السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: شخصية العاهرة في الأدب المصري.. الضرورة والإدانة "7"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بائعة الهوى.. الجنس المتواصل قيد خطواتها بسلسلة أقوى من الحديد

ترويض الفتيات حديثات العهد بالمهنة.. علم تتكامل أبعاده عبر الخبرة المتراكمة

الرواية ترصد رحلة تحول الفتاة إلى بائعة هوى

إلى قرب نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، كانت الدعارة العلنية قائمة فى مصر، ثم صدر القرار بإلغاء الدروب والبيوت المرخص لها بممارسة النشاط غير الأخلاقي، الذى يصطدم مع الثوابت الدينية والاجتماعية، وهو ما قوبل بالتهليل والإعجاب والتصفيق والإشادة، لكن النتيجة العملية لم تكن على النحو الذى يتوهمه المؤيدون المتحمسون، ذلك أن الدعارة السرية، غير الخاضعة للإشراف الحكومى والرقابة الطبية، تنتشر وتتوحش، وليس مثل النص الأدبى فى قدرته على التعبير عن مسيرة الدعارة وشخصية العاهرة فى مراحل مختلفة من التاريخ المصرى الحديث، فهو يعيد إنتاج الواقع ويسلط الضوء الساطع الكاشف على أسراره وخباياه. تتوقف الدراسة التى تُنشر فصولها تباعًا عند شخصية العاهرة فى إبداع: يحيى حقي، نجيب محفوظ، عبدالرحمن الشرقاوي، رفعت السعيد، بهاء طاهر، رفعت الفرنواني، علاء الديب، إسماعيل ولى الدين، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، عمرو عبدالسميع، علاء الأسواني. فى التواصل مع نصوص هؤلاء ما يكشف عن تشابك الخطوط فى الظاهرة المعقدة، ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. الدفاع عن الدعارة والعاهرات ليس مطروحًا أو ممكنًا بطبيعة الحال.


سعدية، فى رواية «السكن فى الأدوار العليا»، عاهرة متقاعدة ذات تاريخ حافل فى عالم الدعارة، ومن المنطقى أن تحتفظ بالكثير من سمات عالمها القديم، لغة وسلوكًا وإيقاعًا حركيًا، وهو ما يتجلى بوضوح منذ ظهورها الأول عند وصول الشيوعى الشاب ليختبئ فوق السطح من المطاردة البوليسية. تدخل غرفته، وتلقى التحية، ثم تجلس متربعة فوق السرير: «قميص النوم البمبى المشغول تترجرج تحته أثداء شرسة، طليقة، مثقلة، قليل من السمنة يكسو قوامًا كان يومًا ما ممشوقًا، الشعر المصبوغ أصفر فاتح، لكن شعيرات بيضاء تتألق فيه لتشى بالحقيقة. عينان جميلتان يحيط بهما إفريز سميك من الكحل لا مبرر له سوى الدلالة على هوية المرأة ومزاجها. أنثى حقيقية، تتعامل بخشونة عذبة، أو بالدقة بعذوبة خشنة، لكن كل حركة من حركاتها تقطر جنسًا، وإن كانت قادرة فى نفس الوقت على إقناعك بأن الأمر عادى تمامًا.. وأنها مجرد أخت أو صديقة».

امرأة أربعينية تنم ملابسها وجرأتها فى الاقتحام عن أنوثة وقوة وخبرة ومزاج حاد، والاختلاط بين العذوبة والخشونة ملمح راسخ، يمثل السمة الأهم فى شخصيتها، ذلك أن المطاف ينتهى بها إلى خندق النساء الشعبيات المتطرفات فى تحولهن المباغت من الطيبة إلى العنف ومن الشهامة والحنو إلى الصرامة والقسوة.

محطات الرحلة

سعدية، فى محطتها الأخيرة، أم وزوجة: الابنة الوحيدة لوزة، والزوج حسنى. إنه كومة مهملة من عظام: «الزمن والأفيون هبطا به إلى هذه الحال».

لم تكن بدايته على هذا النحو من التدهور بطبيعة الحال، فهو قبل الزواج شاب فحل، طويل عريض أنيق وسيم. تختاره سعدية زوجًا، وهى المسئولة عن إرهاقه وإدمانه. يجتهد قدر طاقته ليشبع نهمها بالأفيون والحشيش، وصولا إلى التآكل: «بالضبط هذه هى الكلمة «تآكل» بين أحضان زوجة شرهة غير وفية ولم تعتد أن تشبع، وبين الأفيون الذى ألزمه حائط الإدمان وامتص كل ما بقى فيه من قدرة.. وبين الورشة التى يسرقها الصبيان ناكرو الجميل منذ أن أصبح غير قادر على العمل».

