الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

"عمال التراحيل".. "المهنة على باب الله" معظمهم من محافظات الصعيد.. وشهرتهم "فواعلية" ليست لهم حرفة محددة.. وينتظرون أيامًا طويلة حتى يذوقوا "لقمة العيش"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يأتون من أقصى المحافظات بحثا عن الرزق، ينتظرون أياما قد تطول تحت لهيب الشمس فى انتظار الرزق، الذى قد يأتى فى صورة تكسير حوائط أو هدم غرفة، أو رفع مخلفات، أو توضيب حديقة منزل.. وينظرون إلى شيء أكثر من تلك الجنيهات التى ستأتى نظير مجهود شاق، يفرحون بيومهم عسى أن يوفروا احتياجات أبنائهم الذين ينتظرون جنيهات تسد حاجاتهم.

الملايين من عمال التراحيل يفترشون الأرصفة وميادين المحافظات.. بلا حقوق أو تأمينات أو رعاية صحية.. الصحة رأس مالهم، وأدواتهم «فأس ومقطف».


ع الله، يا معين، حكاية كل يوم رزق.. «مش عاوز رجالة يا بيه، محسوبك عامل تراحيل وفى الخدمة»، جملة رنت فى أذنى على أحد الأرصفة التى يتراص عليها عشرات العمال الفواعلية فى انتظار الرزق، يلهثون خلف الجنيه، رجل بيه ومحترم وبنظارة سوداء ينظر من خلف زجاج سيارته ويشاور للبعض منهم بالركوب، مجموعة عمال يسرعون فى تلبية الأمر، ويسأل أحدهم: على فين يا بيه؟ هنشيل طوب، ولا هنكسر خرسانة ولا هنهد بيت؟ ولم يرد أبونظارة الذى انطلق فى صمت.

 مشهد يتكرر كل يوم، مطرقة وشاكوش وأجنة وأزميل، صور تدمى القلوب، هروب من الفقر، تضحية بالصحة مقابل المال، مفردات متناثرة عند تجميعها وترتيبها تتضح معالم صورة مأساوية لملايين من العمال فى مصر مهضومى الحقوق والرعاية، من الذين يذكرهم المسئولون فى تصريحاتهم بأنهم ضمن نسبة ٢٦٪ «تحت خط الفقر»، ربما يكونوا أبشع صورة للفقر نفسه، رغم توكلهم على الله وسعيهم «المضني» فى سبيل لقمة عيش تسد رمق أسرة وأطفال لا ذنب لهم غير العيش فى مجتمع «بلا قلب»

 ليست المرة الأولى وقد لا تكون الأخيرة التى نتناول فيها «مأساة» عمال التراحيل، قبل أن أخطو أى خطوة، استحضرت لحظات عشتها بنفسى منذ ما يزيد على ١٥ عامًا تقريبًا فى بداية عملى الصحفى مع تلك الفئة «المهمشة»، عندما استهوتنى فكرة معايشة بعض الذين «يتاجرون بصحتهم» من العمال فى مجال البناء والمقاولات، فلا رأس مال لديهم ولا حرفة أو شهادة جامعية يعملون بها، رأس مالهم «الصحة» فقط.


أن تشعر بالضغط العصبى الشديد والقلق من تحصيل لقمة العيش لأنك تخرج من بيتك «على الله» حاملًا «مطرقة وشاكوش وأجنة وأزاميل»، ولا تعلم إذا كنت ستعود بما يحتاجه بيتك وأفراد أسرتك من مأكل ومشرب، أو سترجع إليهم بخفى حنين كما يقول المثل العربى الشهير، فهذا شيء مرعب، وربما لا يخفف هذا الضغط إلا الإيمان واليقين بأن الزرق مقدر لكل إنسان وما عليك غير السعي، كان اتفاقى وقتها مع شخص «مكافح» أعرفه وكان خريج إحدى الكليات، يدعى محمود أبورحمة الشهير بـ«القمة»، معروف عنه أنه يعمل «فى الفاعل» فى بعض الأحيان عندما تسد أمامه أبواب الرزق، حيث لم يحصل على وظيفة ثابتة «ومقضيها شوية فى مطعم وشوية ينتظر مساعدة والده»، وطلبت منه أن يصطحبنى معه فى أى «شغلانة» قريبة بحجة أنى أمر بضائقة مالية وأريد أن أشترى لنفسى بعض الأشياء ومرتبى لا يكفي.


مرت أيام إلى أن وجدته يمر عليّ فى البيت ويخبرنى أنه فى الغد سيعمل فى «مقاولة» صغيرة فى إحدى المناطق المجاورة وهى رفع كمية من الرمال إلى الدور الثالث فى إحدى البنايات الجديدة التى يتم تشطيبها، واتفقنا على مكان اللقاء والموعد والأجر الذى كان وقتها ١٥ جنيهًا، لأنى مستجد وليس عندى خبرة كافية تجعلنى أقوم بنفس الجهد الذى سيقوم به هو، كما شرح لى أنه فى الوقت الذى سيرفع هو «شيكارتين» سأرفع أنا واحدة بالكاد، وهو ما حدث بالفعل.

بدأت المهمة وهممت برفع أو حمولة على كتفى وزنها فى حدود ١٥- ٢٠ كيلو، كدت أسقط بها أرضًا لولا أنى تحاملت وقررت أن أثبت له أن عزيمتى وإصرارى ستغلب ضعف قوتى وقلة خبرتي، فبنيان جسدى لم يكن مؤهلًا لتلك المهمة العنيفة، وبالفعل ساعدنى فى رفع أول «شيكارة» على كتفى وتحركت نحو السلم أجر قدماى واستند على الحائط حتى لا أقع على الأرض، فأخسر المهمة والتجربة وأتعرض للسخرية، لكنى كنت خلال دقائق معدودة منذ أن خطوت أول درجة حتى نزلت أنها «أول وآخر شيكارة» قد أخذت قرارى بالانسحاب، فليس لدى استعداد أن أصاب بأى شيء غير متوقع، لأنى أدركت أن تلك المهنة الشاقة لها أصول وقواعد وتحتاج لتدريب وبناء جسدى ملائم لا يتوفر لدي.