خسارة فادحة على المستويين: الأدبي والإنساني، فقد كان هادئا مثل بحيرة المساء التي لا يحرك ساكنها نسمة أو ريح، لم يره أحد ذات مرة متجهما أو غاضبا أو محتجا على شيء، فكل الأمور عنده بسيطة، بل إن بعض أصدقائه كانوا يتراهنون على من يخرجه عن هدوئه فإذا به يبتسم عند كل موقف.
إبراهيم أصلان - الذي تحل ذكرى وفاته هذه الأيام - ترك فراغا يعرفه كل أديب في العالم العربي، فقد كان دائما يقف هناك، سيجارته لا تفارق ابتسامته الطيبة التي تمنحك شعورا غامرا بقدرتك على أن تعانق المكان الذي أحببت.
تتمثل أعمال أصلان القصصية في: بحيرة المساء (1971)، يوسف والرداء (1987)، شيء من هذا القبيل (2007)، حكايات من فضل الله عثمان (2003)، حجرتان وصالة (2010)، وأما الأعمال الروائية: مالك الحزين (1983)، عصافير النيل (1999). وأما الأعمال السيرية: خلوة الغلبان (2003).
وقد حصل أصلان على جائزة طه حسين من جامعة المنيا عن رواية "مالك الحزين" عام 1989، جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2003 - 2004، وجائزة كفافيس الدولية عام 2005، جائزة ساويرس في الرواية عن "حكايات من فضل الله عثمان" عام 2006.
توفي في السابع من يناير عام 2012 عن عمر يناهز 77 عامًا. 

* الكيت كات.. علامة سينمائية بارزة
"هذه الشخصيات في الخلوة هي شخصيات التقيتها في مناطق الكيت كات - حيث أقطن - وتحدثت إليها وعاشرت بعضها بحكم الجيرة وأحببتهم وكتبت عنهم، وإن قراءتي لكتب التاريخ والأدب تضعني في أجواء مثيرة أتهيأ بعدها للإبداع، كذلك تفعل الموسيقى فعل السحر في تهيئة جو الكتابة، فلا أُقدم على عمل أدبي إلا وأنا مهيّأ ومحتشد تمامًا".
هكذا وصف أصلان بدقة حالته النفسية وهو يتهيأ للكتابة، مشيرًا إلى أن شخصيات منطقة الكيت كات كان لها التأثير الأكبر في أدبه، ما أهّل روايته الأولى "مالك الحزين" (1983) لأن تعرف طريقها إلى السينما عن طريق المخرج داود عبد السيد في فيلم "الكيت كات" (1991)، الذي قام بالتمثيل فيه الممثل الرائع محمود عبد العزيز، ليجسد شخصية من أشهر الشخصيات في تاريخ السينما المصرية وهي شخصية الشيخ حسني. 
وقد كان تحويل بعض روايات أصلان إلى السينما ذا أثر كبير على نجاحها، خاصة أشهر رواياته "مالك الحزين" التي تحولت إلى فيلم الكيت كات، ففي حى الكيت كات تبدو شخصية الشيخ حسني الكفيف كراصد ليوميات أبناء الحي وكنبض لهمومه الحقيقية التي يتسامى عليها رغم فقدانه البصر وزوجته وعمله، يعيش مع أمه المسنة وابنه الشاب المحبط، دون أن يتخلى عن الأمل والبسمة والضحكة، وينطق للتعبير عن هوايته للغناء ليلا في جلسات تدخين المخدرات لينسى واقعه المظلم بعد بيع منزله، لا يجد يوسف - ابن حسني - وظيفة عقب تخرجه في الجامعة، كما يفشل في العثور على عقد عمل بالخارج، وتكشف علاقته بجارته الشابة المطلقة فاطمة عن إصابته بعجز جنسي، عندما يموت أحد أبناء الحي يحضر الشيخ حسني واجب العزاء ومع إغفال إغلاق مكبر الصوت - عقب انتهاء تلاوة القرآن - يكشف الشيخ حسني عن فضائح بعض أهالي الكيت كات ليسمعها الجميع، ومنها خيانة المعلم "هرم" لصديقه المريض مع زوجته الحسناء، وهروب "روايح" من زوجها الصائغ متبلّد الإحساس، وحتى علاقته الخاصة بـ "أم روايح" وعلاقة ابنه بـ "فاطمة".
أما رواية "عصافير النيل" - التي تحولت إلى فيلم أيضا - فتدور حول عبد الرحيم "فتحي عبد الوهاب"، شاب قادم من الريف لتحقيق ذاته، يسكن في حي شعبي وتحدث له صراعات نتيجة اختلاف العادات والتقاليد التي تربّى عليها في الريف وبين الناس الذين يحتك بهم في الحي الشعبي، وبالرغم من الصراعات التي كان فيها فإنه وقع في حب امرأة من الحي الشعبي وبالرغم من اختلافات في الطباع إلا أن المرض الخبيث جمع بينه وبين المرأة.
جرأة أصلان في اتخاذ هذا القرار تعود إلى اعتقاده أن العلاقة بين الفنون والآداب "الظاهرة الإبداعية واحدة في جوهرها الإنساني وتتم عبر وسائط مختلفة منها: اللوحة، الموسيقى، الكلمة، ولكل وسيط إمكاناته التعبيرية المختلفة، قبل ذلك هناك ضرورة ملحّة للتعرف إلى مختلف الفنون، فهي الوسيلة الوحيدة والممكنة لإثراء الوسيط..".

