الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: الأبنودي شاعر السينما

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعاد تشكيل رواية «شىء من الخوف» برؤية تتغلغل فى نسيج الحياة اليومية المصرية
أبدع فى رائعة يحيى الطاهر عبدالله «الطوق والأسورة» وجوابات الأسطى حراجى بصوته في "البوسطجى"





لا أحد يجهل مكانة عبدالرحمن الأبنودى الشامخة فى دولة الشعر وعالم الغناء، لكن الانتباه ضرورى إلى الدور المهم الذى يلعبه الشاعر المتفرد فى ساحة السينما، وهو جانب من إبداعه لا يحظى بالكثير من الاهتمام. تبدأ رحلته السينمائية عندما يستعين به المخرج الكبير حسين كمال «2003-1934»، مقتبسًا لمقطع من «جوابات الأسطى حراجي» بصوت الأبنودى نفسه فى فيلم «البوسطجي»، 1968، وفى العام التالى يعتمد حسين على الشاعر الفذ فى فيلمه الأبرز «شيء من الخوف». بحواره الرشيق السلس، وأغنياته الثورية الشجنية ذات البناء الفنى المتقن، يعيد الأبنودى تشكيل رواية ثروت أباظة، فإذا بها رؤية متوهجة تتغلغل فى نسيج الحياة اليومية المصرية، وليس فى التاريخ السينمائى وحده، ومن الذى تُذكر أمامه كلمة «الدهاشنة» والطاغية الذى يحكمها، ولا يتذكر الأبنودى وعطاياه؟ فى سنوات تالية، يتألق الأبنودى مجددًا مع رائعة يحيى الطاهر عبدالله: «الطوق والأسورة»، فى الفيلم الذى يخرجه خيرى بشارة فى العام 1986، لكن الفيلم القصير «أغنية الموت»، الذى لا تزيد مدة عرضه على النصف ساعة إلا قليلًا، جدير بالتأمل والتحليل، ويكشف عن الكثير من شاعرية الأبنودى فى مجال الإبداع السينمائي.
عن مسرحية من فصل واحد لتوفيق الحكيم: «أغنية الموت»، يقدم المخرج الكبير سعيد مرزوق «١٩٤٠-٢٠١٤»، فيلمًا قصيرًا يحمل العنوان نفسه سنة ١٩٧٣، والبطولة فيه موزعة بين فاتن حمامة وكريمة مختار وحمدى أحمد وعبدالعزيز مخيون، أما الحوار باللهجة الصعيدية الصحيحة غير المزيفة، المغلفة بمزيج متكامل مشبع من الشعر والفلسفة والعمق، فيتولى الأبنودى أمر كتابته.
يبدأ الفيلم بالأم الأرملة المأزومة عساكر، فاتن حمامة، وهى تنتظر وصول القطار الذى يحمل ابنها الوحيد علوان، عبدالعزيز مخيون، قادمًا من القاهرة حيث يقيم لسنوات متصلة فى رحاب الأزهر، والهدف من عودته، كما تأمل الأم، هو الثأر لأبيه ورد الاعتبار للأسرة المطالبة بالانتقام من قاتله. وهو فى الثانية من عمره، تزعم عساكر أن الابن قد مات غرقًا فى بئر الساقية حتى تنصرف عنه الأنظار، وتؤمل على نضجه واكتمال قوته حتى يتمكن من تحقيق الحلم الذى يطول انتظاره، ويتجسد فى كلمات يصوغها الأبنودى بدقة وتكثيف، معبرًا عن جوهر القيمة الصعيدية الموروثة: «ولد القتيل لسه عايش.. لحم القتيل لسه حي».
الصراع الأساسى، فى المسرحية والفيلم معًا، يدور حول ثنائية بالغة التعقيد: قلب الأم التى تحب ابنها الوحيد بلا ضفاف، وقوة العادات والتقاليد التى تضغط بلا رحمة؛ العاطفة والواجب.
مبروكة، كريمة مختار، زوجة العم وأم صميدة، حمدى أحمد، تتخوف من تأثير الغربة الطويلة والدراسة الأزهرية فى القاهرة، وترى أن الشاب العائد صاحب الدم، الذى يبتعد وينأى عن البيئة الصعيدية المشّكلة للأفكار والقيم، قد يتنكر للموروث ويطوله التغيير. يبدع الأبنودى فى تجسيد رؤيتها التى تجمع بين الإشفاق المعلن والغيرة الكامنة، جراء المقارنة بين الأزهرى المتعلم وابنها الذى لم يبرح القرية: «خايفة ما يعرفش يستعمل السكين.. برضه العلم والجبة والقفطان بيطروا على جسم الفتى ويبرد النيران».