فشل ذريع فى الحياة الزوجية والعمل، والمحصلة المنطقية هى تحوله إلى كم مهمل متهافت لا يحظى بشىء من احترام الزوجة والابنة، والورشة على الجانب الآخر منهوبة بمعرفة الصبيان. عندما يحكى للراوى الشاب بعض فصول قصته، يكشف عن جذور الأزمة التى تفضى إلى نهاية تعيسة يتعايش معها مذعنًا مستسلمًا مسلوب الإرادة: «كل بنات كلوت بك تهاوين تحت أقدامه. سعدية خطفته. امتصته وحدها. ضحكت عليه. ناعمة كانت، بل ساحرة، عملت له عملًا. نامت تحت رجليه. غسلت له أقدامه بماء الورد..» اتجوزنى يا حسنى أتوب وأعيش خدامتك طول العمر». تزوجها وأنبتا معًا لوزة.. نضب المعين وهى تزداد شبابًا. كان الأفيون ضرورة. كان يحصن نفسه به وبالمقويات ليرضيها. أدرك أخيرًا أن معركته خاسرة. تركها وتعلق بالأفيون».

تتزوج سعدية شابًا واعدًا، وتنجح فى الانتصار على المتنافسات معها، وبزيجتها هذه تتخلص من العمل فى ساحة الدعارة، لكنها تحتفظ بالنهم الجنسى غير المحدود، ويعجز الزوج عن مسايرتها وإشباعها. يتحول إلى حطام، ويفلت منه الزمام فتهيمن الزوجة القوية وتتحكم. اعتمادها الأكبر فى إدارة شئون حياتها على العلاقة المتينة التى تجمعها مع صول قسم باب الشعرية: «الذى يدبر لها كل أمورها مع الحكومة».

صداقة سعدية مع الراوى الشاب، الذى تكبره كثيرًا، تتيح لها فرصة أن تحكى عن تاريخها المثير فى عالم الدعارة، وتكشف عن الكثير من ملامحه الموضوعية، التى تتجاوز تجربتها الذاتية ولا تنفصل عنها: «وتمطى بنا الحديث إلى شباب سعدية، وكيف تبعثر فى أروقة مملكة كلوت بك. يومها الأول فى «الوعد».. كيف ذهبت برجليها؟ الجنود الإنجليز وكيف تخصصت فيهم؟

- كنت أميز بين الإنجليزى والأسترالى والنيوزلندى.. وكل واحد له سعر.

- وعندما تسألها لوزة إزاي أحاول أن أتفلسف لمجرد المشاركة فى حديث صعب المسالك؟

- الأسترالى طبعًا يتعرف من قوته.

- أبدًا.. كلهم أخيب من بعض. كنت بأعرفهم من ريحتهم، ويتعرج الحديث.. وتكبر سوسو (اسم سعدية فى الوعد). تدخر بعض المال سرًا من خلف ظهر المعلمة. لكن للمعلمة هيبة لا يتجاوزها أحد. ولا تتنفس سوسو إلا عندما تموت معلمتها فتشترى بيتًا من بابه وتتخصص فى مهنة غريبة.. التدريب».

لا تجد سعدية حرجًا فى الحديث عن مهنتها القديمة فى حضور ابنتها لوزة، ما يعنى بالضرورة أنها تعرف تاريخ أمها. اللافت فى حديث سعدية هو كلمة «الوعد»، المصطلح الشائع فى عالم العاهرات للتعبير عن إيمان كامن بقدرية المصير الذى لا مهرب منه ولا نجاة، فمن الذى يملك أن يحارب القدر ويتحداه؟! النضج فى المهنة يرتقى بها إلى تخصص «التدريب»، وهو تخصص مهم تحكى عنه العاهرة المتقاعدة بلغة جادة تؤكد خطورة المهمة التى تعنى «ترويض» البنات والانتقال بهن إلى مرحلة الرضا والاستسلام والرضوخ المطلق: «تحويل الأنثى إلى بائعة حب. ببساطة نادرة كانت سعدية تلقى أمامنا بخبرة التكوين الجنسى للمرأة وبخبرات المعالجة النفسية الصحيحة لهذا التكوين. الفرق بين فتاة وفتاة. والمشتركات بين كل الفتيات. أستاذة بحق تلقى محاضرة بالغة القيمة. ولكن بأسلوب خاص وعارٍ تمامًا. الفتاة قد تأتى برجليها. وقد تأتى مخطوفة. قد تكون صاحبة تجربة وقد تكون خامًا. لكنها فى كلتا الحالتين تحتاج قدرًا كبيرًا من الإلحاح والمحايلة. وأحيانًا بالعنف. البنت تريد أن تقنع نفسها بأنها لم تقبل ذلك باختيارها حتى ولو كانت تتمناه. وتتلخص خبرة سوسو فى كسر الحاجز النفسى ولو بالقوة».

