الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مصابيح في دائرة الظل "2".. نظمي لوقا جرجس

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا نكاد نلمح من بين الفلاسفة الغربيين من هو أعمق من الفيلسوف الإنجليزى جون لوك (١٦٣٢ – ١٧٠٤ م) فى ربطه بين الحقيقة النسقية- التى تؤكدها التجربة المباشرة ولا يعيبها الإضراب والتناقض، والتسامح- باعتباره الدرب المعرفى الأخلاقى للوصول لليقين-، والعقلانية والموضوعية والحدس الواعى غير المتحيز، وقوة الإيمان المستمد من قناعات الأنا بأن الله محبة، وأن شرائعه هداية وتهذيب وإفشاء للسلام وتراحم بين الناس.
أما فى ثقافتنا المصرية المعاصرة فلا يمكننا تجاهل الفيلسوف نظمى لوقا سفير المحبة الأرثوذكسية فى الفكر الإسلامى المعاصر. ذلك المصباح الذى يجب علينا إخراجه من دائرة الظل ووضعه فى ذروة ثقافتنا التى أعياها العنف وضللها الجاهلون وأقعدها عن المصالحة بين الدين والعلم فباتت بين كفى الرحى التعصب والارتياب. 
هو الأديب والشاعر والفيلسوف المصرى نظمى لوقا جرجس (١٩٢٠-١٩٨٧ م)، وُلد بدمنهور فى كنف عائلة مسيحية أرثوذكسية، نشأ نشأة دينية، وفى صباه تردد على مساجد مدينة السويس وجلس فى حلقات العلم لاستيعاب التراث العربى الإسلامى فحفظ القرآن فى التاسعة من عمره والعديد من الأحاديث، رغبة منه فى التعرف على الدين الإسلامى عن قرب. ومع ذلك لم يترك المسيحية لأنه أدرك أن ليس هناك فارقًا بين الشريعتين من حيث الجوهر وثوابت المعتقدات والمقاصد والغايات. وقد أتم دراسته الثانوية فى الإسكندرية ثم انتقل للقاهرة فالتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة وتخرج فيها عام ١٩٤٠م. ولعل عشقه للدراسات النفسية والاجتماعية والفلسفية هو الذى مكنه من الوصول إلى هذه الحقيقة فقد درب ذهنه على استيعاب الأفكار المتباينة والربط بينها فى نسقية تزيل ما يعتليها من اضطراب وتناقض، كما أدرك أن دراسة اللاهوت المسيحى عن طريق دروس الأحد التقليدية لا يوصل الذهن إلى اليقين الإيماني، بل البحث عن الحقيقة الروحية بمنأى عن الجمود والتعصب، ومن أشهر أقواله فى هذا السياق: «لئن كنت أنصفت الإسلام ـ فى كتاباتى فليس ذلك من منطلق التخلى عن مسيحيتى بل من منطلق الإخلاص لها والتمسك بجوهرها وأخلاقياتها»... «وإذا كان جوهر جميع الأديان السماوية هو التوحيد؛ فإن القرآن الكريم لا يدع شائبة من ريب فى مسألة وحدانية الله، وقد أفصح عن ذلك فى سورة الإخلاص التى عبرت عن جوهر الله الأحد الفرد الصمد»، الأمر الذى لا يتعارض مع حقيقة المسيحية فـ «لم يرد على لسان المسيح فى أقواله الواردة فى بشارات حوارييه (الأناجيل) إشارة إلى ألوهية المسيح، بل كان يدعو نفسه على الدوام (بابن الإنسان)، وأما البنوة لله عز وجل فما ورد لها ذكر إلا على سبيل المجاز المطلق وبمعنى يشمل البشر كافة، حين أوصى أن تكون صلاة الناس إلى الله بادئة بقولهم: (يا أبانا الذى فى السماء)». وقد أراد بذلك التأويل نفى تهمة الشرك التى ألصقها الجهلاء بالمسيحية أولئك الذين زعموا أن المسيحيين يعبدون ثلاثة أقانين ويعتقدون بأن المسيح ابن الله على شاكلة البشر: «لا بد من رد الناس إلى بساطة الاعتقاد، ولا بد من نفى اللبس وشوائب الريب عن العقيدة المسيحية، وهو التوحيد مطلق التوحيد»... «الدين لسواد الناس وما كان الدين للمجادلة الذهنية. وإنما هو نبراس الهداية للكافة»، ويضيف «لا بد للدين أن يثبت قلوب الناس بالطمأنينة إلى عناية الله بالخلق، وإلى قدرته، وإلى سلطانه المطلق على الكون كله، فقرر القرآن فى عزم وحسم أن (الله خالق كل شيء)، (وكان الله على كل شيء قديرا)». كما ناشد المسلمين وذكرهم بأن العقيدة الإسلامية تنأى عن التعصب والعنف أو إيذاء المخالفين، وانطلاقًا من ذلك فهى لا تضمر الشر إلى أحد وتوأمن الجيران وتآخى بين جميع البشر ولا تفاضل بينهم إلا بالتقوى. 
