الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"القلق".. والحنين إلى الاستقرار

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
القلق بوجه عام إحساس بالضيق والاضطراب يصاحبه بعض الألم وله درجتان، درجة الانزعاج وعدم الرضا، ودرجة الجزع والكرب، ويرى علماء النفس أن القلق استعداد تلقائى للنفس يجعلها غير راضية بالواقع، فإذا تطلع المرء إلى الأحسن والأفضل ونظر إلى حياته الواقعية، فوجدها محفوفة بالمخاطر والصعاب، بعيدة عن تحقيق ما يصبو إليه من الكمال والسعادة، أحس بالقلق والغم والكرب والضيق وأحيانًا بالضجر من هذه الحياة، وما القلق الذى يشعر به المرء، فى هذه الحالة، إلا حنين نفس مستغيثة تنشد الاستقرار فلا تحصل عليه، وتطلب الطمأنينة فلا تجدها إلا فى الإيمان بالله كقول القديس «أوغسطين»: «يارب لقد خُلقت من أجلك وسأظل ما حييت قلقًا حتى أستقر فيك». وقد يشتد القلق حتى يصبح مرضًا، كما فى نفوس أصحاب الوساوس الذين تغلب عليهم النظرة السوداوية وتستحوذ على عقولهم التصورات المؤلمة التى لا سبيل إلى دفعها.
ولا شك أن موضوع «القلق» من الموضوعات الرئيسية التى يدرسها علم النفس الآن، فقد أصبحت سيكولوجيا القلق فى وقتنا الحاضر تلعب دورًا رئيسًا فريدًا فى مجال الطب العقلى فقط، حيث توجد أشكال عديدة من عُصاب القلق، بل أيضًا فى أشكال أقل حدة حتى أصبح القلق هو الانفعال السائد فى الحياة؛ بل لقد أصبح القلق ظاهرة أساسية نسعى إلى حل ألغازها فى سيكولوجيا الدين والتحليل النفسى والفلسفة الوجودية.
ويتفق الفلاسفة جميعًا على أن «القلق» يكشف بطريقة خاصة عن الوضع الإنسانى، أى أنه الطريقة الأساسية التى يجد بها المرء نفسه، ولا شك أن النظر إلى القلق على أنه مفتاح أساسى لفهم الوجود البشرى ينطوى ضمنًا على الرؤية الوجودية للوجدان أو المشاعر، وسوف تفيدنا مناقشة القلق كمثال لتوضيح التفسير الوجودى للمشاعر بصفة عامة.
وحين نتحدث عن «القلق» فإننا لا نتحدث عنه كمفهوم عقلى أو تصور ذهنى، بل بوصفه خبرة معاشة أو عاطفة وجودية – كما ذكرنا – تكشف لنا عما فى نسيج وجودنا من «هم» وتضعنا وجهًا لوجه بإزاء ذلك العدم الأصلى، الذى يكمن من وراء وجودنا، فالقلق هو أسلوب خاص يتضح للموجود البشرى من خلال عدم جدوى الموضوعات الخارجية وتفاهة شىء من الأشياء الكائنة فى العالم، معنى هذا، أن القلق هو الذى يصرفنا عن عالم الموضوعات لكى يردنا إلى العنصر الأصلى فى وجودنا، ألا وهو تلك الإمكانات التى نصبو إليها وتتطلب التحقيق.
وهنا يرى بعض المفكرين، أن «الموجود البشرى» فى حالة القلق يهرب من ذاته، فهو قد يفقد نفسه فى وجود غير أصيل مع الآخر وهو ما يسمى بالـ«هم» They، أو فى الانشغال والاهتمام بشئون عالم الحياة اليومية، ومع ذلك فإن فرار المرء من ذاته يوحى هو نفسه بأن الموجود البشرى قد يواجه نفسه بالفعل بطريقة ما، وهذا الفرار من الذات يختلف عن الفرار الناشئ عن «الخوف»، فالخوف هو دائمًا خوف من شىء محدد داخل العالم، لكن الفرار الذى نحن بصدده الآن، هو فرار المرء من نفسه أى من وجوده – فى – العالم. لذلك فإن ما يشعر المرء إزاءه بالقلق هو شىء غير متعين تمامًا، وهذا اللا تعيين لا يحدد واقعيًا ما هو الشىء الذى يهدد وجودنا داخل العالم، ونشعر تجاهه بالقلق.
بعبارة أخرى حينما يتملكنا الشعور بالقلق، فإن ما نرتعد له ليس هو «هذا الشىء أو ذاك» بل نحن نجد أنفسنا بإزاء تهديد عام موجود فى كل مكان، دون أن يكون فى أى مكان، فما يولد فى أنفسنا «القلق» هو «لا شىء» أو هو غير موجود فى أى مكان، ولكنه فى الوقت نفسه حقيقة تشيع فى أنفسنا ضربًا من التيقظ العميق وتجعلنا نشعر بالضيق.
إن القلق يجعل الإنسان وجهًا لوجه أمام وجوده الحر من أجل الكشف عن أصالة هذا الوجود، ونحن نستطيع فى وجودنا اليومى فى العالم، وأيضًا وجودنا مع الآخرين أن نهدئ من أنفسنا ونهرب من وضعنا المتأزم؛ لكن القلق يقذف بنا خارج هذا الأمان المزيف ويجعلنا نشعر بـ «الاضطراب» وبأننا لسنا فى بيتنا، وهناك ازدواج عميق فى معنى الحرية المحتومة على الإنسان، فالإنسان محكوم عليه أن يكون حرًا، والقلق هو بالضبط وعيى أنا بأن وجودى المقبل على نمط اللاوجود، وهذا هو القلق إزاء المستقبل وهناك قلق يناظره بإزاء الماضى، إنه قلق المقامر الذى قرر بحرية وصدق ألا يعود مرة أخرى، والذى يرى فجأة عندما يقترب من مائدة القمار أن جميع قراراته قد تبخرت، الحرية، إذن، ليست حرية بسيطة على الإطلاق، وإنما هى حرية يقيدها العدم، وفى ممارستى لهذه الحرية أخبر القلق، وفى استطاعتى أن أتجنب القلق بالالتجاء إلى أنماط الفعل المتعارف عليها أو المعايير المألوفة للقيمة.
وجميع هذه التحليلات للقلق نرى فيها مفتاحًا لفهم الوجود الإنسانى، وينكشف هذا الوجود بوصفه ينطوى أساسًا على مفارقة إن لم يكن عبثًا، فهناك توتر فى قلب الوجود البشرى لا يُحل بين الحرية وممكناتها من ناحية؛ والتناهى وقيوده وتهديده بالدمار من ناحية أخرى، ويقول لنا هؤلاء المفكرون، إننا ما لم نواجه هذه السمة الأساسية اللا معقولة للوجود البشرى، فإننا نهرب من حقيقة وجودنا الخاص.