الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: شخصية العاهرة في الأدب المصري الضرورة والإدانة "12"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يوسف القعيد يرصد رحلة سقوط جامعية فى «أربع وعشرون ساعة فقط»

مفتشة آثار تحترف الدعارة والقوادة.. بمشاركة الزوج

إلى قرب نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، كانت الدعارة العلنية قائمة فى مصر، ثم صدر القرار بإلغاء الدروب والبيوت المرخص لها بممارسة النشاط غير الأخلاقي، الذى يصطدم مع الثوابت الدينية والاجتماعية، وهو ما قوبل بالتهليل والإعجاب والتصفيق والإشادة، لكن النتيجة العملية لم تكن على النحو الذى يتوهمه المؤيدون المتحمسون، ذلك أن الدعارة السرية، غير الخاضعة للإشراف الحكومى والرقابة الطبية، تنتشر وتتوحش، وليس مثل النص الأدبى فى قدرته على التعبير عن مسيرة الدعارة وشخصية العاهرة فى مراحل مختلفة من التاريخ المصرى الحديث، فهو يعيد إنتاج الواقع ويسلط الضوء الساطع الكاشف على أسراره وخباياه. تتوقف الدراسة التى تُنشر فصولها تباعًا عند شخصية العاهرة فى إبداع: يحيى حقي، نجيب محفوظ، عبدالرحمن الشرقاوي، رفعت السعيد، بهاء طاهر، رفعت الفرنواني، علاء الديب، إسماعيل ولى الدين، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، عمرو عبدالسميع، علاء الأسواني. فى التواصل مع نصوص هؤلاء ما يكشف عن تشابك الخطوط فى الظاهرة المعقدة، ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. الدفاع عن الدعارة والعاهرات ليس مطروحًا أو ممكنًا بطبيعة الحال.


نجم الدين النجومى وزوجته محروسة عبدالحى الحلوانى، فى رواية «أربع وعشرون ساعة فقط»، ربا أسرة مصرية تنتمى إلى الطبقة الوسطى، قبل أن تتآكل وتنقرض، قوامها سبعة من البنين والبنات، مختلفى الحظوظ والمصائر. ترحال لا يتوقف بين مدن مصر المختلفة، جراء عمل نجم الدين محضرًا فى المحاكم، والقاهرة هى المحطة الأخيرة فى رحلته الوظيفية، حيث يقيم فى منيل الروضة، قبل التقاعد والعودة إلى القرية الأم على مشارف العاصمة. يموت الأب قبل أن تبدأ أحداث اليوم الروائى بعشر سنوات، وتقيم الأرملة محروسة وحيدة حتى يقع الزلزال يوم الاثنين الثانى عشر من أكتوبر سنة ١٩٩٢، وعندئذ تغادر إلى القاهرة للاطمئنان على أبنائها. حيوات تعيسة حافلة بالإحباط وصانعة للصدمات، لكن المسار الذى تتخذه نادرة هو الأكثر قسوة، وأى شيء يفوق أن تحترف الجامعية مهنة الدعارة والقوادة، بمشاركة الزوج الذى يدير العمل؟

أحلام الماضي

للابنة نادرة خصوصيتها ومكانتها المتفردة فى قلب الأب، فهى التى تحقق ما يراوده وتحصل على الشهادة الجامعية المرموقة: «يوم أن حصلت عليها. كانوا أسعد ناس فى الحى وفى المنطقة. وربما فى بر مصر. كان أبوها يعاير إخواتها - الصبيان قبل البنات - بها. يقول لهم إن البنت فعلت ما لم يقم به الرجال».

منذ اليوم الأول لالتحاق نادرة بكلية الآثار، يتطلع نجم الدين إلى اليوم الذى تحصل فيه على الشهادة الجامعية ذات القيمة الاجتماعية الرفيعة، ويتفانى فى العطاء بغية تحقيق الحلم: «ينام ويحلم بيوم تخرجها. كان يصحو من النوم ويقول إنه رأى فى المنام رئيس الجامعة أو وزير التعليم العالى وفوقهم رئيس الجمهورية، وهو يصافح نادرة».

بعد التخرج، تعمل نادرة مفتشة آثار فى منطقة عين شمس، وتفرض على أسرتها زواجًا مباغتًا لا يروق لهم ولا يخضع للأعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة: «فرضت عليهم العريس كرهًا وغصبًا وبالعافية».