حصل على الدكتوراه فى الفلسفة وعمل مدرسًا فى معهد المعلمين بالقاهرة، ثم كلية الآداب جامعة عين شمس. وراح يرغب تلاميذه فى دراسة الفلسفة باعتبارها طوق النجاة من الخرافة والنزعات الإلحادية والنظريات المادية، ومن أقواله فى هذا السياق: «البحث الموضوعى فى نشاط العقل لا بد أن يوصلنا إلى حتمية وجود الألوهية، وذلك لأن للعقل أعداء كثيرون من الجنسيين والماديين». 
أما عشقه للرسول -صلى الله عليه وسلم- فذلك من الأمور التى كانت سببا مباشرا فى شهرته وذيوع أخباره، إذ كتب عام ١٩٥٩م كتابًا بعنوان (محمد الرسالة والرسول)، صرح فى مقدمته بتلك الرابطة الروحية التى ربطت بينه وسيرة المصطفى منذ صباه، وأنه لم يمدح النبى ولم يثن على دينه تملقًا أو مداهنة، بل لعظم رسالته المتممة لمكارم الأخلاق، مؤكدا أن أصول النقد والإنصاف تقضى بإعطاء كل ذى حق حقه من أهل الفضل والبر والإحسان، فيقول: «لست أنكر أن بواعث كثيرة فى صباى قربت بينى وبين هذا الرسول، وليس فى نيتى أن أنكر هذا الحب أو أتنكر له، بل إنى لأشرف به وأحمد له بوادره وعقباه».
ولم تقف كتابات نظمى لوقا عند هذا الحد، بل تخطت ذلك إلى الدفاع عن الإسلام ضد هجمات غلاة المستشرقين والمتعصبين.
ظل طيلة حياته مؤمنا بأن جبلة الشعب المصرى تختلف عن سائر الشعوب من حيث التسامح الخلقي، وطيبة الطباع، وميله للألفة والعشرة والتعاون والتعاطف، وعزوفه عن العنف والشجار وغلظة القلب، أضف إلى ذلك شخصية المصرى المرحة وتفاؤله الدائم وسخريته من الأحداث، وإبداعه لفلسفة الممكن التى تحوّل كل الصعوبات بل والمستحيلات إلى إبداعات ومبتكرات؛ لذلك كله كان نظمى لوقا دائم تحذير المصريين من الفتن والمؤامرات التى ترمى إلى الإيقاع بين المسلمين والمسيحيين وإفساد ما بينهم من مودة وحب وتراحم، وقد سخّر قلمه لتنبيه العقول وإرشاد الأذهان لخطر الفتنة الطائفية على المجتمع المصري.
وحسبى أن أهمس فى أذن أولئك الذين يغرسون بذور الفرقة والفتن فى أحاديثهم التليفزيونية وكتاباتهم الصحفية من المتعصبين الذين لا يقدرون مسئولية الكلمة، ولا سيما فى ميدان العاطفة الدينية، أقول لهم انصتوا واستوعبوا رسالة هذا الفيلسوف، ثم قلدوه وسام المحبة العاقلة.. ولسير الأعلام بقية..