السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

حكايات "الأبنودي" والكبار.. "محفوظ" و"درويش" و"جاهين"

الأبنودي
الأبنودي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعد الملف: محمد لطفي وياسر الغبيرى وأحمد صوان وأميرة عبدالحكيم ومحمود عبدالله تهامى
تصوير: هشام محيى ومحمود أمين.


على جدران «الكتب خانة» فى صومعة «الأبنودي» بمنزله بالإسماعيلية، عشرات الصور التى تجمعه بالكثير من رموز الأدب فى مصر والعالم العربي، تجد على الجدار الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش فى عدة صور تجمعهما معًا، وكانت رغبة «درويش» الأولى فى مصر أن يراها بعيون الأبنودي، حيث اعتاد أن يطبخ له «الخال» بنفسه، وبالتأكيد الأديب العالمى نجيب محفوظ، والذى كان الخال حريصًا على مشاركته جلسة الثلاثاء، فيما كان عبقرى الرواية يحرص بدوره على أن يستمع إليه.
أما صلاح جاهين، الذى كان أول من قدّم الأبنودى للعالم عبر بابه الأشهر فى مجلة «صباح الخير» فى الستينيات، فقد ربطتهما لفترة طويلة صداقة حقيقية؛ وكان من صدفة القدر أن كليهما -جاهين والخال- قد تشاركا فى تاريخ يوم الرحيل وهو 21 أبريل، كما تشاركا جلسات السمر والحديث والشعر والموهبة وعشق مصر.

درويش: أريد مشاهدة أم الدنيا بعيون الأبنودي
«درويش عاش للشعر فقط، فاستحق كل التقدير والاحترام ممن يتذوقون شعره حتى اليوم»، هكذا وصف «الخال» شاعر فلسطين الكبير محمود درويش، الذى سخّر أغلب شعره وحياته للقضية الفلسطينية، فى المُقابل وصف درويش صديقه الأبنودي، فى توقيع له على نسخة من دواوينه، بأنه «شاعر مصر الأكبر» واصفًا زوجته الإعلامية نهال كمال بأنها مُلهمته.
«درويش» الذى كان يوصف دومًا بأنه شخصية متحفظة كان متباسطا جدًا، فكان يحمل آية ابنة الأبنودي، مرحبًا بها، وكان الأبنودى يحرص على التقاط الصور معه وأسرته فى المنزل، من ضمن هذه الصور صورة لا تزال على جدار الكتب خانة فى بيت الخال، كان موضع الصورة البارز هو ما دفعنا للسؤال عن علاقة الصداقة الممتدة بينهما.
تقول نهال كمال زوجة الخال لـ«البوابة»: كان درويش يستمع إلى صوت عبدالرحمن الأبنودى فى إذاعة صوت العرب قبل أن يأتى إلى مصر، ومن خلال صديق مشترك بينهما كان يعمل مراسلًا لجريدة الأهرام فى روسيا، طلب منه درويش التواصل مع الأبنودي، وقال له أنا عايز أشوف مصر من خلال الأبنودي، وكان وقتها الخال يقدم برنامج «وجوه على الشط»، وشعر درويش أن صوته هو الأقرب له، ونشأت ألفة بينهما قبل أن يراه».
أما «الخال» نفسه فقد حكى فى واحد من لقاءاته التليفزيونية عن علاقته بالشاعر الفلسطينى محمود درويش فقال: «إن من مصدر سعادتى أن أوضع أنا ودرويش فى جملة واحدة، فالناظر لجدران بيتى يجد عليها صور محمود درويش برفقتى أنا وزوجتى وآية ونور، فدرويش يمثل جزءًا من علاقتنا، وجزءًا من صميم حياتنا».
كان «درويش» فى نهاية حقبة الستينيات قد غادر فلسطين هاربًا من حكم الاحتلال الإسرائيلى هو والشاعر سميح القاسم، وقتها تعرف الأبنودى وجيله على أشعارهما من خلال الناقد الكبير رجاء النقاش الذى نشر أشعارهما فى مصر بقوله: «عرفنا أن فى فلسطين شعراء يستطيعون التعبير عن قضيتها، فهى ليست بحاجة لنا كى نغنى لها»؛ فى تلك الفترة قضى الشاعر الفلسطينى الأشهر وقتًا فى العاصمة الروسية موسكو، ومنها قرر من داخله أن يتجه إلى العالم العربي، فى هذا الوقت كان العالم العربى هو مصر، كان ذلك فى زمن «عبدالناصر» وكانت مصر جنة الأدباء والفنانين وكانت حلما فى زمن الستينيات»- حسب ما قال الخال.
وبحسب نهال كمال، أشار الأبنودى فى حديثه إلى طلب درويش من مراسل جريدة الأهرام فى موسكو عبدالملك خليل أن يتعرف إلى الأبنودى وأن ينزل على ضيافته لا على ضيافة الدولة ولم نكن فى ذلك الوقت نعرف بعض، ساعتها كنت أقدم برامج شعرية يومية فى إذاعة البرنامج العام بعنوان «بعد التحية والسلام» عبارة عن رسائل والرد عليها كانت معظمها للجنود المقاتلين بعد عام النكسة، ولقد صادقنى من خلال القصيدة التى ألقيها بالإذاعة، وعندما وصل إلى مصر كانت الدولة قد استقبلته ونقلته لفندق يسكن به.
ثم وجدت اتصالًا هاتفيًا من شخص يقول أنا محمود درويش، فقلت: له محمود درويش مين، فلم أكن أصدق وصوله إلى مصر، فقال: أنا درويش الشاعر ووصلت إلى مصر وأنتظرك الآن؛ ثم صرنا أصدقاء بعدها ورغب أن يرى القاهرة من خلال رؤيتى وعيوني.
كان لقاء درويش والأبنودى فى مصر الفاطمية، فى ذلك اليوم نشأت صداقة طويلة بينهما «وكان درويش فى كل زيارة له فى مصر يجعل لمنزلنا نصيبًا منها»، تروى نهال كمال وتُضيف: «كان درويش يحب بعض الأكلات المصرية مثل الملوخية والحمام الذى كان يعده له الأبنودى بنفسه؛ وكانت تدور بينهما جلسة مناقشات عامة حول أمور السياسة والفن، حيث كانت أفكارهما متطابقة وآراؤهما متماثلة، وكل ديوان كان يصدر عن محمود درويش كان يُهدينا نسخة يوقع عليها إهداء لى وللأبنودي، وما زلت محتفظة بكل هذه الإهداءات».
تواصل «كانت بينهما حالة دائمة من التقدير والاحترام التى نفتقدها فى الوقت الحالي، وكان كل منهما يرى الآخر شاعرًا عظيمًا، وعندما ذهب محمود درويش إلى تونس ناداه أحد الصحفيين بأكبر الشعراء العرب، وهو ما رفضه درويش وقال إنه يوجد شاعر عظيم فى مصر اسمه الأبنودي؛ وهذا ما كان يفعله الأبنودى أيضًا».
"الخال" و"سيد الحرافيش".. حكايات "مجلس الثلاثاء"

