الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أمير المنابر فليكس فارس

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يلقى الفيلسوف الفرنسى جوستاف لوبون (١٨٤١-١٩٣١ م)، والفيلسوف الإنجليزى أرنولد توينبى (١٨٨٩ – ١٩٧٥ م) على كاهل النخب -من المبدعين فى السياسة والعلوم والآداب والفلسفة- مسئولية تقدم الأمم ورقيها، وتخلفها عند غيابهم أو إقصائهم من موقع القيادة والريادة، وذلك لأنهم من أكثر المؤثرات فاعلية فى بناء الروح الجمعى وتوجيهه الوجهة الصحيحة صوب الإصلاح والمدنية، وأحسب مفكرنا خير من يمثل هذه الطبقة المستنيرة فى الثقافة العربية المعاصرة. 
هو فليكس حبيب فارس أنطوان، أديب وصحفى ومفكر موسوعى وعلم من أعلام النهضة العربية المعاصرة (١٨٨٢ – ١٩٣٩م)، ولد فى قرية صليما من أعمال جبل لبنان، من أب عربى مارونى وأم أوروبية تحمل الجنسيتين الفرنسية والسويسرية. رغب فى طفولته عن المدارس النظامية ومناهجها التلقينية واختار أن يثقف نفسه بنفسه وقد أعانته مكتبة أبيه على ما أراد، فاستوعب معنى الأصالة والولاء خلال درسه -الوطنية والانتماء الحضارى والإيمان العقلى المؤسس على التسامح بين الأغيار ورفض التعصب فى كل صوره- الذى وجده فى قراءاته للتراث العربى الإسلامي، وأخذ عن والدته معظم الآداب الغربية، ولا سيما الفرنسية والألمانية فجمع بذلك بين الثقافتين فى بوتقة واحدة تولدت عنها عقلية نقدية راقية. 
وفى شبابه التحق بالمدرسة الوطنية فى بعيدات ومنها إلى مدرسة الشويفات الثانوية. وقد تجلت إبداعاته فى شعره وخطبه التى تناقلها المثقفون فى السهل والجبل وذلك فى سنين عمره المبكرة، وقد جمعها فى ديوانه «زهر الربا فى شعر الصبا». أما مقالاته النثرية فكانت محط إعجاب معاصريه، تلك التى كان ينشرها فى مجلة «الاتحاد» و«العروس» و«المراقب» و«أنيس الجليس» و«لوتس» و«سركيس»، -وذلك خلال عمله بالتدريس فى مدرسة الآباء الكبوشيين، ومدرسة الآداب الوطنية، والمكتب السلطانى بحلب، وقد جمع فى دروسه بين آداب اللغة العربية واللغة الفرنسية ثم اللغة التركية التى أجادها بعد ذلك-، وكان جميعها موجه لإصلاح الأمة ونقد العادات الفاسدة وتقويم الأخلاق المنحرفة والرد على جحود المستغربين لفضل أمتهم العربية على الحضارة الإنسانية فى جل ميادين العلم والفلسفة، ومن أقواله «ويلٌ لأمَّةٍ لا وطنَ لها، ولا تملكُ عنان نفسها.. ويلٌ لأمَّةٍ لا ينبتُ فيها رأسٌ إلا وهو مشدودٌ بناصيته إلى أذيال الغريبِ». 