تصطدم مقولتها التشاؤمية هذه مع حلم عساكر الذى تعيش به وله، فهى تترمل فى ذروة الشباب، وتنفق سنوات ما بعد قتل الزوج فى انتظار الثأر الذى يريح القلب ويحقق التوازن الضائع: «سبعتاشر سنة.. أعدها بالساعة والثانية».


روح الشعر
يتعمق الأبنودى فى دراسة أبعاد وأعماق الشخصيات الأربع التى يقدمها الفيلم، وإذ يحدد الملامح والكوامن المخبوءة يكتب حوارًا يضيء ويشرح بلا مباشرة فجة، وقوامه روح الشعر. لكل منهم خصوصيته: الأم المسكونة بالحلم ولوعة الانتظار، زوجة العم المتأرجحة فى مشاعرها المتنافرة، ابن العم الصارم بفعل اليقين والإيمان غير المحدود بالقيم السائدة، أما الابن علوان فتنبئ المؤشرات جميعًا عن اختلافه.
الأبنودى ليس مدققًا لغويا يترجم الحوار إلى اللهجة الصعيدية التى تتعرض للكثير من التشويه والتزييف عند من لا يعرفون إلا ظاهرها السطحي، وهو كذلك ليس معلمًا يوجه القائمين بتجسيد الأدوار إلى كيفية النطق الذى لا يتقنونه بطبيعة الحال، الأمر ليس على هذا النحو، فهو شاعر صاحب رؤية فلسفية عميقة تخلو من التعقيد والتصنع، والكثير من جمله الحوارية أقرب إلى الشعر الخالص. عندما تقول عساكر فى عفوية صادقة: «قلبى الكتوم زى القبور.. قلبى اللى أقسى م الحجر بيقول كلام»، يسهل ترجمة كلماتها هذه إلى سطور شعرية بلا خدش أو كسر: قلبى الكتوم زى القبور | قلبى اللى أقسى م الحجر | بيقول كلام.
ما أكثر وأعذب الشعر الذى يبدعه البسطاء والعاديون من الناس فى الحياة اليومية، وما أعمق الأفكار والقيم الفلسفية المستمدة من الواقع وتفاعلاته دون الاتكاء على الكتب وما فيها من النظريات. فى السياق نفسه، يدرك الأبنودى بوعيه الدرامى الرفيع أن اللهجة الصعيدية ليست مقدسة ولا يمكن الاحتفاظ بها بعيدًا عن الاحتكاك والمعايشة. ينعكس ذلك الوعى على لغة الابن الأزهرى العائد، فهى مزدحمة بالمفردات القاهرية الرقيقة الناعمة وليدة الابتعاد الطويل عن البيئة صانعة اللغات واللهجات. من ذلك، على سبيل المثال، أنه ينطق كلمة «قطر» بالقاف المخففة كأنها الألف، مخالفًا بذلك للسائد فى الصعيد، وإذ تقول أمه «عشطان»، تتحول الكلمة عنده إلى «عطشان»، ومثل هذا التباين اللغوى يمهد لاختلاف يطول الأفكار والرؤى ومنظومة القيم، كما يتجلى عندما يقع الصدام بين علوان وعساكر.

صدام فكرى
من المنطقى البدهى ألا يقتصر الاختلاف على اللهجة وبعض المفردات، ذلك أن الدراسة الأزهرية تنعكس على البناء الفكرى الذى يتبناه علوان. يعود إلى القرية ليحقق «حاجة كبيرة وعظيمة»، لا شأن لها بالثأر وطموح الانتقام الذى يسيطر على أمه، ويتوافق ذلك التوجه مع القراءة المختلفة التى يقدمها للواقع الاجتماعى الموغل فى الفقر والبؤس. يتأمل البيت ويقول لنفسه: «آه يا أمه.. هى دى بيوتكو ودى حالتكو.. عيدان الحطب فى السقوف المايلة.. وزير المية والتراب فى الأرض.. والحيوانات عايشة معاكو». المسكونون بحلم الثأر لا يفكرون فى الفقر ولا يشعرون به، ذلك أن الجوع المهيمن روحى يتعلق بالشرف والكرامة. لا شيء تنشغل به عساكر إلا أن تروى ظمأها بدم قاتل زوجها، ويقف علوان فى الجانب الآخر مسلحًا بالعقل والتأمل وطرح الأسئلة التى تقدم إجاباتها أدلة ساطعة مقنعة لا متسع لها عند أمه، التى تغيب قليلًا وتعود لتقدم له ما تحتفظ به لسنوات طوال فى انتظار لحظة الخلاص والتهيؤ للحزن المؤجل، الذى لا موضع له قبل الثأر ورد الاعتبار:
«سبعتاشر سنة يا وليدى وأمك مستنياك.. والحاجة دى شايلها لك.
