رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مصابيح في دائرة الظل "1".. مارون عبود

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كثيرون أولئك التنويريين العرب الذين أضاءوا حياتنا العقلية فى شتى دروب الثقافة، ومع اعتراف بعضنا بفضلهم إلا أن معظمنا لم يعمل على إحياء رسالتهم، ولم يسر على ضربهم وتركناهم وحكمتهم فى دائرة الظل. نعم أهملناهم رغم احتياجنا لإرشاداتهم النابعة من وعيهم ودربتهم ودرايتهم بمعالجة العديد من المشكلات التى ما زالت تعيننا فى حياتنا المعاصرة.
أجل أنادى بإحياء سنن أهل الفضل من قادتنا، وأعلام نهضتنا الذين نجحوا فى إخراجنا من طور العزلة الحضارية والجمود والتعصب والتخلف فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر - ووضعونا على أول طريق المدنية الحافل بأنوار التسامح والحرية والفلسفة والعلم والعدالة الاجتماعية. غير أننا جنحنا عنه فعدنا أسوأ مما كنا عليه فتقدمنا إلى الخلف ندك بأيدينا كل ما بنيناه، ودفعتنا حماقتنا إلى تحطيم ثوابتنا وجميل أخلاقياتنا وجليل عوائدنا، فتمردنا على مشخصاتنا فزادنا ذلك انحطاطًا. ومن ثم كان لزامًا علينا إعادة البناء لانتقاء النافع من هويتنا لنحييه، وإحصاء الضار لنتخلص منه ومن طريقنا نخليه.
واليوم أحدثكم عن نموذج فريد فى ثقافتنا العربية، مفكر وأديب وشاعر جمع كل أزاهير الحب والمودة والتسامح من فوق قمم جبال الشام، وغرسها منمقة فى جل أقواله وكتاباته، ثم عصرها فأضحت ترياقًا شافيًا من الأحقاد والصراعات السياسية والفتن الطائفية - لمن يرتشفها - قابل خصومه بالود، وجابه قادحيه ومنكريه بجميل الرد، فاستحق وسام التسامح الذى لم ينله فى حياته بل نقدمه له اليوم وفاءً وبرًا واعترافًا بجميل لا يُنكر.
هو المعلم والصحفى والخطيب والناقد والمؤرخ «مارون حنا الخورى يوحنا عبود» (١٨٨٦-١٩٦٢م)، نشأ فى كنف أسرة مسيحية لبنانية متدينة غير أنه رغب عن دراسة اللاهوت وسجن ذهنه المتوقد بين تفاسير اصحاحات الكتاب المقدس، وراح ينهل من كل أروقة الأدب والفلسفة والعلم قدر طاقته. جمع فى أفكاره بين الأصالة والمعاصرة ورغب فى نقداته عن لغة الهجوم والشجب والطعن والقدح وفضّل عليها أسلوب الحوار والتقويم العلمى والحجج البرهانية والاقتراحات الإصلاحية الواقعية. أجاد السريانية وهضم فى صباه أمهات الكتب اللغوية والأدبية العربية. جمع الكثير من مآثر العرب ومناقب علمائهم وترجم عن الفرنسية العديد من أقوال الفلاسفة والمبدعين المستنيرين، ومن أقواله الناقدة للتقليد والمحفزة للتجديد «أخشى على كتابنا الناشئين من تأثير همنجواى وسارتر، فإنهم يضيعون فى فضائهما الغريب.. والأدب العربى عندى انعكاس لمظهر حياتي، فكيف يمكننا أن نوفق بين جونا الخاص وجو الغرباء عنا. وأخاف أن يصيبنا ما أصاب الغراب الذى حاول أن يقلد الحجل (وهو طائر يشبه السمان)، فما نجح بتقليده بل نسى مشيته»، ومن أقواله فى إصلاح التعليم «أشعر ويا للأسف أن التعليم صار واسطة بعد أن كان غاية... والدليل هذه الشهادات الغالية اسمًا الرخيصة فعلاً. كنا نتعلم لنعرف، واليوم يتعلمون ليحملوا شهادة، ويحصلوا على لقب علمي». حفظ المزامير وآمن بجوهر المسيحية، ولم يمنعه ذلك من الاستماع للقرآن مجّودًا ومرتلاً وتدبر آياته ومدح سنة النبى والإشادة بتعاليمه. اتخذ من الصحافة والتدريس فى المدارس والمعاهد سبيلاً لنشر فلسفته فى الوطنية والتسامح الملى بحرية البوح والتضامن الاجتماعي. وظل طيلة حياته مؤمنًا بأن المخالفين فى الفكر والعقيدة - وإن كانوا قلة - لهم نفس الحقوق التى ينعم بها الكثرة، وأن المواطنة لا ينبغى أن تؤسس على العصبية العرقية أو الحمية الدينية بل على الألفة والحب ووحدة العوائد والمنافع العامة وحسن الجوار؛ كما بيّن أن خطاب السماء لم يتنزل على البشر لشقائهم وغرس الأحقاد فى قلوبهم بل لإسعادهم وتراحمهم وإيمانهم بأن الله هو المحبة وأن رسله وإن تباينت كتبهم فإن مضمونها واحد ألا وهو حُسن المعاملة، وأن الإحسان مقدم على العمل بالأركان، وأن أجراس الكنائس، ومآذن الجوامع لا طائل منها إذا لم تفش السلام والرحمة ومكارم الأخلاق فى قلوب وسلوك وأعمال المنتمين إليها.
تأثر بـ(أفلاطون، والجاحظ، وأحمد فارس الشدياق، وأناتول فرنس) ومع ذلك كان له أسلوبه الرصين فى السرد ونهجه المتميز فى النقد الساخر والإصلاح، تشهد به مؤلفاته التى تجاوزت الستين. وليس أدل على تصالح الرجل مع نفسه من شهادة معاصريه الذين أكدوا أنه كان صاحب فلسفة يعيشها ويدافع عنها، وكان دائم التحذير من خطر الفتنة الطائفية على سوريا ولبنان، لذا لم يتحرج من أفراد عائلته الكهنة الذين أمضوا حياتهم فى خدمة الكنيسة المارونية من أن يسمى ابنه الأوسط محمد وابنته الصغرى فاطمة إجلالاً واحترامًا للنبى المصطفى، وإعلانًا عن بره واحترامه للشيعة بمختلف طوائفهم والدروز، وكأنه أراد أن يجعل من بيته وعائلته أنموذجًا للمواطنة التى لا يحيا فيها إلا من آمن بدستور الحب. ولما سُئل عن علة ذلك، قال: «نكاية فى الطائفيين». وكيف لا وهو القائل عن حكمة الإيمان: صلوا من أجل الرب فهو أصل كل محبة، الذى علمنا التضحية من أجل الآخرين فصلوا من أجل برهم وإسعادهم. ومن أقوال حفيده وليد عبود عن تدين جده «إنه مع رجال الدين المناضلين ضد السلطات الغاصبة على أنواعها، لا مع رجال الدين الخانعين، الخاضعين، المتآمرين مع السلطة المدنية على الرعية. إنه مع المسيحية الحق، مع اشتراكية المسيح، لا مع تحويل الكهنوت وسيلة للإثراء والصعد الاجتماعى والاقتصادى والمادي».
وما أحوجنا الآن لأمثال مارون عبود لتعليم الطوائف المتناحرة فى شتى أنحاء العالم العربى أصول الإيمان وفلسفة الحب.
ترى هل يستحق هذا الرجل وسام التسامح؟
ولسير الأعلام بقية