أسس فى لبنان رابطة وطنية لمحاربة التعصب الملى والطائفى وانضم كذلك لجمعية الاتحاد والترقى لمناهضة ظلم العثمانيين للعرب، ثم هاجر إلى أمريكا عام ١٩٢١ لتأسيس رأى عام قائد من مثقفى الشوام فى المهجر، وذلك للدفاع عن حق بنى جلدته فى الحرية والعدالة والمساواة، ذلك فضلا عن تأسيسه للعديد من الجمعيات الخيرية لمساعدة اللبنانيين الذين فتكت بهم المجاعة وضاقت بشبيبتهم الأرزاق، ومن أقواله «لنحترس من أن نقول إن هذا الوطن هو وطن هذا الدين أو ذاك المعتقد، فإذا نحن ألقينا بشقائنا إلى هذه الأرض المغطاة برمادِ الرفات المتحدة، فإنما نحن مدنِّسوها، ولعلَّ هذه الأرض تعلم أكثر مما نعلم نحن، بأن خالقها هو الواحد الأحد، وبأنها غذَّت كل أبنائها على السواء من حشاشتها الواحدة»..‏ 
ثم عاد إلى بيروت عام ١٩٢٢م واحترف المحاماة شأن أبيه، غير أن آراءه السياسية ضد الباب العالى والحكومات العثمانية الاستبدادية قد سببت له الكثير من المضايقات فغادر لبنان إلى الإسكندرية عام ١٩٣٠م ليتسلم رئاسة قلم الترجمة هناك، وخلال هذه الفترة أسس مع رفاقه الشوام وبعض الأدباء المصريين جمعية الرابطة العربية، وذلك للترويج بين المثقفين لفكرة جامعة الدول العربية، وقد ألقى فى هذه الجمعية عشرات الخطب التى تدافع عن أصالة الشرق وعبقرية الحضارة الإسلامية وحرية المرأة وسماحة وعقلانية الدستور الإسلامى المحفوظ فى القرآن وسنة محمد عليه الصلاة والسلام، ذلك فضلا عن تصديه لحملات العلمانيين المستغربين والملحدين وافتراءات غلاة المستشرقين ومزاعم الكاتب التركى إسماعيل أدهم (١٩١١-١٩٤٠ م) وآراءه العدائية تجاه الفكر الشرقى والعقيدة المحمدية –على صفحات مجلة الرسالة. 
وقد راقت خطبه للخاصة والعامة وقد استحسن أكابر المثقفين بلاغته وفصاحة ردوده وقوة طعونه ونقوده، وقد رفض الانضمام إلى الجمعيات الماسونية وانضوى تحت راية الاتجاه المحافظ المستنير وبخاصة مدرسة محمد عبده؛ التى نادت بالتأليف بين الأصالة والمعاصرة والدين والعلم والانتماء الوطنى والانضواء الحضارى ورفض التبعية للأغيار والاعتماد على الذات فى التجديد وإعادة البناء والإصلاح ونقد الفكر الوافد قديما موروثا كان أو حديثا لفظته الحضارة الأوربية ونظمها المعاصرة، ومن أقواله المعبرة عن ذلك «لقد طغت على مجتمعنا فى معتقداته وفى نظم أسرته وفى آدابه، وفى حكوماته من متخلفات جميع العصور وجميع الأمم فنحن اليوم أشبه بنبيل أخنى عليه الدهر فأجاعه، فهو يأكل من فضلات موائد الأمم ومزق ثوبه فهو يستر عورته بترقيعه ملتقطا له الخرق أمام كل بيت غريب، ومن كل مزبلة تعترض طريقه». 
وقد حمل فليكس فارس على شبيبة العرب الذين انخدعوا بأقوال الفلاسفة الماديين الغربيين وروجوا للإلحاد وجحدوا عروبتهم باسم المدنية واستهزءوا بأخلاقياتهم وأصدروا دينهم وتعاليمه التى جاء بها عيسى ومحمد، وعاب على نفر منهم التعصب الدينى الذى يقودهم إلى الفتنة الطائفية التى لا يُحصد من غرسها فى جسد الأمة إلا الدمار والخراب والفرقة وتكالب الأمم عليها فينهبون ثرواتها ويستعبدون أهلها، مؤكدا أن الأخوة الدينية والتصالح بين المذاهب العقدية هو السبيل الذى لا عوض عنه لنهوض الشرق واستقراره وسلامه وأمنه من كيد الكائدين، ومن أشهر أقواله فى ذلك «من رأى فى الإنجيل والقرآن ما يدفع إلى الشقاق ويؤدى إلى خلاف فقد جهل حقيقة الإنجيل والقرآن، وكلاهما إلهام الحق المطلق يتعالى من أن تتناوله فكرة إنسانية بإصلاح وتحوير، ليولى المسيحى وجهة شطر الشرق وليولى المسلم وجهة شطر القبلة، إنهما لجهتان مختلفتان فى الابتداء ولكنهما ينتهيان إلى وجه الله الحق، والحق محور الكائنات وقطبها». 
والغريب أن مفكرنا قد تنبأ بمقامه فى سماء الفكر العربى المعاصر وإهمال الشبيبة لكتاباته، وها هو يقول: «أهملنى الترك لأننى عربي، وأهملنى العرب لأننى نصراني، وأهملنى النصارى لأننى لست جيزوتيا- وهى إحدى فرق الكاثوليك اليسوعيين». 
فهل يمكننا اليوم إعادة هذا المفكر ثانية إلى دائرة الضوء ونقلده وسام الثقافة العربية؟.. ولسير الأعلام بقية.