* سعيد الكفراوي: أصلان صديقي الذي رحل
وفي شهادته عن الراحل الكبير يقول الكاتب سعيد الكفراوي: رحم الله إبراهيم أصلان الكاتب والصديق، تعرفت إليه أواخر الستينيات في الندوة التي كان يعقدها نجيب محفوظ على مقهى ريش والتي تكونت معها جماعة جيل الستينيات في ذلك الحين، منذ ذلك التاريخ وحتى رحيله كنا نمثل رفقةً في الحياة والأدب، نقرأ ما نخطه معًا ونسافر معًا ونباشر شؤون حياتنا معًا.
وأضاف الكفراوي: على مستوى الأدب كان الراحل أحد الكتاب الذين جدّدوا في فن القصة القصيرة وهو واحد من هذا الجيل الذي ساهم في تأسيس حداثة الأدب، وكان عالمه ينبع من تلك المناطق الهامشية التي عاش فيها مثل إمبابة، كما كان عمله في مصلحة البريد دافعًا له للكتابة من خلال شخصيات ساقته إلى التجريب وتقديم ما هو مدهش ومثير.
إبراهيم الذي تأثر في أول حياته بـ "أنطون تشيكوف" والذي نبّهه إلى تأمل تلك الجماعات المغمورة ليكتب عنها أجمل القصص، كان واحدًا من الذين أبدعوا شكلًا يدل عليهم، يتميز بالاختصار والإزاحة والإبقاء على الجوهري من الحالة الإنسانية التي تثير الدهشة، وكان - عليه رحمة الله - يمد أنامله إلى الحنايا الإنسانية ليتلمس المشاعر الفياضة للإنسان.
وقال الكفراوي: وأنا - بحكم الصلة والعلاقة التي امتدت لما يقارب الخمسين عامًا عشنا فيها نجاحات وانكسارات هذا الوطن وتجاوزات سلطته العسكرية بالاستبعاد مرة والتهميش أخرى والاعتقال كذلك - أستطيع أن أقول إنني أفتقده طوال الوقت، كنا جارين وكنا نلتقي بشكل يومي عبر الزيارة والخروج والاتصال بالهاتف لقراءة مخطوطاتنا، أفتقده كثيرًا وليس وحده ولكن مع الأحباء محمد عفيفي مطر وخيري شلبي ومحمد البساطي.

