الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الاغتراب والواقع المعاصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يضعنا موضوع «الاغتراب»، للوهلة الأولى، وجهًا لوجه أمام الإنسان، لأنه يمس جانبًا من جوانب أزمته المعاصرة. فقد شعر الإنسان فى وقتنا الحاضر بأنه ضائع وبلا جذور، وأن المسافة بينه وبين غيره قد تباعدت، وأصبح ما يربطه بالآخرين هو المنفعة والمصالح الخاصة. ولم يعد هناك مكان للمبادئ العليا والقيم الإنسانية السامية، فمثل هذه الكلمات أصبحت شيئًا ينتمى إلى الماضى البعيد. فالإنسان أصبح منفصلًا انفصالًا لم يسبق له مثيل سواء عن الطبيعة أو المجتمع أو الدولة أو حتى نفسه، وأصبحت هذه الموضوعات تمثل بالنسبة له «آخر» لا سبيل إلى التواصل معه، وأصبح عاجزًا عن تحقيق ذاته ووجوده على نحو حقيقي. وهذا الانفصال عن «الآخر» والبعد عن الذات هو ما يسمى بـ «الاغتراب».
وقد استخدمت كلمة «الاغتراب» فى العصر الحديث على نطاق واسع لتشير إلى بعض الظواهر مثل «فقدان الذات» و«حالات القلق» و«اليأس» و«العجز» و«استلاب الشخصية» و«اقتلاع الجذور» و«اللامبالاة» و«الوحدة» و«فقدان المعنى» و«العزلة» و«التشاؤم» و«فقدان القيم والمعتقدات»... الخ. كل هذه الموضوعات الرئيسة ما زالت تعبر الآن عن وجود أزمة بالفعل فى حياة الإنسان المعاصر. و«الاغتراب» بوصفه حقيقة فعلية يمثل نوعًا من القطيعة أو الانفصال عن المجتمع، بمعنى انفصال الإنسان عن الأشياء المحيطة به سواء كانت هذه الأشياء أشخاصًا أو عالمًا طبيعيًا أو إبداعًا خاصًا فى الفن والعلوم المختلفة.
ويمثل «الاغتراب الذاتي» فى العصر الراهن الاغتراب الحقيقى والمأسوي، فليس من المستحيل أن يصبح الإنسان غريبًا عن ذاته أو غريبًا فى وطنه، لذلك يمثل الاغتراب عن الآخرين أصعب أنواع الاغتراب من حيث تداخله مع عدد من الظواهر الأخرى التى ترتبط به والتى قد تكون سببًا مباشرًا فى وجوده. والحالة النفسية والعقلية للمغترب تتفاوت من حيث القوة والضعف، فقد يعنى مجرد السرحان أو الشرود الذهنى الذى ينشأ نتيجة اهتمام الإنسان بأمور معينة يبعده عن ذاته، وقد يعنى أيضًا فقدان الحس وغياب الوعى (كما هو الحال فى الصرع)، وقد يعبر أيضًا عن حالات الخبل والجنون. فالشخص المغترب - وفقًا لهذا المعنى - هو من اغترب عن عقله، وهذا المعنى أيضًا الذى يدل على الاضطراب النفسى والعقلى يُستخدم عادة فى الأدب القديم.
ويؤدى الاغتراب النفسى إلى عزلة الفرد وبعده عن المجتمع أو تجاهله وأحيانًا يصل إلى درجة العداء الشديد لهذا المجتمع والرفض لمعاييره الدينية والاجتماعية. وهذا يتحقق إما عن طريق اعتزال الناس والتوحد والتفرد وما يصاحب ذلك من قلق واضطراب وحيرة، أو عن طريق اختيار مجموعة من الأفكار تتعارض مع الأفكار السائدة فى المجتمع، وهى دائمًا تتعلق بالمعتقدات المألوفة.
وتظهر فكرة الاغتراب كذلك فى كتابات الوجوديين حيث تضيف بعدًا آخر يلقى الضوء على أزمة الإنسان وشعوره بالعزلة فى عالمه وفقدان ذاته ووجوده الأصيل. وقد عبر الاغتراب عند الفيلسوف الألمانى «هيجل» عن أزمة الإنسان من خلال مذهب فلسفى يناظر العملية الجدلية للعقل الكلى. أما «ماركس» فقد بحث عن حل لهذه الأزمة عن طريق تغيير ثورى للأحوال الاقتصادية يمكن أن يؤدى إلى انسجام كامل بين الإنسان وعمله. وقد كان هذا الحل المفترض (عند هيجل وماركس) للتغلب على حقيقة الاغتراب سببًا فى ظهور الفلسفة الوجودية حيث رأت فيه حلًا عقيمًا لم يثبت فاعليته بل - على العكس - زاد من عملية الاغتراب. فمن ناحية، ابتلعت عملية شمولية عالم الروح عند هيجل شخصية الفرد وذاتيته. ومن ناحية أخرى جلبت ثورة ماركس البروليتارية ديكتاتورية الطبقة العاملة أو الحزب الواحد بما يقضى أيضًا على حرية الفرد.
