الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

مسعود شومان يكتب: الأبنودي.. الشاعر الحديقة

مسعود شومان
مسعود شومان
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يمكن أن نصف شاعرا بالشاعر الزهرة، وآخر بالشاعر الشجرة، لكننا حين نصف الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى ـ يقينا ـ نقول إنه الشاعر الحديقة، وهذا الوصف لا يمثل قدحا ولا مدحا، لكنه يشير إلى مفهوم الاتساع بما يضم من تنوع على مستويات متعددة، فعلى مستوى التناول سنجد دواوينه قد حرثت أراض سياسية واجتماعية وجمالية وفولكلورية، وعلى مستوى الأشكال سنجد اتساعا كبيرا يضم أشكالا حديثة وأخرى كلاسيكية، وثالثة شعبية، فشعره يراوح بين قصيدة التفعيلة – الموال بأشكاله المتنوعة – المربع – الزجل، فالحديقة تتسع لأنواع من الورود والأشجار كما تتسع للحشائش والنجيل وبعض نباتات الزينة، فضلا عن نباتات تعيش عالة على أقرانها فى الحديقة، الاتساع إذن هو العلامة الكبرى التى تشير إلى طاقة الأبنودى الهائلة وقدرته على التحرك بين الأشكال فى محاولة مستمرة لاقتناص الشعر، فحين نتأمل شعر الأبنودى سنجده على مستوى التصنيف النوعى مجموعة من الوجوه الشعرية / الحياتية؛ كل ديوان يمثل وجهًا من أوجه الأبنودى:
- فالأرض والعيال، ديوان إثنوجرافى، يسجل فيه لأحوال الأرض المصرية وما عليها من بشر عبر معاينة تفاصيل اللوحة الريفية التى اختفت الآن، وظلت تفاصيلها عالقة بشعره، خاصة ما يتعلق بالمعارف والخبرات والتصورات الإنسانية عن الطبيعة بعناصرها: الأرض – الشمس – القمر – الليل – النهار- الاتجاهات – الدروب – الألوان – تركيب الجسد الإنسانى
الليل جدار
إذ يدن الديك من عليه
يطلع نهار
وتنفلت من قبضة الشرق الحمامة أم الجناح
أم الجناح أبيض فى لون قلب الصغار
كما تهيمن على الثنائيات الضدية على الديوان: الليل – النهار، مرعوش – الأمان، الموت – الحلم، كما تنتشر خاصة الكتلية، فلا هموم فردية، الحضور للكتل والجموع، وهى تتحرك أو يشير لها الأبنودى مجليًا عن ملامحها:
«بشىء حزين
بشى فى كل عيون صحابى الطيبين»
قصيدة خيط حرير
«وبيوت الفلاحين من طين
أبدان سودا محنيه بفاس
والناس نايمين
نايمين صاحيين».
وتتجلى عناصر المعارف والثقافة المادية التى ترتبط بالجماعة الشعبية فيما يبثه عبر سطوره الشعرية: القاس – القارب – النخل – المحراث – العليق – القطن – الدرة – البوص – الطواحين – المواجير – الجسور – الحيوانات..... إلخ.
ويتسلح بجموعة من التشاكلات الصوتية تتمثل فى: التفعيلة – التقفية – إيقاع الجملة طولا وقصرا بما يناسب خاصة الإنشاد التى تعد من أهم سمات شعر الأبنودى؛ حيث يتحول شعره إلى جوقة تعزف بالحروف والأصوات:
تتتم.. تتتم.. تتتم.. تم.. تم
والنغمة الأخيرة هى التى تسلم نفسها للقصيدة، فتقوم «فعلن» بإمساك مقود الموسيقى:
«من فين يا نغم يا حزين ولفين
تتتم.. تم تم
من فين ولفين؟
مين قالك فوت فى دروب الهم
طواحين بترد على الطواحين
من كام احنا كسرنا المواجير»
فصوت التفعيلة يحاكى صوت الطواحين المتكرر وأصوات كسر المواجير، فتتماهى الكتابة مع أصوات الحياة بما يشير إلى أجواء فولكلورية تشع من قلب المعيش، فالتناص هنا لا يعتمد على نصوص مصدرية، بل يعكس خبرة ميدانية أو خبرة المعايشة للمكان وناسه وأصوات كائناته.
«يا سريس.. يا سريس
ما كنت ها تطلع لو قالولك إنه زمان
كان تحتك نعنعة الفراديس
يا للى موِّت القطن فطيس».
والأمر لا يقتصر على المعارف والخبرات الشعبية، ولكنه يتسع ليشمل المعتقدات الشعبية:
«آدى بير الديدامونى
اللى غرق فيها قابيل
اللى عفريته بتطلع
زى قلع طويل طويل
وتحت الموج هناك
يشرب فى دم سنينه
يندغ قسمته»
قصيدة الطريق والصحاب
وتتكشف الثنائيات عبر الوصف المتسع للريف وفقره وطيبة ناسه، والمدينة بقلبها القاسى ووحشيتها، هذه الثنائية لن نلمحها فيما بعد، حيث ستصبح المدينة سكنا وحياة للشاعر، ولأن ديوان «الأرض والعيال» يمثل الأبنودى فى مكانه الذى ولد فيه وجاء منه للقاهرة حاملا حلمه، ومحملا بعادات وتقاليد المكان التى حاول تسجيلها فتظهر تفاصيلها قسوة وتوحش المدينة:
«المدينة اللى بتاكل فى طريقها كل حاجه
كل حاجه
بياعين
كل ناسها بياعين
بصة الناس.. الموده.. بسمة الحب بتمن».
نحن إذن أمام عالمين؛ عالم صاف / برىء / جميل / طيب، وهو ذلك العالم الممتلئ بالخضرة وأصوات الأشياء والطيور تملأ المكان فى مواجهة عالم قاس ومدن لا تعرف سوى لغة البيع والشراء، وهو ما جعل ديوانه الأول وصفى، عنائى، استعادى، يحاول فيه اللجوء للمكان ويشره كمكمن للأمان وحكاية لتذكر الدفء الإنسانى فى مواجهة قسوة المدينة:
«بس ناسها مرعبه..
يزرعوا الخوف فى الجفون
يدفنوا العين فى الشعور المتربه».
أما شجرة الحديقة الثانية؛ فتتمثل فى ديوان «الزحمة»، شجرة من نوع خاص لا تشبه شجرة «الأرض والعيال»، فمن الوصف والانشغال بالجموع إلى الاحتفاء بالتفاصيل والعربة والذات فى علاقتها بالجموع، ومحاولة الخروج بالروح من هزيمتها؛ 
هنا نجد رؤية الأبنودى وقد اتسعت بعيدا عن الوصف المنحاز للسرد الذكرياتى لأيام الريف الجميلة، ليدخلنا إلى أبعاد إنسانية.