* عبد الوهاب الأسواني: رجلٌ يتميز بصفاء النفس
ويقول الأديب عبد الوهاب الأسواني: أصلان رجل تميّز بصفاء النفس، لم يعرف الحقد والحسد ولم يشعر بالغيرة من أحد، وكان باستمرار عندما يظهر عمل أدبي جيد يكون أول المتكلمين عنه بين أصدقائه، بعكس ما يحدث الآن في الأوساط الثقافية حيث نجد الطعن أو التجاهل، أصلان كان يختلف عن كل هذا بتلك الخاصية وأعني صفاء النفس، هذا طبعًا إلى جانب أنه مبدع كبير وأحد الذين قدموا قصة قصيرة جيدة، ومن وجهة نظري فإن له رواية واحدة جيدة هي "مالك الحزين" وهي من أعظم الأعمال الروائية وعنها قلت: "إن صاحب هذه الرواية يرسم فيها الكلمات"، أما وردية ليل فهي أقرب إلى القصص القصيرة جدًا التي يجمعها موضوع واحد فهي في نظري ليست رواية، والمقارنة بينها وبين مالك الحزين تظهر أن الأخيرة رواية فذّة أما وردية ليل فليست رواية من الأساس.
وقال الأسواني: كان أصلان على المستوى الإنساني لا يخطئ في حق أحد أبدًا بل كان محبًا لكل ناس، ونستطيع القول إنه كان يتميز بقلب كبير لا يظهره للناس ولكن حين تخالطه ترى هذا عن كثب.

* إبراهيم أصلان.. كاتب يكتب بالممحاة
إبراهيم أصلان الذي بدأ حياته المهنية كصحفي، ونشر في بعض الأحيان قصصا قصيرة في الصحف والمجلات قبل أن ينتقل إلى كتابة الروايات، لذا تعزّز الانطباع بتأثير الحياة الصحفية على كتاباته، حيث وضع السرد عن أحياء القاهرة مع إعطاء الاعتبار الواقعي للعلاقات الاجتماعية، فضلا عن التفاصيل المغرقة في المحلية، كل ذلك في لقطات صحفية شديدة الاختزال. 
ومع ذلك، وبعد بضع صفحات من أي عمل له سيكتشف القارئ أن ما يجعل أصلان كاتبا متميزا هو تناوله تفاصيل حياة الطبقة العاملة بدلا من الطبقة المتوسطة، في أحياء مثل إمبابة والوراق، فضلا عن منح شخصياته مهناً بسيطة امتهنها والده ومهناً عمل بها هو نفسه، ثم إفراده مساحة واسعة للحوار بدلا من الوصف الطويل، علاوة على إحساسه الفذ بالفكاهة وحبك المؤامرات.
من هنا قال عنه الناقد والمترجم "إليوت كولا" الذي ترجم أغلب أعماله: "أعاد أصلان الرواية إلى الأرض بأسلوبه في استخدام اللهجة المصرية العامية وتصوير تفاصيل الحياة التي عاشها".
كتابة أصلان، التي تتميز بالجمل التقريرية القصيرة والتناوب بين طبقات من التفاصيل، يمكن أن تكون مستفزة للقارئ أحيانا كثيرة، لكنها في كل الأحوال ممتعة ومثيرة للجدل.
"صوفيا ساماتر" - في عرضها لرواية عصافير النيل - تقول: "افتتح أصلان الرواية بحديث جدّته المشوشّة وهي تضحك وحدها، وبعد بضع صفحات تختفي، الجدة المفقودة تمثل حطام الإنسان، وهي صورة مرعبة للخلاص والفداء النهائي".
كثيرا ما يصدم أصلان القارئ بوضوح بوصفه أن الشخصية فعلت تصرّفاً ما بالقدم أو اليد "اليمنى" أو "اليسرى" أو العين، كما لو أنه يخشى ألا يتمكن القارئ من استيعاب الصورة من دون تلك المعلومات، لذا قال عنه النقاد إن ذلك قد يكون علامة على القلق من قبل الشخص الذي يكتب "بالممحاة"، كما تأتي أيضا كمحاولة ليرى القارئ بوضوح تام الصورة ومعالم الشخصية.
يتناول عمله الأثير إلى قلبه - والذي حمل لقبه أصلان نفسه لاحقا، "مالك الحزين" - المظاهرات التي حدثت عشية مظاهرات الخبز في 18 و19 يناير 1977، التي وقعت في مصر كرد فعل على برامج التقشف وصندوق النقد الدولي والطلب على خصخصة القطاعات المملوكة للدولة، تشرح "مالك الحزين" صور الحياة في حي إمبابة، حيث بطل الرواية "يوسف" يراقب الحياة اليومية للرجال والنساء المهمومين بأحزانهم الخاصة مع الاحتفال بالمناسبات المهمة، وما يميز أصلان أيضا هو استعداده لتحويل سكان إمبابة إلى أشخاص روائية ووصف أنشطتها والشوارع وغزل حكاويهم بالتفصيل بطريقة هزلية مبكية.
وعلى النقيض جاء عمله "عصافير النيل"، وهي الرواية التي يمكن اعتبارها حقا تحفة أصلان وقمة إبداعه لتعطي لمسة معينة من الغموض على أسلوبه الشخصي، تتناول "عصافير النيل" الحياة اليومية لعائلة من المهاجرين من الريف إلى القاهرة، ودراسة العلاقات المتبادلة على مستوى الفرد والأجيال وتطورهم وكذلك علاقاتهم مع العالم الخارجي. 
الجانب الفلسفي من "عصافير النيل"، وكذلك خلفياتها وهيكلها وأطرها، جعلتها عمل أصلان الأصلي للغاية، على الرغم من أن أعماله السابقة استنساخ لبعض أنماط نموذجية للرواية المصرية التي نشأت في بداية القرن العشرين، مثل تحديد السرد داخل بيئة اجتماعية وجغرافية معينة مع الميل نحو الواقعية الاجتماعية.
أصلان قادر بجدارة على تمرير رسالة عالمية عن أهمية النظر إلى الغد من دون أن ننسى أصولنا، والقدرة على مواجهة ماضينا من أجل أن يعيش حاضرنا ومستقبلنا.