منذ البدء، تشعر محروسة بغياب الارتياح تجاه عريس ابنتها، الذى يهبط على البيت بلا موعد سابق، مسلحًا بقدر كبير من الغلظة والفجاجة، محاطا بالغموض الذى يدفع إلى الشك والريبة: «كانت تفتش عن إحساسها نحوه. لم تحبه. لكنها أيضًا لم تكرهه. وأبوها قال لها إنه غير مطمئن له. وإخواتها قالوا: ماشى الحال. هى التى ستتزوجه. وهى التى ستسعد به أو يتعسها». 

الكذب الفج الصريح مشترك بين نادرة وعريسها الذى تناديه باسم فؤاد، واسمه الحقيقى تهامى الأسود. الابنة المراوغة تخفى الكثير، وتقدم معلومات مغلوطة عن عمل العريس وأوضاعه المادية وأسرته: «عن عمله قالت إنه ضابط فى جهاز حساس لا يحب أن يصرح به. قالت أمها لنفسها، البنت تقول هذا الكلام حتى نخاف من مجرد جلوسه فى الصالون. عن الغنى والمال قالت: إن ما معه يكفيه وأكثر. عن الأهل والحسب والنسب فهى لا تحب أن تخض أسرتها. لأن طاسة الخضة لم تعد قادرة على علاج خضات جديدة». 

الافتعال المصنوع الساذج لا يخفى ويسهل اكتشاف ما فيه من كذب وتضليل، أما المبالغة فى الإشادة بالأسرة الوهمية فإنها تنهض دليلًا على التلفيق الذى يهدف إلى فرض الزيجة التى يحرص طرفاها على التعجيل بها. المعلومات المضادة تكشف عن جبل من الخداع والغش، يزداد معه الغموض وتتضاعف الشكوك: «عادوا بمعلومات متناقضة. بعضها يصعد به إلى عنان السماء السابعة. وبعضها الآخر ينزل به إلى ما تحت الأرض السابعة.

البعض قال ضابط كبير. ولكن فى الناحية الأخرى قيل إنه لص محترف. قيل: إن فى يده ثلاث شغلانات. هناك من أكد أنه بدون عمل، وأنه يجرى وراء نادرة طمعًا فى مرتبها. حتى ينام فى البيت، وهى تجرى عليه. عاد من يقول إنه من أسرة كبيرة أخذت الحكومة أموالها، وأن والده - سمع أحد الأبناء - يعمل كناسا فى الشوارع. وأن البدلة التى جاء بها إلينا بدلة وحيدة. وحذاء وحيد وقميص لا ثانى لهما ورابطة عنق لا يوجد عنده غيرها. عدة شغل يلبسها يوميًا بعد الظهر، من أجل النصب على عباد الله». 

نادرة وعريسها يحترفان الكذب الغبى الذى يسهل اكتشافه لفرط ما فيه من تناقض، وبالزواج تبتعد نادرة عن أسرتها وتمارس سلوكًا غريبًا صادمًا تحيط الأم محروسة ببعض تفاصيله: «الذى كان يفزع أولادى بعد كل زيارة لنادرة أنها غسلت لسانها مما تعلمته وحفظته وذاكرته، ونجحت فيه وحصلت به على الشهادة. آخر من زارها من إخواتها، قال: إنها شالت البرواز الذى كانت توجد فيه الشهادة الكبيرة التى حصلت عليها من فوق الحائط. وكان والدها قد بروزها لها هدية منه، وطلب منها أن تعلقها فى أعز مكان من شقتها»

بفعل الزلزال وما يصاحبه من قلق، تندفع الأم العجوز لمغامرة زيارة القاهرة بغية الاطمئنان على أبنائها، وعندما تصل إلى شقة نادرة تهيمن الريبة مبكرًا، ويبدو واضحًا أن صدمة مروعة تنتظر محروسة. تضرب الجرس سبع مرات، وتتذكر أنها لا تقوم بزيارات مماثلة إلا بموعد سابق كما يصر الزوج، لكن: أى موعد يمكن تحديده فى يوم هول كهذا؟: «شعرت أن هناك أعين تنظر من العين السحرية التى فى الباب. وهذا تكرر أكثر من مرة. سمعت أصوات أقدام تقترب من الباب ثم تبتعد عنه. هرج ومرج وكلام بصوت منخفض».

