الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"الكنى" و"ترتر" و"التيتي" و"سحلول"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كلهن أمهات دون أبناء، ومع ذلك دخلن تاريخ الأمثال الشعبية من أوسع أبوابه، تختلف الروايات حولهن لكنها لم تختلف على إبداع الحارة المصرية.
أولهم أم «الكنى» وهى السيدة جليلة أنور محروس، من مواليد القاهرة ١٨٤٠، فى عهد محمد على باشا، وورثت عن أبيها تجارة الحشيش والأفيون، وكان وقتها مقننا ومصرحا به فى الأسواق العامة، ثم توالت الأحداث حتى عصر الخديو إسماعيل؛ حيث أصدرت الدولة وقتها قانونا يجرم تجارة الحشيش، ومن وقتها واجه الحشاشون ظروفا صعبة.
وكان الحشاشون يشعرون بالاستياء من القانون الجديد الذى سلب منهم حرية تعاطى الحشيش، حتى قامت جليلة بحل المشكلة، إنهم يمكنهم التمادى بالتعاطى خلف أعين الدولة؛ حيث قالت جملتها الشهيرة «اللى عايز يشرب يشرب بس يتكن فى بدروم القهوة» التى كانت تمتلكها. 
وشيع الخبر بين الحشاشين أنك ممكن «تتكن» عند السيدة جليلة وتفعل ما يحلو لك حتى ذاعت شهرتها بأنها أم «الكن» فى مصر، وبقى لما حد يسأل أحد الحشاشين عن طريقة تفاديه القانون، كانت الإجابة عند أم «الكنى»، ومن هنا استخدم الناس اسم أم الكنى كناية عن السطل وعدم الاهتمام بجدية الحديث.
والثانية هى نفوسة الشهيرة بـ«أم ترتر»، كانت ساكنة فى حوارى كرموز، ومعروف عنها أنها لامؤاخذة ست لسانها طويل ومفترية، وفى فرش الملاية مالهاش مثيل، وماشية على مبدأ فى الحارة: «الشرشوحة ست جيرانها».
«أم ترتر» مخلفتش ترتر عندها إسماعيل وإبراهيم، ونبوية ترتر اسم شهرة لأنها كانت عايقة بتلبس جلاليب ومنديل بترتر، عشان كدا سموها «أم ترتر»، وجوزها المعلم علوان أبو إسماعيل «عربجى حنطور».
«أم ترتر» كانت ست بيت شاطرة، ساكنة فى بيت دور واحد منه بيت وعربخانة لحصان وعربية المعلم علوان، والبيوت اللى حواليها دورين وثلاثة وعاملة فوق السطح مزرعة فراخ وبط وكلهم «برابر» مافيش ولا ديك ولا دكر بط.. وسايباهم سارحين ع السطح يلاغو فى ديوك ودكورة بط الجيران، وزى ما قالوا «ومن الحب ما قتل حتى فى الفراخ والبط»، ديوك الجيران كانت تنط على سطح «أم ترتر» عشان تكسر الفراخ، الديك اللى ينط أو دكر البط على سطح أم ترتر مفقود يا ولدى، وعلى طول يبقى أجدع عشوة للمعلم علوان!! وكانت خبرة فى إخفاء أثر الديك من ريش وخلافه، واللى كان يضيع لها ديك وتسأل الجيران يردوا عليها بصوت واطى «عند أم ترتر ربنا يعوض عليكى»، عشان أم ترتر لو سمعت تخلى فردة الشبشب أعلى منهم، وطلع المثل الشعبى «عند أم ترتر» يدل على استحالة أنك تلاقى اللى بتدور عليه رغم أنك عارف ومتأكد مين اللى خده!
أما الثالثة «أم التيتى»، فهى راشيل باخوم، يهودية مصرية، ولدت فى عهد الملك فؤاد الأول، وعاشت فى مصر حتى مطلع الستينيات.. ترعرعت راشيل بحى اليهود بالإسكندرية وكانت بارعة الجمال، وانتقلت فى الخمسينيات للعيش فى القاهرة بميدان العتبة بجوار قهوة «متاتيا»، وخلال وقت قصير اشتهرت فى المجتمع القاهرى بسرعه البرق، بأنها صاحبة أكبر تيته «مؤخرة» فى البلد، حتى عرفها الناس باسم «أم التيتى» أى أم تيتة كبيرة. 
وكانت أم التيتى تعانى كثرة المعجبين الذين لم يسعد الحظ أحدهم بإيقاعها فى شباك غرامه، وتداول لقب أم التيتى بين الأجيال أنك مهما عملت ولا هاتعبرك. 
ولما تقول لحد (ده عند أم التيتى) كناية عن فقدان الأمل فى تحقق الموضوع حديث اللحظة..
أما الرابعة والأخيرة فهى «أم سحلول» الدلالة، امرأة عجوز، كريهة مبغضة، بخيلة، لا يحبها أحد من أهل قريتها، غير أنها ذكية جدا وخبيثة وسابقة لعصرها، كانت تقرض المحتاج بعد أن تأخذ منه الضمانات المؤكدة برهن منزله أو بقرته أو حقله أو أعز مقتنياته لها.
وبالطبع فلم تكن تقرضه إلا بشرط أن يرد لها القرض مضاعفا، وكان أغلب المقترضين لا يتمكنون من سداد الفوائد المتراكمة عليهم فتصبح أم سحلول هى المالكة الحقيقية لممتلكاتهم.
و«أم سحلول» التي أصبحت غنية كان لا بد لها أن تحمي نفسها، فتقربت من شيخ القرية ومن كبيرها، بأن قدمت لهما بعض التسهيلات فى القروض، بل وكانت تصرف لهما مبالغ معلومة لحمايتها، ولجعل ما تقوم به رسميا وشرعيا، كما قامت بتوظيف أشد الرجال وأقواهم لحمايتها.
وعلى ذلك فقد كثر عملاؤها وزادت ثقتهم بها، وشعر الناس أن خزنتها أكثر أمنا من منازلهم، فصاروا يضعون عندها ودائعهم وأثمن ممتلكاتهم، كأمانات، وبذكائها عمدت الدلالة على إقراض البعض من أمانات الآخرين دون أن يشعر أحد منهم بذلك.
وصارت «أم سحلول» أهم شخصية فى القرية وأغنى شخصية بينهم وصاحبة السلطة التي تتحكم بالجميع، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، حتى أصبح أهل القرية كالعبيد المسخرين لديها، هي سيدتهم التي تتحصل على أغلب رزقهم ونتاج كدحهم بالربا وعلى مسمع ومشهد من الجميع ومباركة من الكبار والمشايخ.
انتهت حكايات الأمهات الأربع، والتى جمعنا مادتها من الصفحات الرسمية للملك فاروق، وللدكتورة إلهام أحمد أستاذة علم الأديان المقارن بأمريكا، وللباحث أشرف صلاح الدين.