ترويض الفتيات حديثات العهد بالمهنة، علم تتكامل أبعاده عبر الخبرة المتراكمة، وتنهض أسسه على إدراك عميق لطبيعة الاضطراب النفسى الذى يصاحب الواقفات على عتبات الاحتراف والانخراط فى حياة مغايرة للمألوف المعتاد فى حيواتهن السابقة. تسترسل سعدية فى الحكايات المستمدة من ذكريات العمل، وتسهب فى شرح المنهج المتبع للسيطرة والتحكم. الأمر يتطلب خطوات محسوبة بدقة، وتصل إلى النجاح دائمًا: «صدقنى أنا شفت كتير. كل الأصناف. مافيش واحدة صمدت أكثر من أسبوع أو عشرة أيام. مجرد إحساسها إنها غير مطلوبة يشعل فيها نارين.. نار الغيرة ونار أخرى أشد.. الرغبة. وساعتها تتمحك. تبدى أنه ليس لديها مانع. أزجرها وأرفض. أنبه على الجميع أمامها بألا يراها أى رجل. يوم آخر أو يومان وتطلب هى بنفسها. أرفض. تتوسل. أرفض. تنهار تمامًا. أضربها. أمنعها ثم أتنازل وأسمح لها. ساعتها تكون قد أصبحت امرأة أخرى تمامًا. صالحة لكى تدخل مملكة الوعد».

لا شيء بعد عملية التدريب إلا الاستسلام غير المشروط، والخلاصة التى تصل إليها سعدية أقرب إلى القانون العام الذى تقدمه فى صياغة أقرب إلى الرؤية الفلسفية الشاملة: «الواحدة بعدما تتعود على «الوعد» لا يمكن تسلاه. تحلم بالجواز والهرب لكنها مجرد أحلام.. لقد قيَّد الجنس المتواصل خطواتها بسلسلة أقوى من الحديد».

لا تخضع سعدية للقانون الذى تفلسفه وتنَّظر له، فهى تتزوج وتنجب وتتخذ مسارًا مختلفًا، لكنها لا تنجو من مؤثرات السنوات الطويلة، التى تنفقها فى عالم الدعارة، ويتجسد ذلك فى لغتها الصريحة وولعها بالحكايات والنكات الجنسية البذيئة، فضلًا عن سلوكها المتحرر الذى لا يلتزم بالقواعد الأخلاقية التقليدية، ولا شك أن خبرتها العميقة هى التى تتيح لها أن تكشف عن أكاذيب الفحولة الوهمية، التى يدعيها الجار «البرنس» مع زوجه. يتوهم الراوى أنه يشبع الزوجة، ولا يترك فرصة لأى منافس: «فانفلتت واحدة من ضحكات سعدية النادرة دوت فى الغرفة ليعقبها صوت بذىء كررته أكثر من مرة، وهى تترنم بما يشبه الغناء، وأقسمت قسمًا أكثر بذاءة بأن البرنس مصباح بلا زيت، وأن ما يجرى كل صباح هو تمثيلية يفرضها البرنس على زوجته ليوهم الجميع بأن زوجته عينها مليانة. وأبديت تشككى بصورة أغضبت سعدية، وأقسمت قسمها البذىء مرة أخرى أن تستدعى سونة لتسألها أمامي».

صادقة بعيدة النظر فيما تؤكده من ادعاء الرجل لفحولة لا وجود لها، وخبرة السنين تمنحها القدرة على التمييز بلا عناء بين الصدق والكذب فى عالم الجنس.


