الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

صلاح عبد الصبور.. نهاية درامية تليق به

الراحل صلاح عبد الصبور
الراحل صلاح عبد الصبور
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تظل أعمال الراحل صلاح عبد الصبور، والذي تعددت مواهبه بين الشعر والكتابة والصحافة، من أهم رموز الحداثة العربية، فالراحل كان من القلائل الذين أضافوا إلى المسرح الشعري الحديث، ومن رواد العمل الثقافي المصري.
وبينما كان صحفيا محافظًا، جاءت لغته الشعرية والمسرحية مليئة بالحنين لقيم اندثرت، ولكنها ظلت في أعماله التي تهتدي بها أجيالا عديدة من المثقفين؛ ربما لذلك كانت نهايته الدرامية تليق بعبقري من هذا الطراز.
هو محمد صلاح الدين عبدالصبور يوسف الحواتكي، المولود في الثالث من مايو عام 1931 في مدينة الزقازيق، أكبر مدن محافظة الشرقية؛ والتحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، ليتتلمذ على يد الشيخ أمين الخولي، والذي ضمّه إلى جماعة "الأمناء"، ثم إلى "الجمعية الأدبية"، واللتين أثرتا بشكل كبير على حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر، كما منحته الجلسة على مقهى الطلبة في الزقازيق أصدقاء الشباب الذين صاروا فيما بعد نجومًا في عوالم الأدب والفن، مثل مرسي جميل عزيز وعبدالحليم حافظ، الذي طلب منه أغنية يتقدم بها للإذاعة ويقوم بتلحينها كمال الطويل، فكانت قصيدة "لقاء".
تخرج عبدالصبور ليتم تعيينه مُدرسًا في المعاهد الثانوية، لكنه كان مشغولًا بالأدب، فاختار السير في طريق جديد للقصيدة العربية يحمل بصمته الخاصة، وبدأ ينشر أشعاره في الصحف، ليلمع اسمه بعد نشره قصيدته "شنق زهران"، وصدور ديوانه الأول "الناس في بلادي" الذي شق به مكانته بين رواد الشعر الحر مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وكان أول ديوان للشعر الحديث يهزّ الحياة الأدبية المصرية في ذلك الوقت، لافتًا أنظارَ القراء والنقاد، حيث جمع بين صور مختلفة واستخدام المفردات اليومية الشائعة، كذلك جمع بين السخرية والمأساة، وامتزج فيه الحس السياسي والفلسفي بموقف اجتماعي انتقادي واضح، وكانت أفكاره الإبداعية تقوده ليوّظف نمطه الشعري الجديد في المسرح وتميز مشروعه المسرحي بنبرة سياسية ناقدة، ولكنها في الوقت نفسه حافظت على الحياد.
تأثر إبداع عبدالصبور بأشكال عِدة، حيث تنوعت قراءاته من شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة، وخوضه في أفكار بعض أعلام الصوفية مثل الحلاج وبشر الحافي- وهما اللذان استخدمهما في كتاباته لإظهار أفكاره وتصوراته في بعض القصائد والمسرحيات- كذلك اطلع على الشعر الرمزي الفرنسي والألماني عند بودلير وريلكه، والشعر الفلسفي الإنجليزي عند جون دون، ييتس، كيتس، وإليوت بصفة خاصة، وهو ما ظهر عندما ربط الكثيرين بين رائعة إليوت "جريمة قتل في الكاتدرائية" ورائعته "مأساة الحلاج"، كذلك تأثر بالإيطالي لويجي بيرانديللو، وظهر ذلك واضحًا في مسرحيتي "ليلي والمجنون" و"الأميرة تنتظر"، عندما ظهرت فكرة "المسرح داخل المسرح".
واقترن اسم عبدالصبور بالشاعر الإسباني لوركا عندما قدّم المسرح المصري مسرحية "يرما"، والتي صاغ عبدالصبور الكثير منها شعرًا، كما ظهر تأثره بالشاعر الإسباني من خلال عناصر عديد بمسرحيات "الأميرة تنتظر"، "بعد أن يموت الملك"، "ليلي والمجنون"؛ وتأثر بكُتّاب مسرح العبث، خاصة أوجين يونسكو، وهو ما بدا في مسرحيته "مسافر ليل".
وللشاعر الراحل العديد من المؤلفات، فصدرت له دواوين "أقول لكم"، "تأملات في زمن جريح"، "أحلام الفارس القديم"، "شجر الليل"، "الإبحار في الذاكرة "، كما كتب خمس مسرحيات شعرية هي "الأميرة تنتظر"، "مأساة الحلاج"، "بعد أن يموت الملك"، "مسافر ليل"، و"ليلى والمجنون"، وصدرت له عدة أعمال نثرية، منها "حياتي في الشعر"، "أصوات العصر"، "ماذا يبقى منهم للتاريخ"، و"رحلة الضمير المصري".