تتحدث السيدة نهال كمال زوجة الخال لـ«البوابة» عن علاقة الخال بالأديب العالمى نجيب محفوظ، أديب نوبل، فتقول: «كانت تجربة مهمة جدًا فى حياة الأبنودي، وكنت أنا السبب فيها، وتحدثت معه ذات مرة قائلة: لا يصح أن يوجد كاتب كبير بحجم نجيب محفوظ ولا توجد علاقة معه، ولا بد من وجود أى تواصل مع هذه الشخصية العظيمة». 
كان الصديق المشترك بينهما هو الأديب الكبير جمال الغيطاني، الذى اصطحب الخال معه فى جلسة الثلاثاء التى كان يتواجد فيها مع محفوظ والقعيد وزكى سالم ومجموعة كبيرة أخرى من الكتاب.
هكذا صار «الخال» من حرافيش الكاتب الكبير، كان يحضر لقاء الثلاثاء مع صحبته، حيث كان يتردد على لقاء الثلاثاء مجموعات مختلفة من الحرافيش لمحفوظ؛ فى الوقت نفسه أحب محفوظ أن يسمع حكاوى «الأبنودي» وأن يسمع منه قراءته لفصول مذكراته التى كتبها بعنوان: «أيامنا الحلوة»، والتى كانت تنشر لفترة طويلة على شكل حلقات فى ملحق جريدة الأهرام، وكان محفوظ يحب أن يقرأ له الخال تلك الحلقات.
وكان يغضب فى المرة التى ينسى فيها ملحق الأهرام فلا يتمكن من قراءة ومتابعة سيرة الخال الحافلة بحكايات شعبية رائعة إلى جانب عادات وتقاليد الصعيد، وانبهر محفوظ بكتابة الأبنودي، والتى وصفها أنها كتابة نثرية تشبه الشعر فكأنها قصيدة نثرية «قال له الحمد لله إنك مش روائي» قالتها نهال وهى تتذكر ما قاله أديب نوبل للخال، وقد جمعت مقالات الأبنودى فى كتاب واحد، جاء بتقديم لمحفوظ الذى كتب «قصائد نثرية تحمل نفحات إنسانية»؛ وهى التى تم تحويلها فيما بعد إلى برنامج تليفزيوني.
«كان يقول إذا جلست معه لا أصدق أن هذا هو الكاتب الذى يكتب روايات عظيمة وصاحب جائزة نوبل، وتعلم منه التواضع ويقول كلما نجح الإنسان زاد تواضعه»، وفق زوجة الخال، التى أشارت إلى أنه فى جلسات الثلاثاء نفسها أعجب الخال بتواضع الأديب العالمى الكبير، فقد كان يتعامل مع الناس دون أن تشعر أن هذا الرجل حصل يومًا على جائزة نوبل فى الآداب، وبجوار محفوظ يتضاءل ما قدمته وكأنى ما عملتش حاجة، قالها الخال الذى كان متواضعًا بدوره «ولديه شعور أنه لم يقدم كل ما يريد وظل محافظًا على عادة الكتابة حتى آخر لحظة فى حياته وكأنه كان يُسابق الزمن ليقدم المزيد»- حسب زوجته.

