تمثل العصر الذهبى للكوزموبوليتانية فى مدينة الإسكندرية فى فترة العشرين سنة بين العامين 1936 و1956. فقد تراجعت التوترات بعد أن تفاوض مصطفى النحاس على معاهدة صداقة جديدة مع بريطانيا فى العام 1936 أعطت مصر مزيدًا من الاستقلال وجدولًا زمنيـًا لجلاء القوات البريطانية عن القاهرة والإسكندرية إلى منطقة القناة والتخلص من المستشارين البريطانيين فى الوزارات البريطانية. وفى العام 1937، وبعد 400 سنة، أُلغيت أخيرًا الامتيازات الممقوتة التى شُجِبَت طويلًا، وبدأت المحاكم المختلطة تنزوى حتى أُغلِقَت فى العام 1949، كما أُغلِقَت المحاكم القنصلية هى الأخرى فى العام 1948.
لاحظ التغير الروائى نجيب محفوظ، الذى كان يقضى الصيف فى الإسكندرية؛ إذ تذكّر - فى حوار صحفى أجرى معه فى العام 1996- أن المصريين قبل العام 1936 كانوا يعتبرون الإسكندرية: «مدينة أوروبية تسمَع فيها اللغة الإيطالية أو الفرنسية أو اليونانية أو الإنجليزية أكثر كثيرًا مما تُسمَع فيها اللغة العربية. كانت المدينة جميلة ونظيفة جدًا حتى إن الواحد كان يمكن أن يأكل من الشوارع... لكن ذلك كله كان للأجانب. ولم يكن باستطاعتنا إلا أن نراقب من بعيد.. إلى أن جاءت معاهدة 1936 التى أخضعت الأجانب للقانون نفسه الذى يخضع المصريون له... وعندما أُلغيت الامتيازات، اضطر الأجانب فى الإسكندرية إلى تغيير موقفهم. فلم يعودوا يملكون البلد، ولم نعد نحن المصريين مواطنين من الدرجة الثانية، فأدركوا أنهم وإيانا سنقف أمام القضاة أنفسهم، وهو ما أعطانا شعورًا بالثقة، وظلت مظاهر الحياة الأوروبية حاضرة بقوة، لكن عندما أُلغيت الامتيازات، أصبحت متاحة لنا نحن أيضـًا».
لم يعد المصريون يشعرون بأنهم غرباء. وأخذ محفوظ يرتاد المطاعم اليونانية مثل مطعم أثينيوس Athineos المشهور بفرقته الأوركسترالية الكلاسيكية والحفلات الراقصة المسائية: بإيجاز، كانت الإسكندرية باعتبارها مدينة «تشع فيها البهجة العامة فى كل مكان».
كان المال - فى رأى البعض - هو الحاكم لهذه السنوات الذهبية. يحكى فيليب مانسيل «ثلاث مدن مشرقية: سواحل البحر الأبيض المتوسط بين التألق والهاوية، جـ 2، ترجمة: مصطفى قاسم، سلسلة «عالم المعرفة»، ديسمبر 2017» عن الوضع فيقول: تذمر كل من الروائيين لورنس داريل وفاستا جالينتى من أن السكندريين ليس لهم موضوع للمحادثات غير المال. فالمال يجرى فى عروق السكندريين مجرى الدم، مع أن جالينتى اعترفت أيضـًا بأنهم «مهذبون جدًا». وتذكّر قاضٍ فى المحاكم المختلطة، هو بارون فيرمين فان دين بوش، أن المحادثات فى شرفة حلقة محمد على كانت تتغير فى الحال من السيارات والنساء المارّات، وآخر الفضائح عندما يُحضِر الصبى نشرة مطبوعة من البورصة بأسعار القطن اليوم. وعندما كانت الأسعار ترتفع، كان السكندريون يقيمون عددًا أكبر من الحفلات. وكما كانت الحال فى بيت عائلة ميشيل سلفاغو، كان الكثير من فيلات الإسكندرية تحوى مقتنيات فخمة، تجمع بين الأنتيكات البطلمية ولوحات لرسامين مثل فان دونغين وفلامنك أو بروسلين عثمانى، أو خزف صينى وأحدث كتاب لبروست أو بول موران. ومع نهاية الثلاثينيات، كان السكندريون يمكن أن يستمتعوا أيضـًا بـ«دورة ليلية من حفلات الكوكتيل». حتى إن بعض السكندريين كانوا يتباهون بأنهم لم يتعشوا فى بيوتهم قط.
وإلى جانب المال، هيمنت العلاقات الغرامية على محادثات الإسكندرية. وفى رأى فرناند لوبرت Fernand Leprette، فإن «السكندريات المتشربات بالحداثة حتى أخمص أقدامهن الصغيرة الرقيقة ذات الأظفار المصبوغة، تدفعهن رغبة جارفة للقطيعة مع الأحكام المسبقة وتذوق كل صنوف المتعة. وتتمسك السكندريات بالأخلاق البرجوازية إلى حد الرعب، إذ تخشين جميعهن من أن تبدو الواحدة منهن ساذجة حتى فى قلبها. فقلوبهن عملية إلى أقصى حد.. وهن كائنات حُرة.. تمثلن الزينة الحية للمدينة». كان بعض الأوروبيين يشتّون فى المدينة من أجل النساء تحديدًا. وقد أقر فان دين بوش هذه الملحوظة، إذ وصف النساء بأنهن «وحوش ضارية صغيرة جميلة تبحث عن الفرائس»، وقال إن «جمالهن وسحرهن وهوسهن بالاستمتاع بمباهج الحياة جعلهن يستبحن كل شيء».
تلك هى الإسكندرية.. فى زمن مضى.
