الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"فيدباك".. دم أفسده الاحتقان!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعضُ البوح ملاحظاتِ انتحارٍ كبيرة.
وفى شجرة العائلة، قد تختلط الجذور بالسموم، التى يتغذى عليها اليأس، ويمكن للموت قراءتها بسهولة.
«أمى لسانها كالمضرب، لا يرحم أحدًا؛ كبيرًا كان أو صغيرًا. والحق أقول، كُلنا بلا استثناء ورثنا حِدة اللسان من أمى، ولكن بدرجات متفاوتة!» (ص 76).
«ًوأنا فى دكان أبى، قبل أن يترك مهنته، ويستريح فى البيت، ظلَّ أبى مستريحـًا فى البيت أكثر من خمسة وعشرين عامـًا، تخيلوا معي؛ رجلٌ قابع فى البيت، فقط يأكل وينام، لخمسة وعشرين عامـًا!» (ص 77).
هكذا تحكى «هُل»، إحدى بطلات رواية «فيدباك» عن أمها وأبيها. أما شقيقتها «كربوناتو» فتقول فى موضعٍ آخر:
«كان أبى وأمى محيط عكننة، لا يكفّان عن الشجار، ليلًا أو نهارًا حتى فى الأعياد والمناسبات، بل للصدق؛ أبى وأمى ينتهزان تلك المناسبات لتحسين مواهبهما الشجارية، وإثارة حالة من الاكتئاب تطول كل من فى بيتنا أو يمر به» (ص 107).
فى رواية سناء عبدالعزيز، الصادرة عن دار «بتانة»، نطالع بافتتانٍ لا يخلو من شعورٍ بالصدمة، سيرة عائلة تنتمى إلى عالمنا اليومى المعيش، رغم غرائبية الكثير من تفاصيلها المضحكة المبكية. أنت الآن بين يدى ّ «قُهر»، و«هُل»، و«كربوناتو»، و«دقدق»، و«بنأة» و«أحمر». «ست بنات بلا ظهر» (ص 111)، يحكين كُلَّ شيء ويَسترجعن مع الحكايات أنفسهن الضائعة.
تبدو هؤلاء النساء معنىَ غائرًا فى تفاصيل الظمأ. يتجردن من ملح الأحزان، بحثـًا عن لحظات سعادة خاطفة. فى صَمْتٍ تَسْقُط مِنَ الماء أسرار المطر.
«بعد لف ودوران، جابت كل واحدة فينا عريسها فى إيدها، تزوجت أنا زميلى فى شركة بيبسى، شكله ابن ناس، غير أنه من نفس الشاكلة التى كنت قد رفضتها من قبل، لا لون لا طعم لا رائحة، لم يعد ثمة مجال للاختيار؛ كل الطرق تؤدى إلى روما!» (ص 53).
تستعرض البطلات/الضحايا هشاشتهن، كلوحاتٍ فنية غامضة، برعونة من لا يملك شيئـًا ليخسره.
هناك دائمـًا مشاعر متناقضة تعتمل فى نفوس بطلات الرواية. كل أختٍ ترى نقائصها فى مرآة بقية أخواتها، مثل دمٍ أفسده الاحتقان. تقول «كربوناتو»:
«لم أكن فى تفوق «بنأة» فى الدراسة، والحقيقة لا أحد من أخواتى لحقها، فيما عدا «قهر»، التى كانت تناضل كمتسابق فى سباق ملتهب، غير أنها، وهذا هو المهم، حصلت على شهادة جامعية، وكانت أوّل فرد فى أسرتنا يدخل الجامعة، بعدها، وبحكم السن دخلت «بنأة» الجامعة، وأصبح أبى لديه بنتان جامعيتان» (ص 108).
هذه هى الفتاة التى تقول عن نفسها: «أصبتُ بشلل الأطفال، كانت إحدى ساقى تنمو بشكل طبيعى، بينما الأخرى عالقة» (ص 110).
مثل روحٍ مدفونة فى الجدار، تقول «هُل»:
«أنا الآن بموجب هذه الورقة أبلغ السادسة عشرة، تزوجت عم حمدى، ولم نكمل عامنا الأول حتى أنجبنا طفلًا، جميلًا كأمه، ومريضـًا كأبيه.