الخال وجاهين.. صداقة بدأت بقصيدة

«هو ظاهرة لن تتكرر، كتب شعرًا عبقريًا، لكنه عرف الطريق إلى لغة بسيطة سلسة، هو حالة متفردة استطاع أن يكون من أوائل المكتشفين العظام لجيولوجيا مشاعر الإنسان المصرى وأخلاقه وتراثه فى القول والسمع»، هكذا وصف «الخال» شاعر العامية الأبرز صلاح جاهين راثيًا له، بعد صداقة امتدت لأعوام طويلة، كانت بدايتها عندما نشر له الشاعر الكبير فى ١٦ نوفمبر ١٩٦١،أول قصائده فى مجلة «صباح الخير» فى باب «شاعر جديد أعجبني»، وتناولت تلك القصيدة مشكلة القطن آنذاك، وأعجب بها جاهين، وقرر نشرها مع رسم لأكبر رسامى المجلة.
كتب جاهين فى تقديمه للأبنودى: «أترقب رسائله.. تصلنى أحيانا على ورق أبيض، مقطع سلائخ طويلة كأعمدة الصحف، مكتوبة بإتقان شديد على الآلة الكاتبة.. وأحيانا بالحبر على ورق مسطر، مطبوع على رأسه اسم تاجر خضار وفواكه وقومسيونجى، بمدينة قنا.. وأحيان على «فولسكاب» كبيرة ذات هوامش واسعة».
«على أنه مهما اختلفت أشكال رسائله، فهى لا تحمل إلا شعرا، ونادرا ما يوجه لى كلاما فى أى من هذه الرسائل.. لذلك لا أكاد أعرف عنه شيئا كثيرا.. حتى عمره لا أعرفه.. ولكنى أرجح أنه ما زال فى عشرينياته الأولى.. كل الذى وصلنى أنه يعمل موظفا كتابيا فى محكمة قنا الابتدائية».
وأضاف جاهين: «أما عن شعر عبدالرحمن الأبنودى فهو على درجة كبيرة من التقدم.. فصوره يختارها من الحياة اليومية.. ولكنه يستطيع أن يشحنها بالعاطفة.. فنكتشف - بفرحة - كم هى موحية وعميقة هذه الصور.. إن اكتشاف الشعر فى زوايا حياتنا التى أهملها الزمن.. وإثراء عاميتنا بالتعبير الأدبى الخصب.. لهو عمل وطنى قد يكون فى أهمية اكتشاف البترول فى قفارنا.. إن لم يكن أهم».
لم يكن يخلو حوار مع «الخال» من الحديث عن عظمة وذكاء ورقة وجدعنة صلاح جاهين؛ طالما كان يكُرر أن تلك البادرة فتحت لى مجالًا للاتصال بالناس فى المحيط، وزيادة إقبالى على النظم، وتوطد علاقتى بصلاح جاهين، وكان سببًا فى دخولى عالم الطرب من أوسع أبوابه وذلك لأن أغنية «دودة القطن» تم الاتفاق على غنائها فى الإذاعة، فاتصل بجاهين الذى أكد له ذلك، وطلب إليه أن يذهب إلى الأستاذ حسن الشجاعى فى الإذاعة، وكان أجر الأبنودى عن تلك الأغنية خمسة جنيهات.