لقد دافعت «الوجودية» عن الحرية الفردية والكرامة الإنسانية، وكانت نظرتها إلى الاغتراب على أنه ضرب من ضروب الوجود الزائف غير الأصيل الذى يسقط فيه الإنسان سقوطًا يفقد معه حريته وإنسانيته وجوهر وجوده. ومن هنا كانت الحرية عند الوجوديين مرتبطة بالاغتراب ارتباطًا وثيقًا، فهى لا تكون ولا تكشف عن معدنها الحقيقى إلا من خلال عملية قهر الاغتراب المستمرة.
واغتراب الموجود البشرى عن وجوده العميق يعنى أنه لا يكون ذاته وإنما هى مجرد نقطة فى بحر الوجود الجمعى للجماهير أو ترس فى نظام صناعى أو ما شئت من الأوصاف. ويمكن أن نجد مقارنة لهذا الاغتراب بالفكرة الدينية عن الخطيئة التى تعبر فى جوهرها عن الانفصال عن الله، حيث عبر «المفكر الوجودى كيركجور» عن وعى الإنسان بالخطيئة، ومن خلال هذا الوعى يضع ذاته وسط وجود جديد يتعلق بالخطيئة، بمعنى أن الإنسان يدرك ذاته بوصفه إنسانًا آخر على وعى بالانقسام العميق داخل ذاته، فالإنسان يقف وحده بسبب الخطيئة أمام الله. وقد رأى بعض اللاهوتيين المسيحيين تشابهًا ملحوظًا بالفعل بين الفكرتين. فمثلًا نجد «بول تليش» يستخدم الاغتراب الوجودى ليلقى الضوء على المفهوم التقليدى للخطيئة، على الرغم من أن الاغتراب، هو صورة واحدة من بين صور عديدة توجد ضمنًا فى فكرة الكتاب المقدس عن الخطيئة. هناك اختلاف ظاهر بين الفكرة الوجودية عن الاغتراب وفكرة الكتاب المقدس التى ترى أن الخطيئة هى «اغتراب عن الله»، أما الاغتراب الوجودى فهو اغتراب عن وجود الإنسان ذاته. لكن الوجودى غير المؤمن لن يرضى بالتوحيد بين الاغتراب والخطيئة بالمعنى الدينى التقليدي، أما الوجودى الذى يؤمن بهذا التوحيد (مثل كيركجور كما ذكرنا سلفًا) يؤمن بأن الإنسان يقف وحده (مغتربًا) بسبب الخطيئة أمام الله. ومع ذلك فحتى فى الفلسفة الوجودية غير الدينية، هناك شيء شبيه بالإحساس بوجود اغتراب كوني؛ أى إحساس الإنسان بأنه مغترب عن العالم، وهو ذلك الذى يتمثل فى عدم قدرته على التعرف على ذاته أو تحقيق وجوده.
وهكذا أصبح «الاغتراب» مصيرًا للإنسان فى هذا العالم، لكنه لا يمكنه أن يتغلب عليه إلا إذا أدرك حقيقته داخل ذاته وفهمها جيدًا. وعلى الرغم من رؤية بعض المفكرين للإنسان على أنه كائن سياسى أو كائن اجتماعى ينتج مجتمعه وهو نتاج له فى الوقت نفسه، فإنه لا يوجد خارجه فهو فى الواقع يشعر بالغربة داخل هذا المجتمع؛ بالإضافة أن ملايين من البشر أصبحوا يعانون من «الاغتراب» الاجتماعى الذى يتخذ صور اللامبالاة والعداء - أحيانًا - تجاه رفاقهم من البشر أو تجاه التنظيم الاجتماعي. وعلى هذا الأساس، تعبر كلمة «الاغتراب» عما يستشعره الإنسان من غربة كونية وما يحسه من زيف الحياة وعقمها، وما يلاحظه على علاقات الأفراد بعضهم البعض من سطحية واستغلال ولا إنسانية... إلى آخر هذه المظاهر التى تهدد وجود الإنسان.