الأربعاء 17 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مصابيح في دائرة الظل "3" رشيد سليم الخوري

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يطرد أفلاطون من مدينته كل الشعراء، بل أولئك الذين زيفوا الوعى وغلّبوا الشهوة على العقل ونقلوا أخبارًا كاذبة عن الآلهة. وعلى النقيض من ذلك، نجده ينظر إلى المصلحين منهم بإجلال واحترام، ويعلى من شأن أقلامهم الملهمة، تلك التى ترشد الناس إلى مواطن الجمال والجلال فى الكون، وتحثهم على التضحية من أجل الوطن، وتذكرهم بأمجاد الأبطال والحكماء والعلماء والمصلحين. 
وأحسب شاعرنا من الذين حرص أفلاطون على وجودهم فى طليعة قادة الفكر المستنيرين. 
هو الشاعر والصحفى القروى رشيد سليم طنوس الخورى (١٨٨٧-١٩٨٤ م)، الملقب بـ «قديس الوطنية العربية»، «شاعر القومية والإنسانية»، أما أشهر ألقابه فهو «الشاعر القروي»، وقد أراد أحد النقاد ذمه بهذا اللقب فأضحى نعتًا يفتخر به صاحبه. ولد فى قرية البربارة فى لبنان، تعلم فى صيدا والتحق بمدرسة الفنون الأمريكية ببيروت، ومنها إلى الكلية السورية الإنجيلية هناك، غير أن ضيق ذات اليد حرمه من إتمام دراسته الجامعية، فراح يعلم الصبية فى المدارس الأولية، وجمع عشرات الكتب العلمية والتاريخية والأدبية وعكف عليها حتى ثقف ذاته. وفى عام ١٩١٣ رحل إلى البرازيل فاشتغل بالتجارة من بائع أقمشة متجول إلى صاحب وكالة تجارية، بالإضافة إلى تعليمه اللغة العربية لغير الناطقين بها، واشتغل كذلك بالصحافة ورأس تحرير مجلة «الرابطة» وعضوية العصبة الأندلسية فى سان باولو ورئاستها بعد ذلك، ثم عاد إلى الوطن عام ١٩٥٨.
أما شعره الذى راح ينشده منذ نعومة أظافره؛ فقد وجهه إلى عدة قضايا أهمها القومية والوطنية والوحدة العربية والحملة على الصهيونية والماسونية والمطامع الاستعمارية الغربية، ثم الطائفية وكل أشكال التعصب، أضف إلى ذلك مناهضة الاحتلال اليهودى لفلسطين ومساندة الكفاح الفلسطيني، ومن أشهر قصائده التى ألقاها احتجاجًا على وعد بلفور الغاصب:
عد من تشاء بما تشاء فإنما دعواه خاسرة ووعدك أخسرُ
فلقد نفوز ونحن أضعف أمة وتؤوب مغلوبًا وأنت الأقدرُ
فلكم وقى متواضعًا إطراقه وكبا بفضل ردائه المتكبرُ
يا مصدر الكذب الذى ما بعده كذبٌ، تعالى الحق عما تنشرُ
....
يا عُربُ، والثاراتُ قد خُلقت لكم اليوم تفتخر العلا أن تثأروا
يدعوك شعبك يا صلاح الدين قم تأبى المروءة أن تنام ويسهروا
نسى الصليبيون ما علّمتهم قبل الرحيل، فعُد إليهم يذكروا
....
للسلم نحن كما علمتِ وللوغى منا المسيح أتى، ومنا عنترُ
تجنى على وطن المسيح مدمرًا وتذيع أنك فى البلاد معمّرُ
صعد رشيد المنابر خطيبًا فى بلاد المهجر، وقد بلغت شهرته ذروتها على أثر قصائده وخطبه عن عظمة الإسلام ودور حضارة المسلمين فى نهضة الإنسانية وفضائل النبى وحكمة القرآن.