فى لقاء خاص جدًا، جمع الخال بعدد من الأصدقاء قال: «إن النظام الناصرى لم يعتقل صلاح جاهين لأنه كان شاعر الثورة، ودائمًا أضع حدًا فاصلًا ما بين الداعى للثورة، ووظيفة العاشق؛ فصلاح جاهين كان عاشقًا للثورة ويحب جمال عبدالناصر حبًا حقيقيًا، وكان يحلم معه حلمًا كبيرًا، وعندما جاءت النكسة قتلت اثنين كما أقول دائمًا صلاح جاهين ويوسف إدريس، وصلاح جاهين لم يكن أكثر تعقلًا منا مع النظام لأنه لم يتناقض مع النظام، وربما كان على حق».
ويضيف الخال: «لو كان صلاح جاهين قد كتب لجمال عبدالناصر والثورة لما استطاع أن يكون له حضور قوى معنا، وكل الشواهد التى تؤكد أنه تعلق بالقضايا العربية ودافع مريرا عن قضية فلسطين بعيدة عن قضية الأمة المصرية».
ويحكى الخال عن «جاهين» بقوله: «صلاح ابتعد بالحلم طويلًا عن واقعنا وأنه لا يجب أن نحلم إلا بقدر ما نحقق وعلى ما يبدو فإننى كنت جارحًا أو قاسيًا بعض الشيء، دعانى جاهين للغداء فى كافتيريا جريدة الأهرام ليقول لى إنه لن يكف عن الحلم، فقلت له إن علينا أن نحلم فالشعر يقوم أساسًا على الحلم، وأننا إذا فقدنا الحلم سنموت ولكن يجب حين نحلم أن نكون نائمين بكامل ملابسنا وأظن أن هذا الحوار هو الذى أوقف الحوار بيننا، وظللنا بعد ذلك نهاتف بالتليفونات».
وعندما توفى صلاح جاهين فى إنجلترا، رثاه الأبنودى بقصيدة قال فيها:
الاسم زى الجواهر فى الضلام يلمع..
تسمع كلامُه ساعات تضحك ساعات تدمع
شاعر عظيم الهِبات..
معنى ومبنى يا خال
يشوف إذا عَتِّمِت واتشبَّرت لاحْوال
كإنه شاعر ربابة..
ساكن الموّال
يقول.. وحتى إن ما قالش تحسّ إنه قال
ولا يقول مِ الكلام إلا اللى راح ينفعْ
والاسم زى الجواهر فى الضلام يلمعْ
المسألة مش قوافى أد ما هى رؤى
الكون فى إيد البصير أصغر من البندقة
وضحكة الفيلسوف متجمعة من شقا
تفتحها تقفل عليك.. مسا دا ولا صباح؟
والصوت دا وسط الفرح زغروتة ولا نواح؟
يا بهجة الدنيا.. يا غنيوة الأفراح
أكلوا تمورك وراضي
لو صابوك بالنقا
والمسألة مش قوافى أد ما هى رؤى
نزل من بطن أمه
بصراخ موزون مقفى
وكإن فنه دمه
وتقيل مع إنه خِفه..
واسمه.. صلاح جاهين
من صغره آخر شقاوة
وله أمور عجيبة
يرسم رسومات نقاوة
ويقول حاجات غريبة
تأليف صلاح جاهين
يتهيأ لك مكشر
هوّه بيضحك لجّوه
وحتى لو يكركر
الوش هوّه هوّه
ماركة صلاح جاهين
والده- وأنا شفته-
قاضى يزوره ف مكتبه:
أبويا.. دايمًا راضى وأنا نفسى أكتبه..
وأمضي: صلاح جاهين
يرسم.. يقرا الشوارع والخلق فى الحواري
وفى النظر كان بارع للبايع واللى شاري
وارسم يا صلاح جاهين
وإن حَب الرسمة تنطق يرسم واحد تخين
تتحير لو تدقق ده سعيد ولا حزين
تلاقيه صلاح جاهين.