أى أسرار مخبوءة تستدعى الحذر وتدفع نادرة وزوجها إلى التريث والإهمال الطويل للأم؟ وما الذى يحرصان على كتمانه والتستر عليه. تتهيأ محروسة للانصراف، وعندئذ يُفتح الباب وتظهر نادرة، فاتحة ذراعيها بطريقة تمثيلية لترحيب فاتر.


الصدمة المروعة

توحى معالم الشقة بتحول مريب لا يقتصر على فتور الاستقبال الأقرب إلى الكراهية، لكنه يمتد أيضًا إلى ما ترصده محروسة من هيمنة الأضواء الحمراء: «شقة كالكهف المضاء باللون الأحمر. لون الدم. وبين قطرة الدم والقطرة الأخرى مساحات من الظلام».

مثل هذه الإضاءة المثيرة غير التقليدية تليق بالملاهى الليلية، ولا تتوافق مع طبيعة الأسر المصرية العاملة متوسطة الحال. بعد الصدمة الأولى هذه، تستقبل الأم المضطربة صدمة أخرى: استقالة نادرة من وظيفتها، والأسباب المعلنة هشة متهافتة: «إن تربية الأولاد أبقى وأحسن من الجرى وراء الشغل، وترك الأولاد فى الحضانة، حيث يعود الطفل محملًا بعدد من الأمراض التى انتقلت له من الحضانة».

قرار غير منطقى فى زمن يعز فيه العثور على عمل، والمعلن من الأسباب ليس صحيحًا مقنعًا بطبيعة الحال. المشهد فى جملته مريب، يوحى بالانهيار الذى تظهر علاماته سريعًا: «جلست فى الصالة، كانت كل الغرف مغلقة، ولكن ثمة أنوارًا تأتى من داخل الغرف، تطل من تحت أبوابها، وكما شاهدت الأضواء القادمة من وراء الأبواب المغلقة، فقد سمعت بأذنيها صوت همسات ووشوشات آتية من الغرف المغلقة».

التفسير الذى تقدمه نادرة لا يقنع طفلًا، فأى «ضيوف» هؤلاء الذين ينفردون فى الغرف مغلقة الأبواب، ولا يجالسون مضيفيهم؟ تلوذ نادرة بالأكاذيب الساذجة، ثم يعلو من الداخل صوت أحد السكارى فيبدأ اكتشاف الحقيقة المروعة، وسرعان ما يظهر رجل غريب يتجه إلى الابنة: «قال لها بنصف لسان، وهو يوشك أن يتطوح فى الهواء القليل الذى حوله، إنه يريد الكلام معها فى موضوع خصوصي».

رجل غريب موغل فى السكر، وأسلوبه فى التعامل مع نادرة ينم عن اعتيادية وألفة كأنه صديق حميم مقرب. يشدها بقوة دون ذرة من الشعور بالحرج، ولا ينشغل بوجود الأم، وتكشف كلماته عن طبيعة الشقة، وما يدور فيها: «إنه لا يحضر إلى البيت إلا من أجل أن يتجالس معها لوحدهما فى غرفة مغلقة».

ما تراه محروسة لا يحتاج براعة للكشف عن الدلالات المرعبة، وثورة نادرة على الرجل وصفعه لا تغير شيئًا من الحقيقة، أما الزوج القواد فيقدم مشهدًا تمثيليًا ركيكًا يضيف إلى اللوحة الصادمة غرابة أقرب إلى الكوميديا السوداء: «دخل زوجها تهامى الأسود فى هذه اللحظة، منعه وثار فى وجهه، وقال لحماته التى أوشك قلبها أن يتوقف، إنه كان يختبر أمانة زوجته وحفاظها على شرفها، وإنها لو وافقت على الدخول إلى الغرفة معه بمفردها، والكلام معه، دون حضور رجلها، حتى لو تركت الباب مواربًا، لطلقها فى التو واللحظة».

تمثيلية ركيكة هزيلة، ويأبى السكير المخدوع المهان إلا أن يبادر بإعلان الحقيقة الفاضحة بعد أن يفيق من السكر: «طلب استرداد فلوسه التى دفعها فى أول الليلة السوداء. تهامى سأله:

- أى فلوس يا فاجر؟!