ومن أشعاره عن الوحدة الوطنية والتسامح الدينى بين الإسلام والمسيحية:
يا قومُ هذا مسيحيٌّ يذكّركم لا يُنهِض الشرقَ إلا حبُّنا الأخوي
فإن ذكرتم رسول الله تكرمة فبلّغوه سلام الشاعر القروي
وقد تصدر الشاعر القروى للكثير من القضايا العربية والإسلامية فذهب فى إحدى خطبه فى سان باولو فى عيد المولد النبوي: إلى أن حب المسلمين للنبى لا ينبغى أن يكون بكثرة الصلاة عليه شفاهة أو التغنى بقصائد مدحه فى حفلات الذكر والمواسم الدينية، فحب النبى فعلا وسلوكا وليس غناء وطربا، فعلى كل مسلم أن يتخذ من سنة النبى وسيرته العطرة زادا ليعمُر قلبه بالإيمان والتسامح مع الأغيار وحب من شاركوه فى الحياة والجوار، وعلى كل مسيحى أيضا أن يتأمل رسالته التى لا تختلف فى عطرها وأنوارها وجوهرها وصلبها عما جاء به موسى وعيسى، وذلك لأن السراج واحد ومصابيح الإيمان تضاء بزيت ربانى يدعو إلى وحدة الجنس البشرى والعدل بين الناس كافة، واقتلاع العنف والعصبية والمطامع البربرية من سلوكنا، فنصبح بذلك خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر «أيها المسلمون، يَنْسب أعداؤكم إلى دينكم كلَّ فِرْية، ودينُكم من بُهْتانهم براء. ولكنكم أنتم تصدِّقون الفِرْية بأعمالكم، وتقرُّونها بإهمالكم. دينُكم دينُ العِلْم، وأنتم الجاهلون. دينُكم دينُ التيسير، وأنتم المعسِّرون. دينُكم دينُ الحُسْنَى وأنتم المنفِّرون. دينُكم دينُ النصر، ولكنكم متخاذلون. دينُكم دينُ الزكاة، ولكنكم تبخلون.. يا محمدُ يا نبيَّ اللهِ حقًا، يا فيلسوفَ الفلاسفةِ، وسلطانَ البلغاء. ويا مَجْدَ العرب والإنسانية، إنك لم تقتل الروحَ بشهواتِ الجسد، ولم تحتقر الجسدَ تعظيمًا للروح. فدينُك دينُ الفِطْرةِ السليمة، وإنى موقِنٌ أن الإنسانية بعد أن يئست من كلِّ فلسفاتِها وعلومِها، وقنطت من مذاهب الحكماء جميعًا؛ سوف لا تجد مخرجًا من مأزقِها وراحةِ روحِها وصلاحِ أمرِها إلا بالارتماء بأحضان الإسلام».
وقد فطن الشاعر القروى إلى أن ما يعانيه الشوام فى سوريا ولبنان والأردن وفلسطين من جور وعنت وتعالٍ من الأتراك العثمانيين- فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر- ليس من الإسلام فى شيء، وذلك لأن التفاضل بين الناس فى الإسلام ليس باللون أو الجنس أو العرق، بل المفاضلة بينهم فى التقوى والورع والصدق فى محبة الله وطاعته، ومن ثم راح يبصر بنى قومه بأن سبيلهم لدفع ظلم الأتراك ومطامع الغزاة المستعمرين هو الوحدة والتآخى والجهاد فى صف واحد دفاعا عن عروبتهم ضد مؤامرات الصهيونية والحملات التغريبية التى ترمى لطمس هويتهم. 
إذا حاولتَ رفعَ الضيم فاضرب
بسيف محمدٍ واهجر يسوعا!
أحبوا بعضكم بعضًا وُعظنا
بها ذئبًا فما نجَّت قطيعا
والجدير بالإشارة فى هذا السياق، أن رشيد لم يكن هو الشاعر المسيحى الأوحد الذى مدح النبى فى القصائد وفى المنتديات الثقافية وعلى منابر الساسة فى بلاد الشام، ومنهم ميخائيل ويردى (١٨٦٨-١٩٤٥ م)، نقولا فياض (١٨٧١-١٩٣٠ م)، خليل مطران (١٩٧٢-١٩٤٩ م)، شلبى ملاط (١٨٧٥-١٩٦١ م)، أنيس الخورى المقدسى (١٨٨٠-١٨٧٧ م)، إلياس فرحات (١٨٩٣-١٩٧٦ م)، جورج سلستى (١٩٠٩-١٩٦٨ م).
وحقيق بى أن أؤكد أن أثر أولئك الشعراء فى الرأى العام لا يمكن إنكاره أو تجاهله، فقد نجحوا جميعا فى إيقاظ العقل الجمعى وتوعية الجمهور وتجييش المثقفين للإصلاح وإعادة البناء. وعليه لا مجال للمقارنة بين ما يتغنى به أبناؤنا اليوم من كلمات منحطة وصور متدنية ومقاصد عفنة، وما كان من أمر هؤلاء الشعراء وسامعيهم، فشاعرنا يستحق بجدارة وسام الشاعر المستنير.. ولسير الأعلام بقية.