بنت البلد

على الرغم من تاريخها القريب الحافل فى عالم الدعارة، وحاضرها الذى يحتفظ بالكثير من سمات العالم القديم، يظهر جانب إيجابى مهم فى شخصية سعدية، يجعلها واحدة من «بنات البلد» بكل ما فى ذلك المصطلح من معطيات الشهامة والعطاء. تنظر إلى الشاب الشيوعى الهارب من المطاردة كأنه الابن أو الأخ الأصغر، وتحنو عليه وتحتويه وتعالج همومه وأزماته الروحية بالأسلوب الوحيد الذى تعرفه وتتقنه؛ الجسد.

تتفاعل سعدية مع أزمة من يسمى نفسه «مدحت»، وتمنحه الدفء والحب والشعور بالأمان والثقة. تقود العلاقة الجنسية، التى تجمعهما فى حنكة ومهارة لا يملك الشاب منها شيئًا لحداثة سنه ومحدودية تجاربه: «كل ما فى العالم من حنان يتبلور فى ارتعاشة جسدين معا. كأننى أحلم. حاولت أن أفتح فمى لأقول لها إنها ممتعة وأننى أحبها. هذه هى الطقوس التى اعتادها الرجال. أقفلت فمى بلمسة من أصابعها. أى كلام سيفسد النغم المحلق. أرخت وجهها على الوسادة. لا بد أن أفعل شيئًا. ضممتها بعنف إلى صدرى. تجاوبت برفق. كانت عيونها تدمع. أمام دموعها انسابت إرادتى. واستراح رأسى تمامًا فوق صدرها. عيناها قالتا كل شيء».

مثل هذه العلاقة غير مدفوعة الثمن، لا تنبع من حرمان جنسى تعانيه سعدية، ولا ترتبط برغبة فى المغامرة والاستمتاع، بل هى تعبير عن نوع خاص من الحب، واستجابة لما تستشعره من معاناة يكابدها الشاب وتفوق قدرته على الاحتمال. تدعمه بطريقتها الناجحة الناجعة، وبعد سنوات من اللقاء الأول تعترف له أنها كانت تعرف كل شيء عن هروبه: «صعبت علىَّ. مش عارفة إزاى أخذتك فى حضنى. لماذا الدموع؟.. وده سؤال.. لأنك الرجل الوحيد اللى حسيت إنه مش بتاعى.. وإنه حيتخطف مني».

حس إنسانى صادق أصيل، وتعاطف نبيل جدير بالكثير من التأمل والإعجاب. ليس حبًا تقليديًا كالشائع المنتشر المألوف فى قصص الحب بين الأنداد، ولا شأن لإعجابها هذا بالعمل السياسى والانتماء الشيوعى. الأمر إنسانى خالص، ينبع من الإعجاب بالشاب والتعاطف مع الحالة، التى يعيشها وتستدعى الاقتراب منه وتقديم الدعم. بالمنهج نفسه تشترك مع ابنتها لوزة فى تأديب سائق المخابرات «الأستاذ» محمد، وتدبر له فضيحة مدوية تقود إلى الإيقاع به متلبسًا عاريًا واقتياده إلى قسم الشرطة، عاجزًا عن استغلال نفوذه الذى يؤذى به المسالمين من سكان السطح.

عندما يشتد الحصار ويضيق الخناق على الشيوعى الهارب، لا تتورع سعدية عن التطوع باقتراح تدبير بديل آمن: «بنت أختى ساكنة فى باب البحر جوزها فى الجيش ممكن تقعد عندها زى ما أنت عايز»، كما تسهم مع سكان السطح فى جمع مبلغ من المال لتدعيم الشاب عندما تقرر مغادرته بلا عودة. لا أحد من هؤلاء يعرف شيئًا عن الشيوعية أو يتعاطف معها، لكنه التقدير للشاب الذى يتعايشون معه، ويجدون فيه ما يستحق الإعجاب. بعد سنوات من نهاية مغامرة مدحت، والاستغراق فى حياته الجديدة، تحتفظ سعدية بحبها ذى الخصوصية المتفردة، بل إنها تشترى كتابه الأول عندما تلمح صورته عليه، وهى التى تجهل القراءة والكتابة: «دفعت فيه جنيهًا كاملًا، وهى تسب، لم تزل تسب حتى الآن، فلا أحد يقبل أن يقرأ لها فيه». سعدية «بنت بلد»، شعبية عفوية، والدعارة فصل فى كتاب حياتها. تجمع بين الجرأة والقسوة، الطيبة والجفاف، الحب والعطاء بلا ضفاف والانتقام الماكر العنيف من المسيئين المتغطرسين، الذين يستحقون الكراهية والعقاب الرادع.