- إيه ده يا أمه؟
- دا الخرج.. الخرج اللى جاتنى فيه جثة أبوك محمول ع الحمارة.. فى الجيب ده لقيت راسه مقطوعة.. وفى الجيب ده لقيت لحم جسمه متقطع بنش بنش.. قتلوه بسكينته اللى كانت فى جيبه يا علوان.. ورموه مع السكين فى الخرج.. شايف السكين.. سبته بدمه لحد ما الدم صدا عليه».
توقن عساكر أن سويلم الطماوى هو قاتل زوجها، وتساؤلات علوان تثير الشكوك من منطلقات منطقية لا تعرف بها القرية الصعيدية ولا تضع لها وزنًا أو اعتبارًا:
- إيه الدليل على إن سويلم هو اللى قتل أبويا.. التحقيق أثبت إيه؟
- تحقيق؟
- أيوه.. يعنى قولتو إيه للنيابة؟
- نيابة؟ يا عارك يا عساكر.. يا عاركم يا عزايزة.. نروح النيابة ليه.. متنا بالحيا؟».
يعى الأبنودي، الابن المخلص للمجتمع الصعيدى والقيم التى تحكمه، أن القانون الرسمى لا يحظى بشيء من الاحترام فى واقع يصنع قوانينه الخاصة ويتوارثها ولا يرضى بغيرها. ما يقوله علوان مستمد من قاموس العاصمة ورؤاها المختلفة التى تعلى من شأن مفردات عصرية مثل «النيابة» و«المحكمة» و«القانون»، وغير ذلك من الكلمات والمصطلحات التى ترادف العار عند المؤمنين بالقصاص الفردى لأسباب دينية واجتماعية، ولا تعويل عند هؤلاء على حكومة أو نظام.
الانشغال بالحكومة ومؤسساتها لا يمثل هاجسًا ذا شأن عند الغارقين فى بحور من الدماء التى لا تنقطع ولا تجف، وإذ يتساءل الأزهرى المستنير الموضوعى عن دوافع سويلم لقتل الأب، كأنه يتقمص دور المحقق، تقول الأم فى بساطة إنه يثأر بدوره لمقتل أبيه:
- سويلم بيفكر ومقدر إن أبوك هو اللى قتل أبوه.
- وأبويا قتل فعلًا يا أمه؟
- ربك أعلم بالليل وبسر الناس والكون».
لا تنفى ولا تؤكد، ويبدو واضحًا أن الأمر لا يمثل أهمية خاصة.
الحوار القصير بالغ الدلالة فى التعبير عن أجواء الثأر فى صعيد مصر، والجذور التاريخية للصراعات يتم النظر إليها من منظور ذاتى بعيد عن الإنصاف والاعتدال. عساكر لا تهتم بالمنسوب إلى زوجها، فلا شيء تعرفه إلا أنه مات قتيلًا، ولا بد لقاتله أن يُقتل!.

توازن محسوب 
الأبنودي، الشاعر المسكون برؤية إنسانية رحيبة لا تهمل معطيات الواقع والمعايير التى تحكمه، هو من يضع على لسان علوان كلمات ترصد طبيعة الأزمة التى لا بارقة أمل فى الخروج منها؛ بحر الدم: «البحر اللى عمره ما يخضر شجرة فاكهة ولا سبلة قمح». فى المقابل، لا يتحامل الأبنودى على عساكر، ويأبى إلا أن يترك لها فرصة الدفاع عن الأفكار الراسخة التى تشب عليها وتتشبث بها: «قوم يا وليدي.. قوم طفى ناري.. قوم صحى الطحاوية من هديان السر».
للأم منطقها الذى يتكئ على موروث عميق الجذور، يمتد لأجيال متعاقبة تقدس فكرة الثأر وتجعلها معيارًا رئيسًا للشرف والكرامة، وللأزهرى الشاب رؤية مغايرة مستمدة من أحكام الدين والعقل، ولا شيء يعيبها إلا غياب الاستجابة لأنها تمثل الاستثناء الذى لا شعبية له ولا فرصة رواج.
