رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

صفحات من تاريخ العلوم في الحضارة العربية.. الجاحظ والبحث العلمي التجريبي "1"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن الناظر لتاريخ الحضارة يجده تاريخا متصلا بين الشعوب كافة، وأن كل شعب من الشعوب قدم للحضارة الإنسانية ما كان سببا في تقدمها ورقيها، وفي فترة تاريخية ما كان للعرب والمسلمين إسهاماتهم القيمة بل حملوا مشعل الحضارة وتقدموا بها وأسسوا لعلوم لم تكن موجودة من قبل بجوار تطويرهم للعلوم التي كان قائمة، سواء كانت علمية تطبيقية أو دينية أو لغوية أو فلسفية أو اجتماعية. قبل ما نمر بها الآن من تراجع على المستوى العلمي والثقافي، فقد قدم ابن سينا كتاب القانون في الطب الذي أضحى مرجعاً أساسياً في الطب لفترات طويلة، كما أن ابن خلدون هو أول من تكلم عن علم العمران، ويعتبر بذلك مؤسس علم الاجتماع الحديث.
أما ابن الهيثم فيعتبر المؤسس الأول لعلم المناظر ومن رواد المنهج العلمي. 
كما عرض الخوارزمي في كتابه (حساب الجبر والمقابلة) أول حل منهجي للمعادلات الخطية والتربيعية، ويعتبر مؤسس علم الجبر، كما برز الإدريسي في الجغرافيا ورسم الخرائط، وقد برز غيرهم الكثير الذين تمت ترجمة مؤلفاتهم إلى اللاتينية واللغات الأجنبية الأخرى. 
وتميزت حضارة الإسلام بأنها حضارة علمية تهتم بالعلم والبحث العلمي ورفعته إلى درجة العبادة. وهناك من العلماء والمبدعين الذين أسسوا تلك الحضارة بوضعهم حجر الأساس للعلوم الحديثة قبل أن يعرفها الغرب المتطور حاليا، ومن بين هؤلاء العلماء هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري (159 هـ-255 هـ).
وللجاحظ مكانة متميزة في تاريخ الفكر العربي باعتباره مثل قطيعة معرفية مع الفكر التسليمي الانطباعي وعدّ مؤسّسا للمعرفة العقليّة. ولقد كان الجاحظ استجابة حضارية طبيعية لظرف معرفي مخصوص تميز بحضور مكثف للعقل ودليل ذلك أن السلطة في عصر الجاحظ كانت اعتزالية. وتميز هذا الظرف بكثرة الجدل والاختلاف بين الفرق الإسلامية، كما تميز باكتمال مرحلة التدوين وما أفرزته من تداخل بين الحقائق. وميزة الجاحظ أنه خاض بالعقل في ميادين لم يخض فيها العقل مسبقا. وقد نظر في عالمين اثنين متقابلين ولكنه تمكن من الربط بينهما هما عالم المحسوسات، من خلال دراسة الحيوان، وقد أسس أثناء ذلك منهجا يقوم على السماع والشك والتجربة وعالم الغيب و"الماورائيات" وقد استند في ذلك إلى الاستدلال.
كما كان الجاحظ من أول من نظّر للتطور من البيولوجيين المسلمين. وكتب عن تأثير البيئة على فرص بقاء الحيوان، وكان أول من وصف الصراع من أجل البقاء. 
كان الأول أيضا في الكتابة عن سلسلة الغذاء كما كان من القائلين بما يسمى الحتمية البيئية حيث حاول أن يبرهن بأن للبيئة القدرة على تحديد الصفات والمميزات الجسمانية لقاطني المحيطات البيئية المختلفة، كما قال بأن لون البشرة المتباين بين البشر هو إحدى نتائج تأثير البيئة. 
يذكر في كتابه "الحيوان": "تدخل الحيوانات صراعاً من أجل الحياة: من أجل المصادر مثلاً، أو بغية تجنب الافتراس من قبل الحيوانات الأخرى، أو من أجل التكاثر. بإمكان العوامل البيئية أن تؤثر على الكائنات الحية لتطور صفات جديدة تساعد على النجاة وبالتالي تؤدي إلى تحولها إلى أنواع حية أخرى. إن الكائنات الحية التي تتمكن من البقاء تستطيع التكاثر مما يؤدي إلى انتقال تلك الصفات المميزة إلى الذرية."
كان لكتابه هذا تأثيراً عظيماً على العلماء المسلمين خلال القرون 11 إلى 14 الميلادية، كما أن التراجم اللاتينية لأعماله وأعمال غيره توفرت لتشارلز داروين ولمن سبقه كـ لينيوس، بوفون، ولامارك.
ومن خلال قراءة منتج الجاحظ المعرفي نجد أن أهم جوانب مشروعه الفكري هو منهجه التجريبي الذي لم يقابله الباحثون بمزيد من العناية فقد أعلى الجاحظ من قيمة العقل فكانت للتجربة والمشاهدة القول الفصل لديه لذلك رفض الكثير من آراء أرسطو لأنها تتعارض مع التجارب التي أجراها ومشاهداته للحيوانات من الديوك والكلاب والحيات، فلم يقف أمام أرسطو موقف التلميذ الخائف بل وقف أمامه موقف العالم والمعلم المصحح، فاهتم في كتابه "الحيوان" بالبحث في طبائع الحيوان وغرائزه وأحواله وعاداته فكان بذلك مؤسس علم طبائع الحيوان.