رد عليه:

- التى تؤجر بها الغرفة بالساعة».

ليس إلا بيتًا للدعارة، وتجمع نادرة بين عملى العاهرة والقوادة بمشاركة الزوج القواد الذى يدير المكان. السكير الساخط حلاق يواظب على الاستمتاع فى شقة نادرة يوم إجازته الأسبوعية: «يدفع فى الساعة الواحدة خمسين جنيهًا. مبلغ كبير أليس كذلك؟! فهو لا يملك مكانًا، إن كانت معه امرأة يحضرها، وإن لم تكن معه امرأة فالست المحترمة - بنت الأصول - نادرة.. جاهزة.

قال هذا وأشار إلى ابنتها نادرة»!

الفضيحة غير قابلة للكتمان أو الإنكار، وطوفان الأكاذيب لا يصمد أمام الحقائق المرعبة التى تكتمل بخروج «الضيوف» الآخرين من الغرفة المغلقة: «خرج منها أربعة مرة واحدة، رجلان وامرأتان. كانوا بملابس شبه داخلية، كانوا يسألون عن دورة المياه.. أين هي؟ والمطبخ كيف الذهاب إليه؟ وكيف يمكنهم صنع فنجان شاي أو عمل فنجان من القهوة؟ وأين يجدون كأسًا من الويسكى أو شوبًا من البيرة؟ كانوا يتكلمون بألفة. وإحدى المرأتين الخارجتين من الغرفة كانت تقول لنادرة: «نانو».

الزلزال الذى يصيب مصر متعدد الأبعاد، والانهيار الذى يطول قطاعًا كبيرًا من المصريين ليس فى جوهره إلا زلزال اجتماعى مدمر، تتلاشى معه منظومة القيم القديمة ويتشكل واقعًا جديدًا صادمًا، تشهد عليه مصائر أبناء نجم الدين ومحروسة. كلهم فاشل مهزوم مأزوم على نحو ما، والذروة فى نادرة التى يواصل الحلاق الساخط فضحها والتشهير بها بلا رحمة: «إن الشقة إما تؤجر للقمار أو لعرض أفلام المزاج. عاد وقال: السكس. يبدو أنه قرر الانتقام. ضحكوا عليه، وقال لأجعل عاليها سافلها، أن يهد البيت على من فيه، ثم عاد ووصف نادرة بأنها جدعة وشهمة، ولم تقصر فى القيام بالواجب. التقصير اليوم بسبب وجود الحاجة، إن كان صحيحًا إنها أمها، طبيعة العلاقة مع البيت ورجله - أو الذى من المفترض أنه رجله - لا تجعله يصدق».

العاهرة نادرة، وزوجها القواد تهامى الأسود، الذى يبدو فى عينى الأم نموذجا للقواد التقليدى الذى تسمع عنه وتراه فى الأفلام، فليس من المنطقى أن تعرف أمثاله بشكل مباشر: «كان يلبس جلابية بيضاء، وفى يده سبحة، وفى قدميه بلغة، ألا يبدو هكذا الذين يعملون فى الكار؟! رنت فى ذهنها كلمة واحدة: قواد. انسالت الكلمات من وعيها، «معرَّص»، رجل يسهَّل المتعة للآخرين. تساءلت بصوت عالٍ: أين بوليس الآداب ليقبض على الجميع؟ وهى مستعدة للذهاب معهم كشاهد إثبات».

لماذا تتزوج مفتشة الآثار، بطلة أحلام أبيها، قوادا كهذا؟ كيف ترضخ للتحول على هذا النحو المشين الذى لا يمكن استيعابه وفهمه؟ متى تبدأ رحلتها فى السقوط، عاهرة وقوادة ومسئولة عن إدارة شقة الزوجية كوكر للدعارة؟ لا تتاح لنادرة فرصة أن تتحدث وتبوح، ومن هنا تغيب رؤيتها وشهادتها لتبرير وتفسير ما يستحيل تبريره وتفسيره، لكن الأمر بالضرورة يتجاوزها ولا يقتصر عليها، ذلك أن الزلزال شامل لا يرحم إلا القليل.