تعددت مقالات عبدالصبور حول الحب والحياة والفن، والتي استمرت منذ عام 1957، وحتى عام 1975، قبيل توليه منصب المستشار الثقافي في سفارة مصر بالهند، وكان حريصًا على تجميع المقالات ذات الموضوعات المتقاربة في كتب صغيرة، فصدر له "على مشارف الخمسين، وتبقى الكلمة، حياتي في الشعر، أصوات العصر، ماذا يبقى منهم للتاريخ، رحلة الضمير المصري، حتى نقهر الموت، قراءة جديدة لشعرنا القديم، ورحلة على الورق".
وبالحديث عن "أقول لكم" فهو ينقسم إلى ثلاثة أبواب؛ أولها "عن الحب"، الذي أظهر عبدالصبور كصحفي محافظ، يدافع عن الأعراف في مواجهة ثورات الشباب وضد ما سماه التقليد الغربي، ويسرد من المواقف ما يُعزز نظرته التي تؤكد مسئولية المرأة عن قسم كبير مما لحق بالمجتمع من أوبئة، بل يُصرح في أحد المواضع بأنه يرى أغلب النساء العاملات "ما نزلن من بيوتهن إلا لاصطياد رجل، والحب في سطوره إن لم يكن في إطار اجتماعي مقبول فهو لهو".
و"عن الحياة" فقد سجّل عبدالصبور كل ما يقع تحت يده من قضايا اجتماعية، سواء في مصر أو خارجها، وتحدث في معظم مقالاته عن الحرية من وجهة نظره، حرية الاعتقاد، حرية المواطنة، وكان ناقمًا على التمييز العنصري، فدافع عن حقوق السود في أمريكا، وهاجم فساد الإعلام في العالم أجمع، وسجّل ما أعجبه أو صادفه بين قراءاته.
و"عن الحب والفن" يلتفت عبدالصبور إلى علاقة الفن بالمجتمع، مُنددًا باللجان الفنية التي تُبيح غناء كلمات مثل "يا جارحني، يا مسهرني"، رغم أنه كشاعر يُنادي بحرية الكلمة، بل ووقف بالفعل في وجه قالب الشعر المحافظ لصالح قصيدة التفعيلة، كما كتب عن فساد الإدارات الثقافية الحكومية في الإذاعة وغيرها، وكان يُغرق بنقده كل كبيرة وصغيرة بلسان الصحفي الجاد المحافظ لا بلسان الشاعر الثائر.
تقلّد عبدالصبور عددا من المناصب، وعمل بالتدريس وبالصحافة وبوزارة الثقافة، وكان آخر منصب تقلده هو رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، كما أسهم في تأسيس مجلة "فصول" للنقد الأدبي، وحاز عِدة جوائز مهمة، منها جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية "مأساة الحلاج"، والدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة المنيا، كما حصل بعد وفاته على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1982؛ ولكن كان منصبه الأخير سببًا في توجيه انتقادات حادة ولاذعة له، وصلت إلى حد الاتهام عندما تولى رئاسة هيئة الكتاب ولم يتخذ موقفًا ضد مُشاركة إسرائيل في معرض الكتاب في العام ذاته، وعندما نظم عدد من الشباب مظاهرة أمام مكتبه اعتراضًا على هذه المشاركة، قام الأمن بضربهم بوحشية أمام مكتبه، ليجد نفسه في مواجهة سلطة تفرض عليه الصمت.
"قبل رحيل صلاح عبدالصبور ظهر في حياتنا فجأة الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، ودعانا إلى حضور عيد ميلاد ابنته، وفي بيته كان هناك أمل دنقل، وبهجت عثمان، وجابر عصفور وآخرون لا أذكرهم، يجلسون في البلكونة بينما الأطفال جميعا كانوا في إحدى الحجرات يسمعون الموسيقي، في اليوم التالي لتلك السهرة المربكة- الجمعة 13 أغسطس عام 1981- كان البيت ممتلئًا بالناس، صحفيين وكتابًا، وللمرة الأولى أعرف أن أبي كان مشهورًا، الوحيدة التي كانت ترتدي الأسود هي الفنانة سناء يونس- كانت صديقة مقربة من أمي وأبي- ويبدو أنهم نبهوا على الجميع ألا يلبسوا الأسود، لكن البكاء فضح الأمر، ولم أكن أريد- كطفلة- تصديق ما حدث، وفجأة وجدت أمي تصرخ قائلة: قتلوه". 
هكذا قالت الفنانة معتزة عبدالصبور، ابنة الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور، في أحد لقاءاتها الصحفية؛ لتعود الذاكرة إلى الليلة التي كان فيها عبدالصبور في منزل صديقه الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وحينها وجّه إليه نقدًا لاذعًا لقبول منصب رئيس الهيئة العامة للكتاب واستضافة إسرائيل في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وقال له "إنت بعت يا صلاح"، ليتسبب هذا الاتهام الحاد في نوبة قلبية حادة أودت بحياة عبدالصبور في اليوم التالي مباشرة.
استمرت هذه الحكاية في التداول، وانتشرت عبر السنوات، لكن حجازي الذي نفى هذا الكلام، بل والموقف كاملًا، واصفًا هذا المشهد بالكذب الصريح، مؤكدًا أن صلاح عبدالصبور لم يبع، وأن هذا الكلام تردد حينها مجُاملة للنظام الحاكم.