* "مالك الحزين".. أعمال وجوائز
في مجال القصة لـ "أصلان" مجموعات: بحيرة المساء مجموعته القصصية الأولى وصدرت في أواخر الستينييات، يوسف والرداء.
وفي مجال الروايات لـ "أصلان" روايات: مالك الحزين، وردية ليل، عصافير النيل، حجرتان وصالة، كما أن لـ "أصلان" كتابات أخرى هي: خلوة الغلبان، حكايات من فضل الله عثمان، شيء من هذا القبيل.

* الكيت كات 
حققت رواية مالك الحزين نجاحا ملحوظا على المستوى الجماهيري والنخبوي، ورفعت اسم أصلان عاليا بين جمهور لم يكن معتادا على اسم صاحب الرواية، بسبب ندرة أعماله من جهة وهروبه من الظهور الإعلامي من جهة أخرى، حتى قرر المخرج المصري داوود عبد السيد أن يحول الرواية إلى فيلم تحت عنوان "الكيت كات"، وبالفعل وافق أصلان على إجراء بعض التعديلات الطفيفة على الرواية أثناء نقلها إلى وسيط آخر وهو السينما، وبالفعل عرض الفيلم وحقق نجاحا كبيرا لكل من شاركوا فيه وأصبح الفيلم من أبرز علامات السينما المصرية في التسعينيات.

** حصاد الإبداع 
حصل إبراهيم أصلان على عدد من الجوائز منها:
 - جائزة طه حسين من جامعة المنيا عن رواية "مالك الحزين" عام 1989 
 - جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2003 – 2004 
 - جائزة كفافيس الدولية عام 2005 
 - جائزة ساويرس في الرواية عن "حكايات من فضل الله عثمان" عام 2006.