لا ذرة واحدة من الشك فى المحبة الطاغية التى تحملها عساكر للابن الوحيد، جوهر الحياة وخلاصة الأمل والبهجة، ولا شك أيضًا فى إصرارها المبرر على الرضوخ لقوانين المجتمع الصعيدى الذى تنتمى إليه وتنشأ متشبعة بدروسه وأحكامه غير القابلة للمناقشة والمراجعة. يؤكد لها علوان أنه سيُقتل بالضرورة بعد سنوات قلائل، عندما يشب ابن سويلم ويبحث عن قاتل أبيه، ثم يتساءل كأنه يخاطب قلبها المملوء بحبه والحرص على حياته:
«- يعنى ها يبقالى فى الدنيا دى خمس ست سنين».
- بتقول إيه؟
- لحد دراعه ما يقدر على شيل السكين ويعمل فيا اللى ها أعمله فى أبوه.
- علوان.. خايف ع العمر؟
- وأنت يا أمه.. مش خايفة عليا؟».
تحبه بطبيعة الحال وتخاف عليه، لكن الثأر قضية محسومة لا تستدعى النقاش، والخوف من المستقبل مؤجل لحساب الحاضر وأوجاع الماضي، الأولوية للانتقام والتشفي، وليكن بعد ذلك ما يكون. عند هذه المرحلة من الحوار تُغلق الدائرة تمامًا، ذلك أن الأزهرى يرى فى تحريض أمه «كلاما فارغا»، وبعد محاولات فاشلة للمراوغة والتحايل والتسويف، لا يملك إلا أن يصارحها بحقيقة نواياه الصادمة:
- أمه.. أنا مش هأقتل.
- بتقول إيه؟
- بأقول مش ها أقتل.
- ودم أبوك؟
- انتو اللى ضيعتوه لما خفيتوه عن الحكومة.. الحكومة شغلتها تدى الجزاء».
كيف لمنطق كهذا أن يقنع من لا يعترفون منذ البدء بالقانون والنيابة والحكومة؟

نهاية مأسوية
فى لحظة فارقة مشحونة بالتوتر كهذه، يبدو منطقيًا مبررًا أن تتوارى العاطفة وتتحول الأم المحبة إلى امرأة جريحة شرسة موغلة فى العنف. الصراع بين الشعورين المتناقضين المتنافرين: الحب والواجب، ينحسر وتهيمن القسوة المترتبة على انسحاب علوان من خوض الحرب المقدسة التى تعيش عساكر من أجلها. تحتد وتسرف فى القسوة، ويغادر الابن معتزمًا العودة إلى القاهرة والأزهر، ولا تتورع عندئذ عن تحريض ابن عمه صميدة على قتله، ذلك أن موته أهون من تفريطه فى دم أبيه، فلا عار يفوق تفريطه هذا.
يختلف صميدة جذريًا عن ابن عمه، فهو مخلص للتقاليد والأعراف. يتردد قليلًا فى الاستجابة لمطلب عساكر بقتل ابن عمه، وسرعان ما يوافق حتى يدرأ عن نفسه العار، ويندفع لارتكاب الجريمة بما ينم عن تشبعه بالموروث، ما يزيح كل احتكام إلى العقل والمنطق: «هاتى السكين.. لقطر الليل يخطفه مني». غناء صميدة فى بداية الفيلم، علامة يعلن من خلالها عن وصول ابن العم، والغناء أيضًا إشارة النهاية التى تنبئ عن القتل. فى انتظار أغنيته هذه، أغنية الموت، تتأرجح عساكر مجددًا بين الحب الذى يتوارى فى طوفان الغضب، والواجب الذى يدفعها إلى التحريض قبل أن يسكنها الندم، والمحصلة النهائية هى الانتصار الفنى لإنسانية الأم المسكونة بمزيج معقد من الحب والواجب.
فى «أغنية الموت»، يندمج عبدالرحمن الأبنودى فى البناء السيمفونى الذى يقوده سعيد مرزوق باقتدار وتمكن، مسلحًا بنص مسرحى عميق عذب بسيط للرائد الكبير توفيق الحكيم، وأداء تمثيلى منضبط بلا شوائب وعكارات، تتوهج فيه القديرة فاتن حمامة، والواثقة الموهوبة كريمة مختار، ومعهما حمدى أحمد وعبدالعزيز مخيون. تكتمل العناصر جميعًا، السيناريو والإخراج والتصوير والإضاءة والموسيقى والتمثيل، فيبدع الأبنودى فى حواره، وبه يتحول الفيلم القصير إلى قصيدة ناضجة حافلة بالشجن والصراع والتأمل الفلسفي، كأنه المأساة الإغريقية فى مسرح صعيدي.