«كان حمدى مصابـًا بمرض خبيث، وكنت أرى تساقط شعره فوق الملاءات الجديدة، عروسة بقى! فأنكمش فى نفسى، ورغم كم الركلات والصفعات التى تلقيتها من أبى وأخى، صممت على الطلاق. مسحت أمى بى البلاط، كانت تكبش شعرى بكفّيها وتريه لى عندما ينخلع فى يدها، وتحرقه على عين البوتاجاز حتى تظل رأسى تأكلنى طوال الليل، ولكنى كنت أقشعر عندما أتخيل أننى سأنام بجانبه يومـًا آخر، الضرب أهون!» (ص 77).
كفأسٍ تشهق لها الشجرة، تقول «أحمر»:
«وجهى أبيض كالشمع، على عكس أخواتى الخمس؛ فألوانُهن محايدة، وأخونا الوحيد لونه أغبر من لفحة الشمس، يعمل نجارًا؛ نجار مسلح، فعلى الرغم من أنه كان يعد بالكثير؛ تراجع أداؤه بشكل غريب وهو فى الصف الثالث الإعدادى، أهمل دروسه وبدأ يتغيب عن المدرسة، ويلقى لنا فى مدخل البيت بجوابات الرفت، يئس منه أبى بعد أن طرده من البيت آلاف المرات، وفى النهاية سلّمه لمقاول فى عزبة الأطاوى ليعلمه النجارة» (ص 95-96).
تضم «قُهر» الرجاء إلى لائحة أمنياتها، وهى تقول:
«لم يكن يروقنى هذا الاسم مطلقـًا، رحمة الله على أبى، اعتاد أن يبتدع لنا أسماء كتلك، ليس بوسعك الاختيار، نأتى إلى هذا العالم محملين بكل شيء سلفـًا، وليت الأمر يقتصر على مصيبة الأسماء التى لا تعجبنا، كل ما حولى لا يعجبنى، أكرهه بدرجة مخيفة، أبى لا يهمه سوى أن أواظب على دفع الشهرية، والسماء لا تعطينى إلا بالكاد، أعرف أننى لا أملك وجهـًا جميلًا كبقية إخوتى، وإن كنت كما يقولون: مقبولة.
«رأسى لا تعمل جيدًا، والمدرسون السفهاء لا يرحموننى عندما أخطئ، يخرجون من فورهم من الفصل ويعودون بأختى (بنأة) التى تصغرنى بعامين، لتحرجنى أمام الجميع، وتجيب بدلًا مني» (ص 49).
المنذورات للأسى، يَفُكُّ القدر أَكْفانَهَنَّ على مَهل، لكنهن وهن فى رحلة الموت البطيء لا يتخلين عن لعنة المقارنات.
«كل إخواتى تزوجن فى سن صغيرة، وبقيت أنا و(بنأة)، ولكنها كانت فى الوضع الأفضل، دائمـًا ما كانت بزيفها فى الوضع الأفضل، فهى التى تطردهم، لا ترغب فى الزواج، تغذى قلبها بتلك الخيبات مع رجال من المستحيل أن تتزوجهم، الغبية تعطيهم أدوار البطولة وهم لا يصلحون حتى فى دور كومبارس، صحيح الحلو ما يكملش يا ولاه!» (ص 51).
تتكرر الأغانى والأمثال الشعبية والاقتباسات الشعرية، ومن ذلك ما نطالعه كالتالي:
«كنا فى شقتنا القديمة فى بيت أبى، وكنت أسخِّن له العشاء، وكان هو يستحمّ، فأخذت أدندن بأغنية فايزة أحمد:
حبيت قليل الخير
باعك ولاف ع الغير 
فى حى غير الحي
خرج (واو) من الحمام ورغوة الصابون ما تزال على وجهه الذى شحب بشكل مفاجئ:
- إنتى ليه بتغنى الأغنية دي؟ - يعنى إيه ليه؟
وقتها، أحسست بنغزة فى قلبى، ما الذى أوجعه فى أغنيتي؟ ربمّا لمست وترًا حساسـًا، رحتُ أتتبعه حتى تيقنت من خيانته» (ص 104- 105).
تخوض النساءُ التجارب الموجعة كأنها أقدارٌ محتومة مخضبةٌ بالعويل، ليكون اختيارُ الألم كإعدادِ وصفةِ حلوى خاطئة.